شن وكلاء إيران العديد من الهجمات على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا منذ اندلاع الحرب في غزة في 7 أكتوبر 2023، وكان آخرها الضربات على القاعدة الأمريكية في الشمال الشرقي للأردن، وبالقرب من منطقة التنف السورية عند الحدود السورية- الأردنية والعراقية، في هجوم بطائرة بدون طيار في 28 يناير 2024، بما رتب مقتل ثلاثة جنود أمريكيين، وإصابة نحو 40 وهو الهجوم الذي تبنته “كتائب حزب الله” العراقية.
فكان الرد الأمريكي بشن مجموعة من الضربات من خلال استخدام قاذفات بعيدة المدى من طراز B-1، على العراق وسوريا أمس يوم 2 فبراير 2024 تجاه 85 هدفًا، وتوالت الاستهدافات الجوية الأمريكية على مواقع بطول 130 كيلومترا من مدينة دير الزور وصولًا للحدود السورية -العراقية مرورًا بالميادين، وخلال تلك الهجمات استهدفت 28 موقعًا للمليشيات الإيرانية، وقتل نحو 29 من هذه المليشيات وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان، وبحسب التقديرات العراقية قتل نحو 16 شخصًا وأصيب 25 آخرين.
تضمن نطاق المنشآت التي تم استهدافها عمليات القيادة، والسيطرة، ومراكز الاستخبارات، والصواريخ والمرافق اللوجستية الخاصة بتوريد الأسلحة والذخيرة للمليشيات العراقية التي تهاجم القوات الأمريكية، وقوات التحالف بحسب بيان القيادة المركزية الأمريكية، وبالرغم من الهجمات المتكررة التي تشنها المليشيات الموالية لإيران ضد القواعد الأمريكية منذ اندلاع الحرب في غزة، إلا أن الهجوم على البرج 22 كان تحولًا نوعيًا نظرًا لامتداده إلى الحدود الأردنية بعيدًا عن الساحات التقليدية في العراق وسوريا، وقد تبنت كتائب حزب الله العراقية الهجمات على القاعدة الأمريكية البرج “22” على الحدود الأردنية- السورية في 28 يناير الماضي، بما فاقم حجم الضغوط على الرئيس الأمريكي “جو بايدن” نتيجة الهجوم المستمر على القواعد الأمريكية، حيث وجه الرئيس السابق والمرشح في الانتخابات الأمريكية القادمة “ترامب” انتقادات للسياسة التي تتبعها إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، نتيجة مقتل نحو ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة آخرين.
لذلك كان الرد الأمريكي باستهداف القيادي “أبو باقر الساعدي” في 7 فبراير الجاري، وهو مسئول الدعم اللوجستي لكتائب حزب الله العراقية، ونقل الأسلحة للمليشيات في الخارج، وتعده واشنطن المسئول عن التخطيط المباشر للهجمات على القوات الأمريكية، خاصة الضربات التي وجهت إلى قاعدتها على الحدود الأردنية-السورية.
الموقف الأمريكي
يُفسر الرد الأمريكي تجاه المليشيات العراقية بالحذر ما بين تجنب التصعيد مع إيران، وما بين استمرار المحادثات الأمريكية مع العراق، بخصوص الانسحاب الأمريكي وإنهاء مهمة قوات التحالف الدولي، خاصة أن أي تصعيد أمريكي تجاه طهران أو وكلائها، يؤجج الضغط العراقي الداخلي للمطالبة بخروج القوات الأمريكية، لا سيما أن استمرار الوجود الأمريكي والهجمات المتبادلة بينهما يمس السيادة العراقية، خاصة أن بغداد في وضع ضاغط كونها ساحة للصراع ما بين الأطراف المختلفة.
لكن نتيجة تزايد حجم الضغوط على الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة بايدن، في ظل متغيرات تتعلق بالسياق الانتخابي الأمريكي، وضرورة ردع المليشيات التابعة لإيران، بما قاد إلى توجيه ضربة للانتقام من الهجوم المستمر الذي تتعرض له القواعد الأمريكية في سياق الحرب في غزة، والتأكيد على الردع العسكري الأمريكي، فقد تعرضت القواعد العسكرية الأمريكية لنحو 166 هجومًا بنحو 67 هجومًا في العراق، و98 في سوريا، وآخر هذه الضربات على “البرج 22″، ومن ثم كان الرد الأمريكي بقتل القيادي في كتائب حزب الله العراقية “أبو باقر الساعدي” في 7 فبراير الجاري، بهدف طمأنة الداخل الأمريكي بعدم المساس بالقوات الأمريكية، ومواجهة أي اعتداءات عليها.
ويتضح من استهداف الضربات الأمريكية لـ “أبو باقر الساعدي” بعث رسائل بالقدرة على توجيه مزيد من الضربات العسكرية في الفترة القادمة وضد أهداف قوية، في حال استمرار هجمات المليشيات التابعة لإيران على القواعد الأمريكية، ومن ناحية ثانية تحقيق الرئيس “بايدن” مكاسب انتخابية، وقد أثنى الديمقراطيون على العملية العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة ضد العراق وسوريا، ومنهم السيناتور “جاك ريد” في مجلس الشيوخ معتبرًا أن هذه الضربات ردًا قويًا، وبالرغم من ذلك لا يزال الحرص الأمريكي على عدم خروج الرد عن نطاق قواعد الاشتباك المعروفة، وهو ما أكدته تصريحات المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي “جون كيري” بأن واشنطن لا تريد حربًا مع إيران”.
من ناحية أخرى، إن استمرار التصعيد من جانب وكلاء إيران في سياق الحرب في غزة، يعني توسع الحرب على المستوى الإقليمي، وهو أمر لا ترغب واشنطن به، خاصة أن التصعيد يُقوض مساعي وقف إطلاق النار في غزة، ويبدو من المواقع المستهدفة في إطار الهجمات الأمريكية على العراق وسوريا، بأن الهدف هو إلحاق الضرر والخسائر في هذه المواقع بهدف تعطيل هجمات وكلاء إيران ضد القوات الأمريكية ضمانًا لعدم توسيع نطاق التصعيد، خاصة أن هناك ساحات أخرى مفتوحة منها؛ البحر الأحمر وضربات الحوثيين هناك.
في سياق متصل، لا تزال الولايات المتحدة حريصة على تجنب التصعيد، بما قد يقود إلى حرب شاملة لا ترغب بها في الشرق الأوسط، حرصًا على عدم مواجهة أي ضغوط في الوقت الحالي نتيجة المحادثات المستمرة لإنهاء مهمة القوات الأمريكية في العراق، حتى لا تؤدي شن عملية أمريكية كبيرة إلى تعقيد المحادثات أو إخراجها عن مسارها، لا سيما أن هناك ضغطًا داخليًا في العراق للتوصل إلى جدول محدد لخروج القوات الأمريكية، وتسريع وتيرة انسحابها، وعدم ترك العراق ساحة معركة بين الأطراف الخارجية، وقد بدأت بالفعل مباحثات أمريكية- عراقية عبر اللجنة العسكرية العليا الأمريكية- العراقية لمناقشة مهام إنهاء التحالف الدولي في العراق، والتي بدأت جلساتها في 27 يناير الماضي.
وفي هذا السياق، يبدو أن الولايات المتحدة في هذه المحادثات، حذرة من عدم تكرار سناريو أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي هناك في 31 أغسطس 2021، خاصة أن الحكومة العراقية غير مؤهلة للسيطرة على المليشيات الموالية لإيران في العراق، ولا يزال انتشار الحشد الشعبي والسلاح بيد المليشيات العراقية ملفًا مهمًا وضروريًا مطروحًا في سياق عملية الانسحاب.
الحكومة العراقية والمليشيات
تشير الضربة التي شنتها الولايات المتحدة للانتقام من الهجوم الذي شنته المليشيات العراقية على القاعدة الأمريكية “البرج 22” واستهداف واشنطن لقائد كتائب حزب الله “وسام محمد صابر” الملقب بـ “أبو باقر الساعدي” في منطقة المشتل بالعاصمة بغداد في 7 فبراير، إلى استمرار سناريو الهجمات المتبادلة بين القوات الأمريكية والمليشيات العراقية، بعد توعد حركة النجباء العراقية، وكتائب سيد الشهداء بالانتقام ردًا على اغتيال “الساعدي” وعدم تعليق هجماتها ضد الأهداف الأمريكية وردها على أي هجوم، وهو ما يضع الحكومة العراقية برئاسة “محمد شياع السوداني في موقف محرج ما بين عدم القدرة على السيطرة على حركة المليشيات العراقية، وما بين ضرورة الانسحاب الأمريكي وعدم المساس بالسيادة العراقية، واحتمالية وضع الحكومة أمام مطالبات وضغوط داخلية برحيلها في حال استمرار عدم الاستقرار الأمني، وعدم تحقيق تقدم في المباحثات مع واشنطن بخصوص الانسحاب الأمريكي، خاصة أن هناك عريضة موقعة من 100 نائب عراقي شيعي في جلسة البرلمان العراقي المنعقدة في 10 فبراير تتعلق بضرورة خروج القوات الأمريكية من العراق.
وبالرغم من الضغط الداخلي على حكومة السوداني لخروج الولايات المتحدة من العراق، إلا أن من الخيارات المطروحة هي عدم ترك العراق نهائيًا، واللجوء إلى خفض عدد قواتها أو إعادة نشرها في إقليم كردستان، وتظل حسابات الحكومة العراقية محكومة بعدة اعتبارات منها وضع المليشيات وقدرة الحكومة على ضبط دورها، ومواجهة أي اضطرابات أمنية فيما بعد الانسحاب، بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي ووجود أزمة ارتفاع سعر الدولار في السوق العراقية، والقيود التي تفرضها واشنطن على تحويل الدولار إلى العراق، أو حظر البنوك العراقية المرتبطة بالفصائل من أجل الضغط عليها لعدم وصولها إلى الدولار، بما قد يُعمق الأزمة الاقتصادية في ظل محاولات الحكومة لتحقيق الاستقرار في الدولة، وتطلعها للدخول في مشروعات تنموية إقليمية على غرار مشروع طريق التنمية.
الموقف الإيراني
عبرت تصريحات الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي في سياق الهجمات المتبادلة والحرب في غزة ” عن عدم بدء الحرب، وإذا أرادت أي دولة الاعتداء، فإن إيران سترد”، لكن طهران لم تتحرك للتصعيد خارج النطاق المحكوم، بالرغم من اغتيال عدد من قادة لهم ثقلهم في كتائب حزب الله العراقية مثل “أبو باقر الساعدي”، ومن قبلها الهجمات المتبادلة بين المليشيات العراقية على القواعد الأمريكية، والرد الأمريكي باستهداف قيادات في حركة النجباء العراقية مثل مقتل “مشتاق جواد كاظم الجواري”، وكذلك استهداف الولايات المتحدة لمقرات عسكرية ومخازن للأسلحة في مناطق جرف الصخر جنوب بغداد.
يبدو أن إيران تمارس تحركات منضبطة باستخدام أوراق الوكلاء في التوقيت المناسب، وفي الوقت ذاته تحرص على عدم عرقلة الأمور مع الولايات المتحدة في ملفات أخرى كالبرنامج النووي الإيراني، والعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، لذلك يتضح من الدور الإيراني وتواصلها مع المليشيات العراقية، أن هناك ضغوطًا إيرانية على هذه المليشيات بعدم ممارسة مزيد من التصعيد، واتضح ذلك في إعلان كتائب حزب الله تعليق هجماتها ضد الأهداف الأمريكية، عقب الهجمات التي شنتها المليشيات على القاعدة الأمريكية “البرج 22”.
من ناحية أخرى تستطيع طهران في أي وقت توظيف وكلائها لممارسة ضغط على الولايات المتحدة في سياق التوازنات والترتيبات الإقليمية المستقبلية وتطورات الأحداث في غزة، وربما من بين أهداف إيرانية أخرى ممارسة ضغوط على واشنطن للانسحاب من المنطقة عبر استثمار إيران وكلائها والدفع بسناريو الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق وكذلك سوريا، وجدير بالإشارة إلى وجود إجماع أمريكي داخلي بأن تتضمن سياسات الولايات المتحدة خطوات تمهيدية للانسحاب من سوريا، مع ترك بيئة ملائمة للاستقرار فيما بعد الانسحاب.
ختامًا وبالرغم من تنفيذ المليشيات العراقية للاستراتيجية الإيرانية، إلا أن هناك رغبة ذاتية لتعزيز نفوذها ودورها بين وكلاء إيران في المنطقة، وتوظيف هذه الهجمات في سياق دعم حماس في غزة، وبالرغم من الضربات المستمرة والمتبادلة، إلا أنها لم تتجاوز نطاق الاشتباك المعهود بين الأطراف المختلفة، وربما تضغط طهران على وكلائها بعدم التصعيد أو الرد خلال الهجمات المستقبلية على مقتل الساعدي، لكن من غير المرجح إنهاء هذه الهجمات خاصة أن ذلك يعزز النفوذ الإيراني وامتلاكها مزيدًا من الأوراق بما يُمكنها توظيفها في الوقت المناسب لكسب مزايا ونقاط في قضايا أخرى سواء الحرب في غزة أو الملف النووي الإيراني من خلال الضغط عبر وكلائها.