في العقود الأخيرة، أصبحت الهند واحدة من القوى الرائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات على مستوى العالم. تسارعت وتيرة التقدم التكنولوجي في البلاد، وأصبحت الهند وجهة مفضلة للعديد من الشركات العالمية في مجال البرمجة وتطوير البرمجيات. كذلك، يعد العنصر البشري في الهند من أكثر العناصر انتشارًا في سوق العمل الخاص بمجال تكنولوجيا المعلومات على مستوى العالم، حيث لا تكاد تخلو أي مؤسسة من كبريات تلك الصناعة من موظفين يحملون الجنسية الهندية.
يعود تفوق الهند في هذا المجال إلى عدة أسباب تتنوع بين: البنية التحتية، التعليم، والابتكار، وغيرها.
في هذا المقال، نستعرض بعض الأسباب التي تفسر تفوق الهند في تكنولوجيا المعلومات.
البنية التحتية
تعتبر البنية التحتية الرقمية لأي دولة أمرًا أساسيًا لتطوير صناعة تكنولوجيا المعلومات، إذ تعتمد تلك الصناعة على جودة شبكة الإنترنت بشكل رئيسي وضمان استقرارها وسرعتها.
في الهند، شهدت البنية التحتية التكنولوجية تحسينات كبيرة في السنوات الأخيرة من خلال توسيع شبكات الإنترنت، والحرص على زيادة سعة تداول البيانات خلالها، وتعزيز جودة الاتصالات في ربوع البلاد، وتغطية المناطق النائية. حاليًا، يوجد أكثر من 900 مليون مستخدم إنترنت في الهند، مما يجعلها ثاني أكبر دولة من حيث عدد المستخدمين بعد الصين. كان إطلاق مشروع “الهند الرقمية” في عام 2015 أحد الأسباب الرئيسية لاعتماد الإنترنت السريع في البلاد. واستهدف هذا المشروع جعل الخدمات الحكومية متاحة رقميًا للمواطنين، وإنشاء البنية التحتية اللازمة مع توافر شبكة الجيل الرابع بتكلفة منخفضة، ثم الجيل الخامس لاحقًا. وقد أسهم هذا التطوير في خلق بيئة مناسبة لتنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات.
التعليم
لعبت السياسات التعليمية الهندية دورًا حاسمًا في بناء قاعدة مهنية للشباب الهندي في مجال تكنولوجيا المعلومات. حيث تمتلك الهند نظامًا تعليميًا قويًا يركز على مواكبة أحدث التقنيات وتطورات علم الحوسبة. الجامعات والمعاهد التقنية في الهند تقدم برامج تعليمية عالية الجودة في مجالات مثل علوم الحاسوب وهندسة البرمجيات، مما يمكن الطلاب من اكتساب المهارات اللازمة للدخول في صناعة تكنولوجيا المعلومات. وقد دعمت حكومة الهند 23 معهدًا متخصصًا في تدريس تكنولوجيا المعلومات بما يوازي 880 مليون دولار في العام الدراسي 2016 / 2017 بحيث استفاد من هذا الدعم نحو 11 مليون طالب.
طبقًا لموقع “ستاتيستا” الإحصائي، من المتوقع أن يصل حجم الإنفاق على التعليم التكنولوجي في الهند إلى ما يقارب 10 مليارات دولار بحلول عام 2025.
توافر القوة العاملة
تضم الهند إحدى أكثر القوى العاملة ضخامة وتنوعًا ومرونة في العالم. تتيح القاعدة الضخمة من العمال المؤهلين لسوق العمل تنافسية كبيرة، وبالتالي تكلفة أقل. كما اشتهر العاملون بمرونة التكيف مع التغيرات والتطورات في أنظمة العمل وطرق إدارة المشروعات، بالإضافة إلى دعمهم بعضهم بعضًا والاستفادة من خبرات سابقيهم ممن حصلوا على فرص عمل ومناصب هامة في المؤسسات الكبرى وشركات البرمجيات حول العالم. إحدى طرق الدعم والتكاتف بين أبناء الهند، هي حرصهم على نشر محتوى تعليمي وتدريبي خاص بتكنولوجيا المعلومات من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. في تقرير أعدته شبكة سي إن بي سي الأمريكية في سبتمبر من العام الماضي، صرح المدير الإقليمي لشركة “يوتيوب” بأن عدد ساعات صانعي المحتوى في الهند قد زاد بنحو 40% في السنوات الثلاث الماضية، متضمنة ما يقرب من 77% من هذا المحتوى تحت تصنيف التعليم والتدريب. وبالتالي، قفزت أرباح صانعي المحتوى في الهند إلى ما يزيد على 16 مليار روبية في العام الماضي مقارنة بنحو 9 مليارات روبية فقط منذ ثلاث سنوات، مع توقع بأن يزيد على 20 مليار روبية في العام الحالي، طبقًا لموقع “ستاتيستا” الإحصائي (الرسم البياني).
تطور عائدات صناعة المحتوى على الإنترنت في الهند – بالمليار روبية (1 دولار = 83 روبية)
المصدر: موقع ستاتيستا الإحصائي.
اللغة الإنجليزية
يُعد اتقان اللغة الإنجليزية من قبل الكثير من الهنود ميزة إضافية. اللغة الإنجليزية هي لغة العمل الرئيسية في صناعة تكنولوجيا المعلومات، ولهذا فإن قوة العمل الهندية التي تجيد هذه اللغة تجعل التفاعل والتعاون مع العملاء الدوليين أكثر فاعلية.
الابتكار وريادة الأعمال
شهدت الهند نموًا ملحوظًا في مجال ريادة الأعمال والابتكار. يتمتع الشباب في الهند بحماسة وإبداع يساهم في تطوير حلول فريدة ومبتكرة في مجال تكنولوجيا المعلومات. تشجيع الحكومة على برامج الابتكار ودعم الشركات الناشئة يلعبان دورًا هامًا في هذا السياق.
قامت الهند بتبني سلسلة من التدابير والمبادرات لدعم وتعزيز نمو وازدهار الشركات الناشئة في مجال تكنولوجيا المعلومات.
ومن بين الإجراءات التي اتخذتها الهند تشمل:
- بيئة تشريعية وتنظيمية مشجّعة، حيث تم تبسيط إجراءات التأسيس والتشغيل للشركات الناشئة من خلال توفير بيئة تشريعية وتنظيمية مشجعة. وذلك يتضمن تسهيلات في إصدار التراخيص وتقليل العقبات البيروقراطية.
- المساحات الابتكارية والمراكز التكنولوجية، حيث تم إنشاء مساحات الابتكار ومراكز تكنولوجيا المعلومات والعلوم التي توفر بيئة حاضنة للشركات الناشئة لتبادل الأفكار وتطوير مشاريعها.
- الدعم المالي وتقديم التمويل ورأس المال اللازم للشركات الناشئة من خلال المؤسسات المالية وبرامج الدعم الحكومية.
- برامج التسريع Acceleration Programs التي تقدم توجيهًا ودعمًا فنيًا للشركات الناشئة، بما في ذلك توفير فرص للتواصل مع مستثمرين وخبراء صناعة.
- تقديم برامج تدريب وتأهيل للرياديين والموظفين العاملين في الشركات الناشئة لتعزيز مهاراتهم وفهمهم لأفضل الممارسات في مجال التكنولوجيا.
هذه الإجراءات والمبادرات تُعزز من مواهب وإمكانيات الشركات الناشئة في مجال تكنولوجيا المعلومات، وتُسهم في إطلاق وتعزيز نموها.
الاستثمارات الأجنبية المباشرة
تجذب الهند الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل كبير في قطاع تكنولوجيا المعلومات. تعتبر الشركات العالمية أن الهند هي واحدة من أفضل الأماكن لاستثمار رؤوس الأموال، وهذا يسهم في تعزيز التقنيات وتطوير الصناعة في البلاد. طبقًا لدراسة أجراها موقع Mordor Intelligence، تبلغ قيمة سوق تكنولوجيا المعلومات (تقديم حلول ذكية وتطبيقات) وخدمات البيانات الكبيرة Big Data في الهند 2.17 مليار دولار أمريكي في العام الماضي، ومن المتوقع أن تصل إلى 3.38 مليار دولار أمريكي خلال السنوات الأربع المقبلة، مسجلة معدل نمو سنوي مركب يبلغ حوالي 7.66٪.
في الوقت الحالي، تقوم غالبية الشركات العالمية بالاعتماد على خدمات Outsourcing أو التعهيد (استخدام واستئجار كفاءات وقوى وأفراد ووسائل وخدمات في مجال تكنولوجيا المعلومات) من الهند، والتي تمثل حوالي 55% من سوق مصادر خدمات التعهيد العالمية، والتي قدرت قيمتها بحوالي 200-250 مليار دولار أمريكي في 2019-2020 طبقًا لمجلة “دبلوماتيست”.
لقد نما حجم سوق صناعة تكنولوجيا المعلومات بمكوناته المختلفة بمعدلات سريعة من حوالي 118 مليار دولار أمريكي إلى 245 مليار دولار أمريكي خلال العقد الأخير (الرسم البياني). ومن المتوقع أن تنمو الإيرادات بشكل أكبر في السنوات المقبلة بمعدل نمو متسارع، وقد تصل إلى 350 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2025 طبقًا لتقرير نشره مجلس ترويج التجارة الهندي TPCI.
تطور حجم سوق صناعة تكنولوجيا المعلومات في الهند (مليار دولار)

المصدر: مجلس ترويج التجارة الهندي.
اهتمام الهند بتوفير كل الدعم لصناعة تكنولوجيا المعلومات يأتي مع تزايد التأثير الإيجابي لتلك الصناعة الهامة على الاقتصاد الهندي. نرى ذلك من خلال تنامي نسبة إسهام القطاع في الناتج المحلي الإجمالي GDP خلال الفترة من 2009 حتى 2023، كما يوضح الرسم البياني 2 الذي نشره موقع “ستاتيستا” الإحصائي.
تطور نسبة إسهام قطاع تكنولوجيا المعلومات في الناتج المحلي الإجمالي للهند

المصدر: موقع ستاتيستا الإحصائي.
وإذا كانت الهند تجمع بين البنية التحتية الرقمية، والتعليم القوي، والقوة العاملة المؤهلة، واللغة الإنجليزية الممتازة، وروح الابتكار، والاستثمارات الأجنبية المباشرة، مما يجعلها واحدة من القوى الرائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات؛ فإنها أيضًا تواجه بعض التحديات، مثل:
- تحدي تأمين المعلومات، حيث تواجه الشركات والمؤسسات في الهند تحديات كبيرة في مجال أمن المعلومات، حيث تزداد التهديدات السيبرانية والاختراقات بشكل متزايد.
- بعض التحديات في البنية التحتية، مثل ضعف الشبكة الكهربائية، وهو العنصر المؤثر على شبكة الإنترنت، والقادر بالتالي على تقييد تطوير تكنولوجيا المعلومات.
- زيادة استهلاك الطاقة وتأثير الصناعة التكنولوجية على البيئة قد تشكل تحديات بيئية تتطلب حلولًا مستدامة.
- التغيرات الاقتصادية والسياسية العالمية، مثل الحروب والأزمات المالية، التي يمكنها أن تؤثر على صناعة تكنولوجيا المعلومات في الهند.
تتطلب تحديات مثل هذه جهودًا مستمرة وتعاونًا بين الحكومة والقطاع الخاص والمؤسسات التعليمية لتحقيق تطور مستدام في قطاع تكنولوجيا المعلومات في الهند، وهي نفس الأطراف الثلاثة التي يمكن للتعاون بينها أن يحقق نهضة تكنولوجية في أي بلد آخر يريد الاستفادة من التجربة الهندية.