إن كانت المرحلتين الأولى والثانية من التطهير العرقى الذى قامت به القوات والعصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين، تميزتا بالعنف والشراسة، والتركيز على إرهاب السكان الأصليين للقرى والبلدات كى يغادروا أراضيهم وهلعا من الأجواء العامة التى سادت من حولهم وقرئت من جانبهم بشكل خاطئ باعتبارها، حالة استثنائية سرعان ما ستزول آثارها ليعودوا بعدها. فإن المرحلتين الثالثة والرابعة تميزتا بطابع مغاير؛ فقد انصب فيهما المخطط الصهيونى بجميع الوسائل إلى فرض أمر واقع، وباتت الجهود اليهودية جميعها تسير نحو تثبيت هذا الواقع وخلق ضمانات استدامته.
المرحلة الثالثة من مراحل الجريمة الكبرى لاقتلاع السكان الفلسطينيين من أراضيهم، جرت وفى الخلفية منها الحرب العربية الإسرائيلية، تزامنا مع إعلان رسمى بقيام دولة إسرائيل مايو 1948. اتسم أداء الجيوش والسرايا العربية فى مراحل الحرب الأولى بارتباك تسبب فيه عدم وضوح الرؤية، والغياب الفادح للتنسيق بين المهام المبعثرة التى حققت فى البعض منها نجاحات كان يمكنها أن تنقذ الوضع، لكن سرعان ما تبخرت فى ظل افتقادها خطة شاملة ومهام محددة ومنسقة، يمكنها أن تقطع الطريق على ما يجرى، فيما ساد حينها اعتقاد لدى قادة وجنود تلك الجيوش أنه عرض جانبى للحرب. وكانت تلك هى المجازر التى ترتكب بحق سكان القرى الفلسطينية من أجل تفريغها من سكانها، وانصب الجهد الميدانى الرئيسى للكيانات العسكرية اليهودية «الهاجاناه» و«الأرجون» لإنجاز تلك المهام، باعتبارها أولوية ترسخ وضعية «الدولة الإسرائيلية» من خلال أوسع عملية إحلال سكانى سيجرى البناء عليه لاحقا.
ظلت «القرى» تمثل عامل جذب رئيسيا لهذا المخطط، لما تتميز به من محدودية عدد سكانها من الفلسطينيين ومواقعها المعزولة بطبيعتها جغرافيا عن بعضها البعض، لكن يبقى الأهم بالنسبة للدولة الإسرائيلية وهى «الأراضى» التابعة لتلك القرى. فمن دون أراض يمكن ضمها بسهولة وسرعة، لن تكون هناك دولة وسيصعب حينها التشبث بالخرائط وستتعثر عمليات الزرع السكانى اليهودى المقابل. لكن الأمر بالطبع لم يكن مقصورا على القرى الفلسطينية وحدها، فاستكمال مخطط بناء دولة يحتاج بجانب ميزة الأراضى التى تمثل مكونا محوريا للمشروع، هناك «المدن» الرئيسية التى لا تقل أهمية فى دورها ورمزية وضعها داخل الكيان الجديد. لذلك شهدت الأشهر الأولى التى أعقبت الإعلان عن قيام الدولة، هجوما إسرائيليا كبيرا على مدينتى اللد والرملة فيما سمى بـ»عملية دانى»،.
فى العاشر من يوليو 1948؛ بدأ الهجوم على مدينة «اللد» التى كان يقطنها حينئذ (50 ألف نسمة) بقصف جوى واسع تبعه هجوم برى مباشر لقوات «البالماح» استهدف وسط المدينة. استمر الهجوم العسكرى 4 أيام بقوات عسكرية منظمة فى مواجهة الأهالى بأسلحتهم المحدودة، وبمجرد نفاد ذخيرتهم واضطرارهم للاستسلام ارتكبت القوات الإسرائيلية جريمة «تطهير عرقى» بحق سكان البلدة عرفت بــ«مذبحة اللد»، عندما قامت بقتل (426 ضحية) من الرجال والنساء والأطفال، ضمن عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين احتموا بمسجد المدينة الرئيسى. قاد هذا الهجوم من الجانب الإسرائيلى «إيجال آلون» وكان نائبه حينها «إسحاق رابين»، سجل بحق آلون أنه من أصدر أوامر قصف المدينة من الجو، لكن من اكتسب شهرة قيامه بتلك المذبحة فكان «موشى ديان» الذى تقدم طابورا من المدرعات و«سيارات الجيب» المحملة بالجنود المسلحين، ليفتح النيران بشكل عشوائى قاتل، تجاه كل من كان يتحرك فى المدينة بعد استسلام أهلها. واستكمالا للعملية بعد يومين من هذا التاريخ فى 12 من نفس الشهر جاء الهجوم على مدينة «الرملة»، ليجرى فيها نسخة طبق الأصل مما وقع باللد.
المدينتان الواقعتان فى منتصف الطريق بين يافا والقدس، مثلتا للجانب الإسرائيلى أهمية استراتيجية كبرى فى الاستيلاء على المدن الرئيسية، وكان هدفا لا يقل أهمية بحقهما أن تمثل وقائع وتفاصيل هذا الاستيلاء النموذج الذى سيجرى اعتماده بالنسبة للمدن الذى سيجرى احتلالها لاحقا، كما هو الحال بالنسبة لـ«دير ياسين» بالنسبة للقرى الفلسطينية. فبعد سقوط المدينتين وارتكاب المذبحة التى خلفت مئات من جثث الضحايا فى شوارع المدينتين، كما وثقها «كينيث بيلبى» مراسل جريدة «الهيرالد تريبيون» الذى دخل مدينة اللد 12 يوليو ونقل للعالم بعضا مما جرى هناك. فى اليوم التالى قامت وحدات الجيش الإسرائيلى بإلقاء القبض على جميع من بلغوا سن الرشد من الفلسطينيين، وأودعوا جميعا فى معتقلات خاصة. ومرة أخرى تجولت العربات التى تحمل الجنود المسلحين فى المدينتين، وأخذت تعلن من خلال مكبرات الصوت، التحذيرات بحظر الخروج من المنازل. لتقوم يوم 15 يوليو بإصدارأوامر نهائية، باقتياد الأهالى تحت تهديد السلاح إلى «تفريغ سكانى» شامل، حددت فيه أسماء جسور معينة طريقا للخروج مشيا على الأقدام، بلا طعام ولا مياه باتجاه الضفة الغربية لنهر الأردن. سمى هذا الخروج بـ»مسيرة الموت»، طرد فيها ما بين (50 و70 ألف نسمة) من السكان الأصليين للمدينتين الواقعتين خارج قرار التقسيم للدولة اليهودية.
نفس ذات النمط من اقتلاع السكان على هامش الحرب التى كانت تدور رحاها فى جبهات متفرقة بفلسطين، شهدت مدينة «بئر سبع» ثانية أكبر المدن الفلسطينية الجنوبية التى كان يقطنها (5 آلاف نسمة) فى أكتوبر 1948 «تطهيرا عرقيا» شاملا. «عملية يوآف» بدأت بارتكاب القوات الإسرائيلية مجزرة فى قرية «الدوايمة» الواقعة بين بئر سبع و»الخليل» راح ضحيتها (455 شخصا)، لدفع سكانها إلى الرحيل وهو ما وقع بالفعل وانتقل سكانها إلى أريحا ومن ثم إلى الأردن. ومثل ذلك أهمية استراتيجية لم تكن الجيوش العربية واعية به، فعملية يوآف ساعدت على فتح ممر برى عبر صحراء النقب لتتصل بباقى إسرائيل، مما له من أهمية عسكرية وسياسية دقيقة عززت مطالبها بضم النقب.