تشهد المنطقة العربية حاليًّا عددًا من التطورات المهمة التي من المرجَّح أن تترك تداعياتها بصورة كبيرة على مستقبل الأمن والاستقرار، وعلى هيكل التوازنات القائمة داخلها، بما تطرحه من متغيرات جديدة أمام أدوار إقليمية ودولية قد لا تتوافق مع الأمن القومي العربي. ويتضح هذا الاستنتاج في ضوء الملاحظات التالية:
1- التطورات الجارية في ملف الصراع العربي-الإسرائيلي، والتي تتمحور حول المبادرة الأمريكية بهذا الخصوص، والتي رغم عدم إعلانها رسميًّا حتى الآن إلا أن ما تقوم به الأطراف الرئيسية (الولايات المتحدة، وإسرائيل) تكشف عن الإطار العام لها، والهدف الاستراتيجي منها، خاصة بالنظر لما يأتي:
أ- قرارات الرئيس الأمريكي المتتالية التي تستهدف تجريد الطرف العربي، والفلسطيني بصفة خاصة، من أوراق المساومة قبل الدخول في مرحلة التفاوض الخاصة بتلك المبادرة، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وضم القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية والتي كانت بمثابة بعثة دبلوماسية أمريكية لدى الفلسطينيين إلى السفارة، ووقف تمويل الأونروا وصولًا إلى القرار الخاص بسيادة إسرائيل على الجولان.
ب- التصريحات المتتالية لكبار المسئولين الأمريكيين بأن أي سلام في المنطقة أو تسوية للصراع هو الذي يحقق السلام الآمن لإسرائيل بأبعاده المختلفة. وأنه من الضروري اندماج إسرائيل في الإطار الإقليمي من خلال دعم عمليات التطبيع دون انتظار تحقيق أي تقدم في مسار التسوية. ليصبح ذلك هو القضية المركزية، متجاوزًا بذلك كل عناصر الصراع العربي الإسرائيلي.
ج- التركيز الأمريكي على أن أهم القضايا التي سيتم العمل عليها هي صياغة تكتل إقليمي يستهدف محاصرة إيران وأذرعها في بعض دول المنطقة كأولوية تكفل تحقيق استراتيجية الإدارة الأمريكية بهذا الخصوص، وتعيد هيكلة التوازنات الإقليمية، وتوفر المناخ للاندماج الإسرائيلي الإقليمي في النهاية.
د- التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، خاصة إعلانه أنه سيتخذ إجراءات لضم بعض المستوطنات التي تمت إقامتها في الضفة الغربية لإسرائيل حال فوزه في الانتخابات، وأنه يرى ضرورة ضم الضفة الغربية لإسرائيل. وكذلك بأنه لن يسمح بعودة الرئيس “أبو مازن” إلى قطاع غزة، وأنه يفضل وجود كيانين منفصلين في غزة والضفة، وأنه سعيد بسيطرة حماس على غزة، وهو ما يكشف عن الاستراتيجية الإسرائيلية التي تستند إلى استراتيجية الرئيس الأمريكي والمدعومة منه، والتي تؤكد أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية تُحيط بإسرائيل، وهي استراتيجية جديدة تغير كافة قواعد وعناصر التفاوض على مدى سنوات الجهود المبذولة لتحقيق التسوية.
2- استمرار الخلاف الفلسطيني الفلسطيني، وعدم تقدير طرفي الخلاف لحجم المخاطر التي تحيط بالقضية الفلسطينية ومستقبلها، وهو ما يثير الشكوك حول ما تقوم به حركة حماس بصفة خاصة، واهتمامها بتحقيق الهدنة مع إسرائيل على تحقيق التصالح مع السلطة الفلسطينية، رغم تصريحات “نتنياهو” التي أكد فيها أن الانقسام الفلسطيني في صالح إسرائيل.
3- الدور القطري الذي يتبنى الاستراتيجية الإسرائيلية، وهو ما كشف عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن الأموال القطرية هي التي تُساعد حماس في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها بعد ضغوط السلطة الفلسطينية.
4- نجاح رئيس الوزراء الإسرائيلي في استثمار الموقف الروسي لتحقيق مكاسب شخصية له ولحزبه في الانتخابات، ومكاسب لإسرائيل بصفة عامة، خاصة نجاحه خلال حواره المتواصل مع الرئيس الروسي (حوالي سبعة لقاءات في عدة شهور) في تحجيم المساندة العسكرية الروسية للنظام السوري في مواجهة الهجمات الجوية الإسرائيلية، وعدم استخدام منظومة إس 300 التي روجت لها موسكو، وتحقيق تقارب بين الطرفين حول ضرورة تحجيم التموضع العسكري الإيراني في مناطق قريبة من إسرائيل، والقيام بمبادرات تعكس الانفراد بقرارات سيادية تمس سوريا بصورة متفردة (تسليم رفات الجندي الإسرائيلي دون تدخل من الحكومة السورية). ولعله من الملفت هنا أن الرئيس الروسي قد اهتم بأن يعرض على مجلس الأمن القومي الروسي نتائج مباحثاته مع “نتنياهو”، وخاصة الأوضاع في سوريا، دون الاهتمام بعرضها على الرئيس السوري، وهو أمر له دلالاته، ويشير إلى بعض ملامح الموقف الروسي وأبعاده المختلفة.
5- تصريحات وزير الدولة للشئون الخارجية العماني التي طالب فيها بأن تسعى الدول العربية لطمأنة إسرائيل حول مستقبلها، وأن تسعى كذلك لتبديد مخاوفها بإجراءات واتفاقيات محددة تكفل لها ذلك، وهي مقاربة جديدة وغريبة وتتجاهل أسس الصراع العربي-الإسرائيلي، وتقفز على حقائقه. وخطورة مثل هذه التصريحات أنها تأتي في إطار علاقات متطورة بين سلطنة عمان وإسرائيل، زايد بها “نتنياهو” داخليًّا، وخدمت -ولا تزال- استراتيجية التطبيع وعملية الدمج الإقليمي لإسرائيل. ويرى بعض المراقبين أن النهج العماني على هذا المستوى ربما يتضمن محاولة لموازنة العلاقات المتطورة مع إيران، والاستفادة من قدرة التأثير الإسرائيلية لتلافي التداعيات السلبية لهذه العلاقات.
6- التحرك الأمريكي لمحاصرة “حزب الله”، ليس في سوريا، ولكن داخل لبنان. ورغم مبررات كثيرة لدى الإدارة الأمريكية بهذا الخصوص، إلا أن ذلك الأمر يتجاهل تعقيدات وطبيعة الموقف الداخلي في لبنان، والتماسك الهش الذي تعانيه الدولة اللبنانية. كذلك، فإن تصعيد الموقف وممارسة ضغوط على القوى اللبنانية للتحرك طبقًا لهذا التوجه يمكن أن يعيد الانقسام الداخلي، ويزيد من حدة الاستقطابات، ويرتب في النهاية تداعيات سلبية على حجم الأمن والاستقرار في لبنان والمنطقة بصفة عامة.
هكذا، نرى أن مجمل التطورات السابقة تؤكد عددًا من الاعتبارات التي ينبغي الوقوف أمامها والنظر فيها، ومن أهمها ما يلي:
1- أننا أمام استراتيجية أمريكية للتعامل مع ملفات المنطقة غير مسبوقة، وتتجاوز الاستراتيجيات السابقة التي طرحها تسعة رؤساء سابقين، وتهمل الكثير من الثوابت سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو فيما يتعلق بسوريا، حيث لا يمكن الاهتمام بقضية الجولان وتجاهل ما تقوم به واشنطن في شرق سوريا ودعمها عملية تفتيت الدولة السورية.
2- أن ممارسات حركة حماس، وما يجري من تفاهمات بينها وبين إسرائيل، سوف تُضعف من الموقف الفلسطيني -رغم مزايدات حماس- وتساهم في بلورة مواقف إسرائيلية وأمريكية تستند للأمر الواقع، وتوفر الفرص لفصل الضفة عن القطاع تحت دعاوى الأسباب الإنسانية وتخفيض آثار الحصار، الأمر الذي يؤكد في النهاية فشل كل جهود المصالحة، وذهاب حماس إلى مشروع مستقل.
3- من اللافت كذلك في الموقف الروسي في سوريا الانفراد بالقرارات الاستراتيجية في تطورات الأزمة، وكان آخرها ما ذكره الرئيس التركي قبل زيارته الأخيرة لموسكو بأنه سيبحث مع الرئيس الروسي قيام الجيش التركي بعملية عسكرية في شمال سوريا، وكذلك ما ذكره رئيس الوزراء الإسرائيلي حول مباحثاته الأخيرة في موسكو. ومن ثم، يمكن القول إن روسيا أصبحت المرجع الرئيسي لاتخاذ القرار في سوريا، وأن الحكومة السورية تراجعت مشاركتها في اتخاذ تلك القرارات.
4- أن السياسة التركية في سوريا، والمنطقة بصفة عامة، تحتاج إلى اهتمام مكثف، وخاصة علاقات أنقرة مع كل من موسكو وطهران وواشنطن، فهي تستثمر تلك العلاقات لتحقيق أكبر قدر من المكاسب وتمدد النفوذ في المنطقة. وإذا كان من المرجح ألا تذهب تركيا بعيدًا في خلافاتها مع واشنطن وأوروبا؛ فإن حدود التحالف والتنسيق مع كل من روسيا وإيران سوف يترك تداعياته على المصالح العربية والأمن القومي العربي.
5- أن السياسات المطروحة في المنطقة والمقاربات التي تتبناها القوى الدولية المعنية بها تجعل من سياسة الردع والضغط أولوية على الحوار، وبالتالي فإن استقرار المنطقة خلال الفترة الحالية سوف يواجه الكثير من الصعوبات.
إن البيئة الإقليمية والدولية في هذا التوقيت ليست إيجابية أو جيدة بالنسبة للموقف الفلسطيني والعربي. كما تفتقد القضايا العربية لمساندة حقيقية من قوى دولية مثل روسيا التي بدأت تراهن على علاقاتها مع إسرائيل بدرجة كبيرة خاصة في الأزمة السورية. ومن المرجح أن تسعى إسرائيل لاستثمار ذلك.
إنه من المؤكد أن المنطقة سوف تشهد هجومًا دبلوماسيًّا أمريكيًّا فور تشكيل الحكومة الإسرائيلية، وسوف يكون سلبيًّا بدرجة كبيرة، وسوف تطلب الولايات المتحدة من الدول المعنية تبني مبادرتها التي بدأت ملامحها تتضح في ظل انقسام فلسطيني وتناقضات حادة في الموقف العربي. ولا شك أن الأمر يتطلب اهتمامًا أكبر واستعدادًا للمواجهة بإيجابية وعدم الاكتفاء بالرفض، وضرورة طرح صيغ بديلة تُطرح للتفاوض عليها وتتبنى ثوابت الحقوق العربية.