رغم مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على “مذبحة نيوزيلندا” التي وقعت في 15 مارس الماضي (2019)، عندما قام الأسترالي “برينتون هاريسون تارانت” (28 عامًا) باقتحام مسجدين بمدينة كرايست تشيرتش، خلال صلاة الجمعة، ثم شرع في إطلاق النار بشكل عشوائي على المصلين، مخلفًا مقتل 49 شخصًا وإصابة العشرات، وصدور العديد من الكتابات حول هذه العملية الإرهابية؛ ربما يكون من المهم -في هذا الإطار- قراءة ردود الأفعال الصادرة عن عددٍ من التنظيمات الإرهابية، من خلال تحليل مضمون لأهم البيانات الصادرة عنها بخصوص هذه العملية.
كان واضحًا سعي التنظيمات الإرهابية إلى توظيف العملية من أجل العودة إلى مسرح الأحداث مرة أخرى، ولا سيما مع تراجعها النسبي في بعض مناطق عملها التقليدية، وفقدانها معاقلها الرئيسية، واتجاهها إلى التركيز على ساحة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي للتجنيد ولكسب أتباع جدد.

نماذج لبيانات التنظيمات الإرهابية حول الحادث
أصدر عدد من التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها “داعش” و”القاعدة” و”الشباب” الصومالي، عددًا من البيانات. وقد احتوت هذه البيانات على عدد من الرسائل، مفادها استهداف الغرب، والحث على الجهاد، والدعوة للقصاص، ما يثير تساؤلات مهمة حول ما تتضمنه هذه البيانات وكيف يمكن قراءتها.
1- تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”: نشر التنظيم على قنواته عقب مذبحة نيوزيلندا صورة تُظهر بندقية كلاشينكوف روسية سوداء شبيهة بتلك التي استخدمها الإرهابي في الهجوم على المسجدين. وقد كُتب على البندقية بعض الكلمات المتوعدة بالرد على الهجوم، منها: “سنعيد الكرة عليكم قريبًا”، و”الأيام بيننا، والجروح قصاص، والبادي أظلم”، و”لا حصانة لأحد.. الرد قادم”. كذلك بث المتحدث باسم التنظيم “أبو الحسن المهاجر” تسجيلًا صوتيًّا مدته 44 دقيقة في 18 مارس 2019، قال فيه: “إن مشاهد القتل في مسجدي نيوزيلندا ستوقظ الجهاديين النائمين، وستحفز أنصار الخلافة على الثأر”. كما صور “المهاجر” مذبحة نيوزيلندا بأنها امتداد للحملة ضد “داعش”، مشبهًا الهجوم على المسجدين بالمعركة المستمرة منذ أسابيع في آخر القرى الخاضعة لسيطرة “داعش” في سوريا. واختتم الرسالة بقوله: “انتظروا بحورًا من الدماء”.
2- تنظيم “القاعدة”: أصدر تنظيم “القاعدة” بيانًا في 18 مارس 2019 تحت عنوان “تعزية وتحريض”، بغرض تعزية استشهاد المصلين العزل في هجوم نيوزيلندا، وحث الشباب المسلم على استهداف كل محرض على قتل المسلمين. وقد أشار البيان إلى وجود “حرب صليبية” يشنها الغرب على المسلمين وعقيدتهم. كذلك أكد البيان أن صعود “ترامب” والحركات اليمينية إلى سدة الحكم في كثيرٍ من البلدان الأوروبية، ما هو إلا انعكاس “للحقد الغربي” على الأمة الإسلامية. وفي هذا السياق، توعّد البيان بالقصاص والثأر.
3- حركة “الشباب الصومالية”: عقد المتحدث الرسمي باسم حركة “الشباب الصومالية” “علي راجي”، مؤتمرًا صحفيًّا خاصًّا حول عملية نيوزيلندا في 16 مارس 2019، أشار فيه إلى الدوافع المحركة لهذه المذبحة، والتي حددها في العداوة الشديدة التي يحملها “الصليبيون” للمسلمين، مضيفًا أن الهدف الذي يسعى إليه جميع “الصليبيين” هو إطفاء نور الإسلام. كما أكد “راجي” أن الرئيس الأمريكي “ترامب” هو حامل لواء “الحملة الصليبية”، وقائد حملة الإبادة للمسلمين في كل مكان. وحرض “راجي” على الثأر، وشدد على أن القصاص سياتي آجلًا أم عاجلًا.
4- تنظيم “حراس الدين”: أصدر التنظيم في 21 مارس 2019، بيانًا تحت عنوان “وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ”، وأكد في البيان استمرار الكفار في قتال المسلمين نتيجة ما يكنونه للإسلام من حقد وحنق، باعتبار أن الحرب بين الإسلام والكفر هي حرب عقيدة لا تزول ولا تتغير، فهي “قدر كوني”. وأشار إلى أن قصف “دول التحالف الصليبي” للمسلمين في “الباغوز” نابع من عقيدتهم الكافرة التي تهدف إلى القضاء على المسلمين. وفي الختام دعا البيان إلى الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال.
5- جبهة “أنصار الدين”: أصدرت الجبهة في 17 مارس 2019 بيانًا أكدت فيه أن مثل تلك الهجمات تسلط الضوء على العداوة العميقة التي تكنها الدول “الصليبية” ضد المسلمين، مؤكدًا أن هذه العمليات هي جزء من حرب أيديولوجية تاريخية ضد الإسلام. وقد حرض البيان على القتال ضدّ الغرب، حيث جاء في البيان: “إنّ ما سبق، وغيره، يوجب على الأمة أن تعي أن معركتها ضدّ الكفر واحدة، لا عزّ لها إلا بذروة سنام الإسلام، الذي يدفع الصائل، ويحرر الأرض، ويحكم شرع الله” (الصائل هو المعتدي على النفس أو العرض أو المال). وفي الختام دعا البيان إلى ما أسماه يقظة الأمة في معركتها ضد “الكفر”.

ملاحظات أساسية
قراءة البيانات السابقة تشير إلى عدد من الملاحظات والاستنتاجات المهمة، بشأن تعامل التنظيمات الإرهابية مع عملية نيوزيلندا الإرهابية، وطريقة قراءتها وردود الفعل المتوقعة. ونوجز هذه الملاحظات فيما يلي:
1- “صراع عقائدي”: سعت التنظيمات الإرهابية في بياناتها المختلفة إلى تصوير العملية على أنها صراع عقائدي “مسيحي-إسلامي”، فوصفته بأنه “حرب صليبية”. ولا تزال التنظيمات الإرهابية ترى أن هناك حربًا مستمرة بين الغرب والإسلام في إطار الثنائية التي تتبناها، وقوامها “نحن وهم”، ويقصد بها “المؤمنون والصليبيون”. ومن ثم يسعى الغرب بحملاته الصليبية إلى القضاء على دولة الخلافة وتعطيل شرع الله وفقًا لقناعاتهم.
2- “الدعوة إلى الجهاد”: دعت التنظيمات الإرهابية إلى الجهاد في سبيل الله، من أجل محاربة الصليبيين وتحرير الأمة وإقامه شرع الله. وقد برزت هذه الدعوة في مختلف البيانات الصادرة عقب المذبحة، إذ تختزل الجماعات الإرهابية مفهوم الجهاد في القتال، وتبنّي مفهوم للجهاد قائم على عنف مشروع ومقدس يفرضه الدين على الذات البشرية لتحقيق حاكمية الله.
3- “التوحّد بالمعتدي”: يتصف العقل السياسي للجماعات المتطرفة بما يطلق عليه “التوحد بالمعتدي”، ويعني أن هذه الجماعات تبرر تصرفاتها وفقًا لأفعال قام بها المعتدي، ومن ثم فإنها تشرعن هي أفعالها وتتوحد بسلوك المعتدي وتعمل على محاكاته في أول فرصة تتاح لذلك. وبالنظر إلى بيانات التنظيمات الإرهابية سالفة الذكر نجد أنها بررت دعوتها لاستهداف الغرب نتيجة استهدافه المسلمين، وأن القصاص والثأر سوف يكون رد فعل لأفعال الصليبيين، وفقًا لتعبيرهم.
4- “التحريض وتوظيف الذئاب المنفردة”: حرضت بيانات التنظيمات الإرهابية ضد الغرب ودعت إلى استهدافه، وجاء ذلك بعبارات مختلفة مثل “يا جنود وأنصار الخلافة في أرض الكفر، قوموا قومة رجل واحد” (بيان تنظيم داعش)، و”دفع الصائل” (بيان أنصار الدين)، و”هجوم كهذا لن يمر دون رد” (بيان تنظيم القاعدة)، “سيأتي موعد القصاص” (حركة الشباب الصومالية). وفي هذا السياق، دعا “تنظيم القاعدة” الشباب صراحةً إلى أن يكونوا “ذئاب منفردة”، وحثهم على استهداف اليمين المتطرف وكل من أيد مذبحة نيوزيلندا.
5- “التناقض”: هناك تناقض واضح بين موقف التنظيمات الإرهابية من مذبحة نيوزيلندا، وبين أفعال هذه التنظيمات، إذ شددت التنظيمات على الانتقام من مقتل المسلمين واستهداف المسجدين، غير أنها -في الوقت ذاته- عمدت إلى استهداف المساجد. برز ذلك في استهداف تنظيم “داعش” المساجد في العراق، وكذلك قيامه باستهداف مسجد الإمام “علي بن أبي طالب” في السعودية عام 2015، وتبنّى التنظيم تفجيرات مسجد الإمام الصادق بالكويت عام 2016، وكذا استهداف مسجد الروضة بالعريش في مصر في عام 2017. وفي السياق ذاته، قامت “حركة الشباب الصومالية” باستهداف عدد من المساجد في العاصمة الصومالية مقديشيو، ما أسفر عن استشهاد عدد من الصوماليين وتدمير تلك المساجد.
***
مجمل القول، مثّلت مذبحة نيوزيلندا فرصة للتنظيمات الإرهابية، لكي تقدم نفسها بوصفها مدافعة عن الإسلام والمسلمين، وهو ما يعد غير صحيح على إطلاقه. وبالنظر إلى بيانات التنظيمات الإرهابية حول الحادث، نجد أنه من المرجح استهداف هذه التنظيمات للدول الغربية، خاصة من قبل تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، ولا سيما مع دعوة تنظيم القاعدة “الذئاب المنفردة” للقيام بعمليات ضد اليمين المتطرف، وكذلك سعي تنظيم “داعش” إلى تعزيز صورته الجهادية نتيجة ما يعانيه التنظيم من انحسار في نفوذه.