فتح باب الحوار الوطني النقاش حول قضايا كثيرة ما تزال لم تحسمها النخبة السياسية في نقاشاتها، إلا أن الحوار جعل هذه القضايا لأول مرة مطروحة للنقاش بين هذه النخبة كما لم يحدث من قبل. ولعل النظام الانتخابي من أكثر المسائل التي أثير حولها النقاش في الحوار الوطني وتعددت الآراء حولها وتباينت. وبينما تصر بعض الأحزاب على أن القائمة النسبية هي الأفضل، ترى أحزاب أخرى أن النظام الحالي مع بعض التغيير في النسب هو الأنسب. وبين هذا وذاك فإن كل وجهة نظر منهما لها وجاهتها والحجج القوية المؤيدة له. وكان طرح الموضوع في الحوار الوطني قد نفى شبهة خضوعه لمساومات تضر بالعدالة الانتخابية، فمثلًا قد تتوافق الأحزاب على التوسع في نظام القائمة لأنه يضمن لها الحصة الأكبر المضمونة لأعضائها وخصوصًا إذا توافقت بعيدًا عن المنافسة الانتخابية في الشارع والتي تخشاها لضعف بنيتها. ويفترض نظام القوائم قوة النظام الحزبي حتى تكون المنافسة بين القوائم ذات معنى سياسي معبر عن أفكار وبرامج وليست توزيعًا لمقاعد.
وبشكل عام فالنظام الانتخابي واختياره مسألة أساسية ولكنها يجب أن تقوم على التوافق بين القوى السياسية في المجتمع وهي أخطر من أن تخضع لفرض الرأي أو لسيطرة الأغلبية. وفي الديمقراطيات الراسخة فإن تغيير النظام الانتخابي يتم بالتوافق، فاستقرار أي نظام الانتخابي لفترات طويلة، رغم بعض سلبياته، أهم من محاولة تلافي هذه السلبيات بما يؤدي إلى عدم استقرار النظام السياسي، فالناخبون والمرشحون والأحزاب يستطيعون التكيف والتخطيط والاستعداد مع النظام الانتخابي في حالة استقراره بدلًا من تغييره وفقًا لمتطلبات الحزب الحاكم والأغلبية التي تحقق مصالحها فقط، هذا واحد من أهم دروس ٣٠ يونيو، فالديمقراطية في جوهرها وبعيدًا عن الشعارات تقوم على عدد كبير وضخم من الإجراءات والتوافقات الأولية التي تؤدي في النهاية إلى تمثيل أفضل لأصوات المواطنين في الدولة وإيصال صوتهم إلى المؤسسات الحاكمة وتنظيم نفسهم. وبينما تمثل الانتخابات الآلية الواضحة للنظم الديمقراطية فقبل أي انتخابات هناك الكثير من الإجراءات والآليات التي تؤدي إلى التعبير عن إرادة الناخبين بشكل أفضل، والأهم توافق المجتمع. فالتوافق حول النظام الانتخابي يحقق الأهداف الآتية:
- النظام الانتخابي هو الشكل القانوني والطريق الذي يؤدي إلى تحقيق “تمثيل” المواطنين.
- اختيار النظام الانتخابي له تبعات على الحياة السياسية، بل هو جزء من بنيانها، لأن اختيار نظام انتخابي غير مناسب قد تكون له تبعات، مثل تمكين جماعات راديكالية من السيطرة على النظام، أو شعور المواطن بعدم وجود تمثيل له، فالنواب بجانب الدور التشريعي والرقابي هم وسيط المواطن الذي يُشعره بقدرته على التواصل مع الحكومة وأجهزتها، وهم صوته في تقديم الخدمات ومحاولة حل المشاكل، بل وصوته كذلك في مواجهة تعسف المحليات.
- كما أن النظم الانتخابية إما أنها تعمل على تقوية الأحزاب السياسية، سواء بأن نظام الانتخاب يؤدي إلى ظهور تيارات داخل الحزب أو توحيد كلمتهم ونبذ الانشقاق الداخلي.
- التحالف بين الأحزاب أو توسيع قاعدتها الشعبية على أوسع نطاق أو لحصرها.
التمثيل النيابي واستقرار النظام السياسي
النظام الانتخابي هو الشكل القانوني والطريق الذي يؤدي إلى تحقيق “تمثيل” المواطنين. اختيار النظام الانتخابي له تبعات على الحياة السياسية، بل هو جزء من بنيانها، لأن اختيار نظام انتخابي غير مناسب قد تكون له تبعات، مثل تمكين جماعات راديكالية من السيطرة على النظام، أو شعور المواطن بعدم وجود تمثيل له، فالنواب بجانب الدور التشريعي والرقابي هم وسيط المواطن الذي يشعره بقدرته على التواصل مع الحكومة وأجهزتها، وهم صوته في تقديم الخدمات ومحاولة حل المشاكل. فمجرد شعور المواطن بأن النائب يحتاج إليه في الانتخابات يجعل العلاقة بين الاثنين تسير في مسار متوازن، في حين أن التوسع في تمثيل القوائم يفرغ هذا المعنى من جوهره الأصلي مرتين، مرة بسبب طريقة اختيار مرشحي القوائم وآلية انتخابهم، ومرة ثانية بسبب تحميل النائب الفردي بعبء تمثيل دوائر شديدة الاتساع.
التمثيل الدستوري والسياسي: فالنائب هو ممثل عن جموع المواطنين، وهو يقوم بوظيفة التشريع والرقابة نيابة عن المواطنين كلهم دون تفرقة أو تمييز. ويتفرع منه “التمثيل الحزبي” الذي يجعل للنائب في مواقفه السياسية والتشريعية اتجاهًا معينًا يتوافق مع توجه حزبه في إطار تعريفهم للمصلحة العامة.
التمثيل المكاني – الجغرافي: للنائب التزام ناحية ناخبيه بالمعيار الأضيق، فهم من يراقبونه في تمثيله لهم، ولا شك أن الاتساع الشديد في الدوائر الانتخابية يعزل المرشح عن قطاع كبير من ناخبيه، ويتطلب مضاعفة التمويل للدعاية الانتخابية.
التمثيل الفئوي: للنائب في تمثيله لفئات معينة لا تستطيع خوض غمار المعارك الانتخابية بسهولة دور كذلك في تمثيل نيابي عن هذه الفئات بشكل يجعل النظام الانتخابي عادلًا بشكل ما من خلال التمييز الإيجابي.
استقرار النظام السياسي يقوم على مراعاة هذه الأشكال من التمثيل، ويوازن بينها في صياغة النظام الانتخابي، ولكن يبدو لأسباب متعددة أن صياغة النظام الانتخابي الأخيرة إما تبتعد عن مفهوم التمثيل إلى مفهوم العدالة السكانية في التمثيل فقط وتفرغه من مضمونه السياسي الأساسي لصالح حسبة رقمية فقط، بحيث تضطر بعد ذلك إلى إيجاد توافقات أخرى قد تؤدي إلى غياب التمثيل الحقيقي لفئات أو مناطق جغرافية بعينها.
قانون تقسيم الدوائر وأزمات التمثيل
تنص المادة 102 من الدستور قبل تعديلها في ٢٠١٩ على: “يبين القانون نظام الانتخاب، وتقسيم الدوائر الانتخابية، بما يراعي التمثيل العادل للسكان، والمحافظات، والتمثيل المتكافئ للناخبين”. وتم حذف التمثيل المتكافئ للناخبين في تعديلات الدستور عام (٢٠١٩) وذلك ليتم تقسيم الدوائر دون هذا المعيار ويتفادى المشرع الحكم بعدم دستورية القانون، وهو العامل المؤثر بل والمقيد لتقسيم الدوائر.
وبالنظر إلى التعديل الذي أقره القانون يتضح ما يلي:
- انخفضت عدد المقاعد الفردية من (٤٤٨) إلى (٢٨٤) مقعدًا.
- زادت المقاعد المخصصة للقوائم من (١٢٠) إلى (٢٨٤) مقعدًا.
- متوسط التمثيل لكل نائب في المقاعد الفردي والقائمة هو (١٤٣.١٦٦).
- النائب في المقعد الفردي يمثل متوسط عدد (٢٨٦.٣٣٣) ألف ناخب بعد أن كان (١٦٨.٥٣٣) في ٢٠١٥ وهو يعني زيادة العبء الملقى على عاتق النواب خصوصًا في المقاعد الفردية ومع غياب المجالس المحلية التي تمثل ظهيرًا شعبيًا وخدميًا ووسيطًا بين المواطن والدولة في حل المشكلات.
- التقسيم يقوم على أساس إداري فقط وفقًا للأقسام الإدارية، وهي مسألة تحتاج إلى مراجعة في ظل تداخل المناطق وحدودها وطبيعتها، وبقليل من الاجتهاد من الممكن أن يتم التقسيم على أساس الشياخات والقرى وليس الأقسام والمراكز فقط.
وعلى نحو آخر فإن هناك بعض التقسيم لم يُرَاعِ بعض المعايير المرتبطة بالعصبيات والقبليات والجغرافية حتى وإن كان متوازنًا رقميًا. فعلى سبيل المثال، في محافظة قنا كانت دائرة فرشوط ممثلة بنائب واحد في برلمان ٢٠١٥ وأبو تشت ممثلة بنائبين، وقد تم ضم الدائرتين في التعديل الأخير لتصبحان دائرة واحدة ممثلة بمقعدين، ولكن الثقل السكاني والانتخابي في دائرة أبو تشت وهو تقريبًا ضعف عدد ناخبي فرشوط، أصبحت فرشوط تدرك أنها لن يكون لها ممثل في البرلمان، حصلت على وعد أن يكون لها ممثل في القائمة، وهو لن يكون منتخبًا ولم يدخل منافسة داخل الدائرة ولا يلتزم تجاه أبناء الدائرة إلا التزامًا أدبيًا وليس سياسيًا.
تتكرر مثل هذه الحالات في دوائر كثيرة في الجمهورية بتعقيدات أخرى تحتاج إلى إعادة النظر في صيغ التمثيل الأنسب وأن تأخذ وقتها من النقاش والبحث بعيدًا عن الأحزاب السياسية التي قد تسعى لتحقيق مكاسب سياسية من التقسيم، ومن الممكن أن تم هذه المناقشات داخل الهيئة الوطنية للانتخابات من خلال تعديل القانون بحيث ينص على أن تتولى هي اقتراح تقسيم الدوائر. وبشكل عام، فإن هناك بعض القضايا التي تحتاج إلى نقاشات أعمق مثل مسألة المساواة بين الحزبيين والمستقلين، ومسألة القوائم والفردي، ومسألة الوزن النسبي للمقعد، والتمثيل المتكافئ للناخبين والسكان.