بعد احتجاجات واسعة شملت العديد من المدن السودانية استمرت لأربعة أشهر، انتهى حكم الرئيس عمر البشير الذي رأس السودان منذ عام 1989، وذلك بعد أن سيطرت القوات المسلحة على الأوضاع في السودان منذ وقت مبكر في صباح الخميس الحادي عشر من أبريل من عام 2019، قبل أن يصدر الفريق أول عوض بن عوف، وزير الدفاع والنائب الأول لرئيس الجمهورية، بياناً حاسماً أعلن فيه “اقتلاع النظام” والتحفظ على رئيس الجمهورية.
أولا: قراءة في البيان التأسيسي
تعددت الأسباب التي جعلت من البيان رقم (1) إعلاناً بالغ الأهمية في التاريخ السياسي للسودان، حيث أنهى عهد عمر البشير، وبدأ مرحلة انتقالية لا تزال فرصها في النجاح غير أكيدة. وبقراءة هذا البيان المهم يمكن الوقوف على عدد من النقاط الجديرة بالملاحظة والتحليل.
أولاً: على الرغم من تعدد بيانات تولي العسكريين السلطة في التاريخ السوداني، إلا أن بيان الفرق أول عوض بن عوف كان أكثرها عكساً للطابع الديني على النحو الذي ظهر في بداية البيان، وهي السمة غير المستغربة في ظل المدة الطويلة التي قضاها كأحد أهم الوجوه العسكرية لنظام الإنقاذ بخلفيته الإسلامية. وهو ما يعكس التحولات الكبرى التي تعرضت لها القوات المسلحة السودانية خلال العقود الثلاثة الماضية والتي أسفرت عن تأثرها بالخط الأيديولوجي لنظام الإنقاذ. فبمقارنة البيان الأخير ببيان ثورة الإنقاذ ذاتها في الثلاثين من يونيو من عام 1989 تتضح هذه التحولات التي تتجاوز مستوى الخطاب إلى مستوى الممارسة.
ثانياً: عكس البيان مساحة من الغموض بشأن الجهة الصادر عنها. إذ تضمن البيان في بدايته إشارة لكونه صادراً عن “اللجنة الأمنية العليا” التي تضم القوات المسلحة السودانية، والشرطة، وجهاز الأمن والمخابرات، وقوات الدعم السريع، مؤكداً أن قرار الإطاحة برأس النظام قد صدر عن “اللجنة الأمنية ومكوناتها المسلحة ومكوناتها الأخرى” بتحمل المسئولية الكاملة بتغيير كل النظام لفترة انتقالية لمدة عامين تتولى فيها القوات المسلحة بصورة أساسية، وتمثيل محدود لمكونات اللجنة “الأمنية” مسئولية إدارة الدولة. هذا الوضع يعكس الكثير من الارتباك الذي أكده إرجاء إعلان أعضاء المجلس الذي سيتولى قيادة البلاد إلى البيان رقم (2) والذي لم يصدر بعد. ولعل السبب في هذا التأخر محاولة تجنب الاصطدام بالرأي العام في ظل الانطباع الإيجابي السائد بشأن موقف القوات المسلحة من التظاهرات، حيث تولت حمايتها منذ السادس وحتى الحادي عشر من أبريل، في الوقت الذي تتباين فيه المواقف السياسية والشعبية من أعضاء اللجنة الأمنية من قادة المؤسسات الأخرى، خاصة مع انتشار مقطع مصور لصلاح عبد الله (قوش) رئيس جهاز الاستخبارات توعد فيه المتظاهرين بالتعامل العنيف، وفي ظل اقتراب قوات الدعم السريع تقليدياً من الرئيس البشير.
ثالثاً: اعتبر البيان أن السبب الرئيسي للإطاحة بالبشير هو ما تتابعه اللجنة الأمنية العليا من “سوء الإدارة ، وفساد في النظم، وغياب عـــــدلي في المعـــاملات، وانسداد للأفق أمــــام كــل الشعب، خاصةً الشباب، فـزاد الفقـير فقـراً، وزاد الغني غـــناً، وانعـدم حتى الأمل في تسـاوي الفرص لأبناء الشعب الواحد”، وهو الأمر الذي لا يتسق مع الدعم الكبير الذي قدمته القوات المسلحة منذ الأيام الأولى للأزمة، حيث أعلن الجيش في الثالث والعشرين من ديسمبر الماضي التفافه حول القيادة.
رابعاً: أشار البيان في غير موضع إلى وجود خلافات داخل النخبة السودانية بشأن معالجة الأوضاع المتدهورة منذ بداية الاحتجاجات، إلا أنه أكد تبني أعضاء اللجنة الأمنية العليا موقفاً متحفظاً، ومحذراً من تبعات استمرار النظام في سعيه لحل الأزمة عبر “المعالجة الأمنية” و”الوعود الكاذبة”. كما اعترف البيان بتأثر المؤسسة العسكرية بالموجة الأخيرة للاحتجاجات مشيراً إلى ظهور “بوادر إحداث شروخ في مؤسسة عــــريقة”. ويظل تماسك المؤسسة العسكرية هو العامل الأول الذي تعول عليه القيادة الجديدة في تمكنها من فرض ترتيبات المرحلة الانتقالية، حيث سعت الحركة الاحتجاجية منذ البداية لإحداث انقسام داخل المؤسسة العسكرية يستهدف استمالة القيادات الوسطى وشباب المؤسسة العسكرية.
خامساً: القرار الأول الذي أعلن عنه البيان هو “اقتلاع النظام” و”التخفظ على رأسه بعد اعتقاله في مكان آمن” وهو القرار الذي يعول عليه في قبول الشارع لما سيليه من قرارات. وقد انقسمت القرارات التالية البالغ عددها 14 قراراً محلياً وخمسة قرارات دولية بجانب ثلاثة قرارات ذات طبيعة إجرائية. وقد تضمنت القرارات عدداً من البنود تتعلق بتفكيك بنية نظام البشير تبدأ بحل مؤسسة الرئاسة بما تضمه من نواب ومساعدين لرئيس الجمهورية، بجانب حل مجلس الوزراء، وحل حكومات الولايات ومجالسها التشريعية، بجانب إجراءات أخرى تتعلق بفرض السيطرة، أهمها تشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى إدارة حكم البلاد لمدة عامين، وتعطيل العمل بالدستور، وإعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وحظر التجول لمدة شهر بين العاشرة ليلاً وحتى الرابعة فجراً. فضلاً عن عدد من الإجراءات الخاصة المتعلقة باستعادة الأمن كدعوة حاملي السلاح والحركات المسلحة للمساهمة في بناء الوطن، وإعلان وقف إطلاق النار الشامل في كل أرجاء السودان. أما القرارات المتعلقة بالمستقبل السياسي للبلاد فقد تضمنت إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين، وتهيئة المناخ لعقد انتخابات حرة بنهاية المرحلة الانتقالية.
ثانيا: محددات المستقبل
كشفت الأيام الأخيرة عن استحالة التوصل لحل سياسي للأزمة في السودان عبر الآلية السياسية المتمثلة في الحوار الوطني. ودفع اختيار المتظاهرين مقر القيادة العامة للجيش السوداني موقعاً للاعتصام لتأكيد أنه لا حل للأزمة إلا بتدخل المؤسسة العسكرية. كما كشفت هذه الأيام أيضاً عن رفض الحركة الاحتجاجية لاستئثار القوات المسلحة بإدارة المرحلة الانتقالية على النحو الذي عبر عنه بيان “اتحاد المهنيين” بعد وقت قليل من بيان القوات المسلحة والذي أعلن فيه استمرار الاعتصام ورفض كل ما أعلن عنه الفريق بن عوف جملة وتفصيلاً، لتدخل السودان في وضع سياسي بالغ التعقيد. وفي ظل الغموض الكبير الذي يكتنف الأوضاع في السودان، تظهر العديد من المحددات التي يمكن من خلالها التعرف على المسار المحتمل للأحداث.
1- غياب المشروع السياسي للحركة الاحتجاجية
من بين العوامل التي قد تضعف من فرص الحركة الاحتجاجية للإطاحة بالمجلس العسكري -الذي لا يزال قيد التشكل- تفاوت المواقف داخل الحركة الاحتجاجية نفسها. فبينما كانت الإطاحة بالبشير مطلباً جامعاً لا خلاف عليه، شهدت الأيام القليلة الماضية اختلافاً واضحاً بشأن مدة المرحلة الانتقالية، وطريقة إدارتها، والأطراف المشاركة في قيادة البلاد خلالها، بين من يرى وجوب الشروع في مرحلة انتقالية طويلة تمتد لخمسة أعوام لتجاوز الآثار السلبية لتجريف الحياة السياسية السودانية طوال ثلاثة عقود، وبين من يرى ألا تتجاوز هذه المرحلة عاماً واحداً. وفي الوقت الذي رأت فيه بعض الأطراف ضرورة تسليم الحكم في المرحلة الانتقالية لحكومة مدنية بالكامل، اقترحت أطراف أخرى “تفاوض” قيادة القوات المسلحة مع ممثلين لتجمع المهنيين باعتباره أبرز التنظيمات المشاركة في الاحتجاج لتأسيس كيان هجين يضم أعضاء مدنيين وعسكريين. هذه الاختلافات “الطبيعية” قد تضعف نسبياً من فرص الحركة الاحتجاجية.
2- انقسام النخبة الحاكمة السودانية
طوال السنوات الماضية اكتسبت قضية خلافة البشير المزيد من التعقيد والحساسية كلما اقترب موعد انتخابات الرئاسة السودانية في عام 2020 والتي تسببت في قدر ملحوظ من التوتر داخل النخبة السودانية الحاكمة، خاصة مع تكرار البشير لحملات التغيير سواء في القيادات السياسية أو الحزبية أو العسكرية. ومنذ تصاعد أزمة الاحتجاجات منذ أربعة أشهر بدأ الجناح العسكري في اكتساب المزيد من القوة على حساب رموز المؤتمر الوطني على النحو الذي عكسته التغييرات السياسية الأخيرة للبشير والتي تمثلت في تعيين عسكريين في منصب الولاة في غالبية الولايات السودانية. وقد واكب اتخاذ القوات المسلحة قرارها الحاسم بالإطاحة بالبشير حملة للاعتقالات طالت عدداً من المسؤولين السياسين والرموز الحزبية لعصر البشير. لكن العديد من الشواهد تؤكد أن الجناح العسكري للنخبة السودانية يشهد بدوره عدداً من مظاهر التباين، سواء على خلفية مواقف سابقة أو بسبب الاختلاف في كيفية إدارة المرحلة المقبلة على النحو الذي عكسه التأخر في إعلان البيان رقم (1) والتأخر في الإعلان عن أسماء أعضاء المجلس العسكري الذي يفترض أن يقود البلاد خلال المرحلة الانتقالية.
3- الأزمة الاقتصادية
في ظل التسييس الكبير للموجة الثانية من الاحتجاجات والتي بدأت في السادس من أبريل في ذكرى الإطاحة بالرئيس الأسبق جعفر نميري عام 1985، توارت الطبيعة الاقتصادية للحركة في موجتها الأولى والتي عُرفت في وسائل الإعلام باسم “ثورة الخبز”، فقد كان تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية السبب الرئيسي في تفجر الاحتجاجات في عدد من مدن السودان في أواسط ديسمبر من العام 2018. وخلال الفترة بين ديسمبر وأبريل 2019 لم تصبح الأوضاع الاقتصادية في السودان إلا أكثر صعوبة، فبجانب ارتفاع أسعار السلع الأساسية، ظهرت مشكلات إضافية كشح إمدادات الوقود في العديد من المدن، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي، وغيرها من المشكلات التي قد تجعل من عامل الوقت عاملاً مسانداً لنجاح تصور القوات المسلحة في إدارة المرحلة الانتقالية.
4- المتغير الدولي
يأتي المتغير الدولي كأحد أهم محددات مستقبل السودان السياسي في ظل الأزمة الحالية. وبالرغم من تتابع المواقف الدولية بشأن بيان القوات المسلحة السودانية، إلا أن غالبية المواقف جاءت على قدر من الغموض فيما تحمله من دعم لأحد أطراف الأزمة. فقد أعلنت الخارجية الفرنسية مراقبتها للتطورات في السودان معربة عن أملها أن يكون مسار التغيير خال من العنف، كما أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية عن تعاون بلادها مع مصر بصفتها رئيس الاتحاد الأفريقي في دعم الوصول لمرحلة انتقالية سلمية في السودان. أما الاتحاد الأوروبي فقد أعلن مراقبته للأوضاع في السودان داعياً جميع الأطراف لتجنب استخدام العنف، معبراً عن دعوته لحل سلمي وأخذ آراء الشعب في الاعتبار.
وقد تمثل الموقف الأمريكي في دعوة مجلس الأمن للانعقاد في جلسة خاصة لمناقشة الأوضاع في السودان على إثر التغيرات الأخيرة، وهو الموقف الذي يعد استمراراً للتحول في الموقف الأمريكي بداية من التاسع من أبريل الذي منح الأوضاع في السودان اهتماماً خاصاً بعد فترة من الترقب. وبالنسبة للموقف الروسي فقد عبر عنه المتحدث باسم الرئاسة الروسي والذي اعتبر ما يحدث في السودان شأناً داخلياً معرباً عن تمنيات بلاده بتجنب التصعيد والعودة السريعة للمسار الدستوري.
ويعد موقف بريطانيا والاتحاد الأفريقي استثناءً في رفضهما القاطع لخطة القوات المسلحة لإدارة المرحلة الانتقالية. فقد أبدى وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت موقفاً سلبياً من التحولات الأخيرة في السودان معتبراً أن وجود مجلس عسكري في السودان لمدة عامين ليس هو الاستجابة المثلى لمطالب المحتجين الذين اعتبرهم طالبوا بتغيير “حقيقي”، داعياً لوجود رؤية لتحرك سريع نحو قيادة مدنية ممثلة للشعب السوداني. أما موسى فقيه محمد، رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، فقد جاء موقفه امتداداً لمواقف المنظمة القارية في مناسبات سابقة حيث أعلن أن “الاستيلاء العسكري” على السلطة لا يرقى لمطالب الشعب السوداني.
ومن بين الدول الإقليمية العربية والأفريقية جاء الموقف المصري الأسرع والأكثر حسماً ووضوحاً، حيث عبرت وزارة الخارجية عن دعم مصر الكامل لخيارات الشعب السوداني مؤكدة ثقتها الكاملة في قدرة الشعب السوداني وجيشه الوطني الوفي على تجاوز المرحلة الحاسمة.
وفي ظل مظاهر الضعف الداخلي التي تعتري كل من النخبة السودانية الحاكمة والحركة الاحتجاجية على السواء، وفي ظل الضغط الداخلي الذي سينتقل تركيزه تدريجياً من المطالب السياسية إلى المطالب الاقتصادية والمعيشية، وفي ظل الضغط الدولي لتجنب وقوع السودان في الفوضى أو في اضطراب سياسي مزمن، ينتظر أن تشهد الأيام المقبلة قدراً من الانفراج في الأوضاع المتأزمة، حيث يظل تكتم القوات المسلحة عن الإعلان عن الجوانب الإجرائية للمرحلة الانتقالية عاملاً مهماً، حيث يتيح الفرصة أمام دمج المعارضة في الحكومة أو في أي من المؤسسات الانتقالية التي قد يتم التوافق عليها بما قد يضمن إدارة هادئة للمرحلة الانتقالية.