منذ نهاية الإسبوع الأول من بدء الاحتجاجات التي عرفت “باحتجاجات الخبز”، في التاسع عشر من ديسمبر الماضي ظهر الدور الكبير الذي لعبه تجمع المهنيين السودانيين كقوة معارضة مُنظّمة من خارج القوى الحزبية والمعارضة التقليدية، تسعى لقيادة حراك الشارع السوداني المتسم بالعف. واستمر التجمع في تصدر المشهد الاحتجاجي السوداني طوال أربعة أشهر وحتى صدور بيان قيادة القوات المسلحة في الحادي عشر من أبريل من العام 2019. ولم يكن تجمع المهنيين السودانيين وليد اللحظة، فقد ظهر نتيجة حاجة المتظاهرين للقيادة والتنظيم، بل إنه تشكًّل قبل موجة احتجادات ديسمبر 2018 بسنوات، الأمر الذي يؤكد أهمية تسليط الضوء على تشكيله وبنيته من ناحية، ودوره في قيادة الاحتجاجات والحشد الجماهيري من ناحية أخرى، وفاعليته وحدود تأثيره، وما ستؤول إليه الفترة الانتقالية في ظل دعوته لاستمرار الاحتجاج أمام مقار القيادات العامة للقوات المسلحة السودانية، ورفضه بيان القوات المسلحة السودانية.
أولًا: بنية تجمع المهنيين السودانيين
على خلاف الهياكل التنظيمية للمعارضة التقليدية وفي مقدمتها الأحزاب، يتكون تجمع المهنيين السودانيين من تجمع للأفراد والنقابات على هيئة عمل جماعي وبشكل غير رسمي، في ظل حظر القانون السوداني تكوين نقابات مهنية مستقلة، وفي ظل سيطرة الرئيس البشير والمؤتمر الوطني على النقابات الرسمية.
وجاءت نشأة تجمع المهنيين السودانيين بعد الاحتجاجات الواسعة التي شهدها السودان عام 2013، وذلك بتجمع 200 من أساتذة الجامعات بالخرطوم، وذلك استنادًا إلى المادة 40 من الدستور السوادني، والتي فسرها مؤسسو التجمع لصالحهم، إذ تنص على أن الدستور “يُكفل الحق في التجمع السلمي، ولكل فرد الحق في حرية التنظيم مع آخرين، بما في ذلك الحق في تكوين الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والاتحادات المهنية أو الانضمام إليها حماية لمصالحه”. وكانت تلك هي البداية التي شجعت عددا كبيرا من المهنيين في العاصمة على تشكيل تجمعات مماثلة لتجمع أستاذة الجامعة.
وفي وقت لاحق من عام 2016، قررت ثمانية من النقابات المهنية المستقلة، من ضمنها تجمع البيطريين والصيادلة والإعلاميين والمحامين الانضمام إلى “تجمع المهنيين السودانيين”، ليظهر التجمع في صورته الحالية في يوليو عام 2018 حين أعلن عن رؤية وميثاق واضحين. وقد انعكست طبيعة تشكل التجمع على تمتعه بقدر كبير من المرونة التنظيمية ليضم أعضاء للنقابات الرسمية والمستقلة، وليضم عددا من الحزبيين والمستقلين على السواء، مما أظهره بمظهر القائد للحركة الاحتجاجية منذ بدايتها في ظل الرصيد السلبي للعديد من أحزاب المعارضة.
والجدير بالذكر أيضًا، أن التجمع استطاع أن يجعل من نفسه رمزًا للقوى الساعية نحو التغيير والمعبرة عن تطلعات الشعب، والمتحللة من كافة الإيدلوجيات والانتماءات، ما جعل الجماهير يثقون في قراراته ويتحركون وفقًا لتوجهاته، دون حتى أن يعلموا من هم قادته والذين يحركون المشهد من وراء ستار.
ولا يوجد حصر لأعداد الأفراد المنضمين للتجمع، كما أن عددا من أبرز قيادات التجمع والمتحدثين بإسمه هم أفراد متواجدين خارج البلاد. ومن بين أبرز قادة التجمع والمتحدثين باسمه، أستاذ الانثروبولوجيا بجامعة الخرطوم والوزير الأسبق بوزارة الدولة للعمل وعضو الحركة الشعبية لتحرير السودان، محمد يوسف المصطفى، والذي تم الإفصاح عن هويته كقائد للتجمع بعد إطلاق سراحه بعد ساعات من بيان الجيش، والذي يرى في تجمع المهنيين القائد الذي جمع القوى المنقمسة على نفسها كقوى الإجماع ونداء السودان، اللذين تحالف معهما التجمع في وقت لاحق على انضمامه للاحتجاجات.
وقد نجح التجمع في استقطاب بعض قوى المعارضة لصفوفه كتحالف الإجماع ونداء السودان، علاوة على انضام 19 تنظيمًا وحركة شبابية وفئوية لميثاقه، بحسب أحد المتحدثين الرسميين باسمه محمد الأسباط والمقيم بفرنسا، والدكتور سارة عبد الجليل المقيمية في بريطانيا، إضافة إلى الطبيب محمد ناجي الأصم، والذي تم اعتقاله من قبل السلطات السودانية في وقت لاحق على الإفصاح عن هويته كمتحدث باسم التجمع.
ثانيًا: دور تجمع المهنيين في قيادة الاحتجاجات
كان التحرك الأول للتجمع في 25 من ديسمبر 2018، عندما دعا للتحرك تجاه القصر الجمهوري لتقديم مذكرة للرئيس المعزول عمر البشير، تطالبه بالتنحي. وجاء الموكب الثاني يوم الحادي والثلاثين من ديسمبر، والذي تلاه قرار الرئيس البشير بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق للتحقيق بشأن تلك الأحداث.
كما دعا التجمع إلى مجموعة من التظاهرات والمواكب، خلال الأسابيع والأشهر القليلة الماضية، ما أدت بدورها إلى الضغط شيئًا فشيئًا على النظام. وعلى الرغم من تشكك الحكومة السودانية في أعضاء التجمع واتهامهم بالتآمر والعمالة في أكثر من مناسبة، إلا أن ذلك لم يمنع من الاستجابة الجزئية للضغوط التي فرضها التجمع على نظام البشير على مدار الأشهر القليلة الماضية.
وفي مستهل العام 2019، أصدر التجمع وثيقة -بالتحالف مع قوى نداء السودان وقوى الإجماع الوطني والتجمع الاتحادي المعارض- عرفت بـ “قوى إعلان الحرية والتغيير”، وذلك في الثالث من يناير، تم الاتفاق فيها على جملة من الأهداف، كان من بينها استقالة البشير وتشكيل حكومة انتقالية من كفاءات وطنية لمدة أربعة أعوام. بعدما رفع 22 حزبًا مشاركين في الحكومة مذكرة تقضي بضرورة حل الحكومة والبرلمان. ومن جانبه، أعلن الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، تأييده لبيان الحرية والتغيير، والتزام حزبه بكافة البنود الواردة فيه، إلا أنه لم ينضم رسميًا إليها.
واستمرت الاحتجاجات على هذا المنوال طوال شهر يناير، وخلال النصف الأول من شهر فبراير، حتى أعلن البشير جملة من الإجراءات في الثاني والعشرين من فبراير، من بينها إقالة الحكومة وفرض حالة الطوارئ وإرجاء النظر في التعديلات الدستورية، وتفويض مهامه التنظيمية بحزب المؤتمر لنائبه أحمد هارون، فضلاً عن تعيين ولاة جدد للولايات السودانية من القيادات المسلحة، ما أدى إلى تصعيد الاحتجاجات، التي اعتبرت أنها قرارات جاءت للالتفاف على مطالبهم. واستمرت الاجتجاجات والدعوات من قبل “قوى إعلان الحرية والتغيير”، حيث تمت الدعوة إلى موكب استقلال القضاء في الثالث من مارس على سبيل المثال، تبعها الدعوة عن إضراب شامل عن العمل يوم الثلاثاء الخامس من مارس، تلاه عصيان مدني شامل يوم الأربعاء الثالث عشر من ذات الشهر. وأعقب ذلك الدعوة في الخامس عشر من مارس إلى خروج المظاهرات في كافة المدن والولايات السودانية، فيما اُسمى بإسبوع مواكب العدالة “شهداء الجنينة، اللاجئين والنازحين، مفصولي الصالح العام، متضرري السدود، العمال والمزارعين”، وذلك بحسب ما دعا إليه تجمع المهنيين بالتنسيق مع الأحزاب المنضمة لقوى الحرية والتغيير.
وجاء ما سلف للضغط على النظام باتباع سياسة النفس الطويل، واستمرت التظاهرات التي دعا إليها التجمع، حتى أطلق البشير المرحلة الثانية من الحوار الوطني في السادس من أبريل. وتزامن ذلك مع موكب 6 أبريل الذي دعت إليه قوى الحرية والتغيير تزامنًا مع ذكرى انتفاضة الشعب على الرئيس جعفري النميري عام 1985. وعلى النحو نفسه دعت كافة الأحزاب في البيانات الصادرة عنها إلى ضرورة نزول كافة الجماهير إلى الشوارع بعدما استنفذ النظام كل سبله للإقناع، وذلك بالتجمع عند مقرات القيادة العامة للقوات المسلحة بالعاصمة والولايات، ودعوة الجيش للقيام بدوره الوطني بالانحياز للمواطنين، واستمرت الحشود في الاعتصام أمام المقرات العسكرية، حتى جاء بيان وزير الدفاع الفريق عوض بن عوف، بتنحية البشير والدعوة إلى مرحلة انتقالية مدتها عامين بقيادة مجلس عسكري يدير شؤون البلاد.
خلاصة القول، لا يمكن لأحد إنكار الدور الذي يلعبه التجمع في تحريك المشهد، أيًا ما كان القائمين عليه بانتمائاتهم وتوجهاتهم، فالأهم الآن، هو مدى قدرتهم على الحشد الشعبي من جانب والضغط على النظام من جانب آخر. وقد كان التجمع أول وأهم المستجيبين لبيان القوات المسلحة في الحادي عشر من أبريل حين أعلن رفضه للبيان جملة وتفصيلاً، معتبراً إياه لم يعبر عن مطالب الجماهير، وأنه إنقلاب يحافظ على رأس النظام، ومن ثم دعوتهم للاستمرار في الاحتجاج أمام مقار القوات المسلحة من جانب، ودعوتهم لصغار الضباط وضباط الصف للوقوف إلى ثورة الشعب في مقابل القيادات الكبرى التي تلتف على مطالب الجماهير من جانب آخر. على ذلك، لا يمكن الجزم بما ستؤول إليه الأحداث في الأيام والأسابيع المقبلة من تطورات في المشهد السوداني، وتبقى التفاعلات بين كافة الأطراف الفاعلة على الساحة السودانية هي المحدد لملامح المرحلة الانتقالية.