ما لا يقل عن عشرين ألف شائعة تُبَثُّ شهريًّا عبر وسائل الإعلام الحديثة، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها 30% على الأقل من المصريين، ويروج الإعلام التقليدي للكثير منها، سواء عبر إعادة نشرها قبل كشف زيفها، أو عبر نشرها مرفقًا بها تصحيحها الذي تُعلنه الجهات الرسمية المعنية بالشائعة. والشائعة هي خبر أو معلومة أو بيان ليس له أي أساس من الصحة، ولا يعتمد على مصدر موثوق يمكن التحقق منه، ويخلق تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي (غالبًا ما تقف وراءه ميليشيات إليكترونية) حالة وهمية تُصور للمتابعين أن الخبر صحيحًا. ومع أن إطلاق الشائعات في المجتمعات ليس بالأمر الجديد، إذ إن المجتمعات عرفت إطلاق الشائعات في كل العصور؛ إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أعطتها زخمًا وبُعدًا جديدًا جعل منها واحدة من أهم المخاطر التي تتعرض لها المجتمعات والدول، كونها أصبحت بالفعل أحد أهم مرتكزات الحروب النفسية التي تستهدف أمن واستقرار الدول والمجتمعات. الأمر الذي يطرح ضرورة التساؤل عن الهدف من ذلك الحجم الضخم من الشائعات، وما يمكن أن تتركه من أثر حتى وإن ثبت لاحقًا زيفها. ولعل شائعة اختطاف واغتصاب ثم مقتل فتاة جامعة الأزهر (فرع أسيوط) بكل ما أحدثته من ردود فعل لدى الرأي العام، قبل أن يثبت أنها كانت مجرد شائعة؛ يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك خطورة حرب الشائعات التي تتعرض لها الدولة والمجتمع، وهي الخطورة التي حدت بالنيابة العامة لفتح تحقيق للوقوف على هوية مروجي تلك الشائعات.
الشائعات تستهدف الرأي العام في عمومه، بهدف خلق حالة من عدم اليقين والتشكك في كل شيء بصرف النظر عن أهميته وجدواه؛ فالشائعات لم تترك مجالًا إلا وتعرضت له، دون أن ينفي ذلك صحة أن الشائعات تزيد في فترات الأزمات وشعور المواطنين بالخطر، وأنها غالبًا ما تتركز في المجالات التي تُمثّل أهمية للرأي العام. ذلك أن مُطلِقِي الشائعات درسوا على الأرجح ما يُعرف في دراسات الرأي العام بفن صناعة الرأي العام وتوجيهه. ففي دراسة أُجريت على المجتمع السعودي قبل عدة سنوات أجراها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، أكد 83% من المجتمع أن الشائعة تؤثر في الرأي العام؛ فالرأي العام يعاني -في مجمله- من نظرة شديدة البساطة أو السطحية لمعظم القضايا السياسية والاقتصادية. كما أن مجمل الرأي العام غير محيط بتفاصيل وتعقيدات تلك القضايا، ومن ثم يسهل النفاذ إليه، وإرباكه بالعديد من الأخبار والمعلومات المغلوطة، ناهيك عن أن غير المتخصص لا يعمد بالضرورة إلى تقصي حقيقة ما يقرؤه، بل وربما لا يكون حريصًا على متابعة رد الفعل الرسمي حيال تلك الشائعات.
من ناحية أخرى، فإن مطلقي الشائعات يعرفون جيدًا أن الإكثار من الشائعات سيدفع الكثيرين إلى إثارة التساؤل المعتاد الذي مفاده: هل يُتصور أن تكون كل تلك الأخبار مزيفة؟ ومع كثرة الشائعات بهذا العدد غير المسيوق وردود الفعل من قبل أنصار مطلقي الشائعات يبدو لكثيرٍ من المتابعين أن ثمة حالة من الإجماع على حقيقة تلك الأخبار. وكما هو معروف فإن كثيرين من الرأي العام، خاصة المترددين أو من لم يُكوِّنوا رأيًا نهائيًّا في المسألة المطروحة يستجيبون للآراء التي يبدو أن عليها إجماعًا طبقًا للنظرية المعروفة في دراسات الرأي العام، وهي نظرية “دوامة الصمت”، التي تقرر أن الفرد يميل إلى تشكيل رأيه طبقًا للرأي العام السائد في المجتمع المتواجد فيه، وبالتالي يتكون الرأي العام بما يتسق مع الأفكار التي تدعمها أو تتناقلها وسائل الإعلام بكثرة. هذه النظرية تفسر كيف للرأي العام أن ينزاح بسهولة صوب تصديق الشائعة ما لم يكن هناك دليل قاطع على ما ينفيها.
ومما لا شك فيه، فإن مروجي الشائعات يعرفون جيدًا أن ثمة وقتًا معينًا سيمر بالضرورة قبل أن يثبت زيف الخبر الذي يروجون له، ويعرفون أنه خلال تلك الفترة -التي تعد كبيرة جدًّا بمعايير الإنترنت- ستصل تلك الشائعة لأعداد كبيرة من الرأي العام، وأن ذلك سيصيبهم حتمًا بالاحتقان وتحميل الدولة المسئولية بصرف النظر عن مصير تلك الشائعة، فالهدف الأساسي هو توتير الرأي العام، وجعله محاطًا بأكبر عددٍ ممكن من الأخبار السلبية التي ستشكل مادة إعلامية خصبة لبرامج القنوات المعادية لمهاجمة الدولة، وتعزيز موقف مؤيدي تلك القنوات وتوجهاتها. والأهم أنهم بتلك الشائعات يضعون الدولة دائمًا في موقع المتهم الذي عليه أن يُثبت زيف الشائعة، الأمر الذي يمثل إنهاكًا لمؤسسات الدولة المختلفة.
كما أن مطلقي الشائعات يعرفون جيدًا أن الشائعة لن تموت بمجرد نفي مؤسسات الدولة لها، فذاكرة الإنترنت تبقي تلك الشائعة ويمكن استدعاؤها لاحقًا عندما يثور أمر يتعلق بها، بل إن مطلقي الشائعات يعتمدون على ما أطلقوه من شائعات سابقة لإطلاق شائعات جديدة، فالباحث على الإنترنت في فترة معينة سيجد الشائعة دون أن يجد بالضرورة نفيها. وجدير بالذكر أن الشائعات وانتشارها السريع أصبح سمة أساسية من سمات الثورة التكنولوجية، وأن شبكة الإنترنت -وفقًا لدراسة أجراها مركز “بيو للبحوث” Pew Research Center- أصبحت كما يقول المهنيون في وسائل الإعلام والدوائر الأكاديمية والتكنولوجية ومؤسسات النشر، “بالوعة” لخطاب الكراهية، والغضب، والمتصيدين.
ومن الواضح أن العالم منشغل بكيفية حماية مجتمعاته فقط حتى الآن مما تقوم به الإنترنت كمنصة للترويج لخطاب الكراهية والعنف وتجنيد الإرهابيين والمتطرفين. ولعل ذلك ما دفع الاتحاد الأوروبي في أغسطس 2018 للبحث في سَنِّ قانون ينص على إجبار شبكات التواصل الاجتماعي “فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب” وغيرها، على إزالة وتقنين المنشورات التي تشير إليها السلطات الأمنية على أنها “ذات صلة بالإرهاب”، وذلك نظرًا لأن الاتحاد لم يعد مقتنعًا بقدرة هذه الشبكات على سَنِّ القوانين الداخلية الخاصة بها فيما يتعلق بالقضايا الآنية وقضايا الإرهاب، وأنّها غير قادرة على الالتزام بهدفها، أي السيطرة على المواد والمحتوى المتطرف. وفي مقابل ذلك، لا يُبدي العالم حتى الآن انزعاجًا مماثلًا من دور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في نشر الشائعات التي تندرج ضمن عمليات أو حروب تشنها جماعات منظمة ضد بعض الدول سعيًا نحو إسقاطها في دوامة عدم الاستقرار.
وفي مقابل ذلك، تسعى الدول التي تُواجه حروب الشائعات -ومن بينها مصر- إلى تقنين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بما يحول دون تحولها لمنصة لنشر الشائعات. فتم الإعلان في ديسمبر 2017 عن أن البرلمان بصدد مناقشة مشروع قانون تقدم به أحد النواب لتقنين مواقع التواصل الاجتماعي، وحجب الحسابات المحظورة التي تبث “فكرًا متطرفًا” وحظر موقع “فيسبوك” واستبداله بآخر مصري، يتم إنشاء الحسابات فيه عبر هويات الرقم القومي، لتحديد شخصية صاحب كل حساب. وهو الإعلان نفسه الذي لم يسلم من الكثير من الشائعات، حيث تداولت مواقع التواصل الاجتماعي الخبر باعتباره توجهًا مصريًّا لحظر استخدام الفيسبوك، ناهيك عن الهجوم الشديد الذي دشنته وسائل الإعلام التابعة لجماعة الإخوان المسلمين.
كما أعلنت وزارة الثقافة والإعلام السعودية في مايو 2018 أنها بصدد إعداد وثيقة لتنظيم مواقع التواصل الاجتماعي بالمملكة، وذلك بهدف ضمان التزام المؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي بالمصداقية والموضوعية خلال موادهم المنشورة في حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعي. كما طالبت ماليزيا في عام 2015 مواقع “فيسبوك” و”تويتر” ومحرك البحث “جوجل”، بضرورة العمل على الحد من انتشار “المعلومات الزائفة”، خاصة وأن ماليزيا تأتي ضمن الدول الخمس الأكثر استخدامًا لفيسبوك، ومع ذلك أقرت في فبراير 2019 قوانين جديدة للإعلام أحد أهدافها تقنين استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. وفي بريطانيا صدرت دعوات رسمية في سبتمبر 2018 لتقييد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والتعامل معها من خلال وضع حدود آمنة لاستخدامها كما هو الحال بالنسبة للمشروبات الكحولية، ولكن لسبب آخر متعلق بتأثيرات تلك الوسائل على الصحة وخصوصًا القدرات العقلية للأطفال. وهو الأمر الذي يؤكد أن تقنين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بات أمرًا ملحًّا بصرف النظر عن السبب الذي يجعله كذلك لكل دولة، وأن المستهدف حاليًّا هو الوصول لأفضل صيغة للتقنين تسمح بتفادي الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي ودورها في تشكيل رأي عام حانق ومحبط ومشتت دون أن تعني منعه أو حظره على المواطنين، فأي محاولة -كما قال الرئيس “عبدالفتاح السيسي” في نوفمبر 2018- لمنع وسائل التواصل الاجتماعي لن تنجح، ولا بد من التعامل مع الواقع والاستفادة منها، خاصة في ظل المساحة المتزايدة التي تتسع كل يوم لدور وسائل التواصل الاجتماعي كرافد إعلامي أساسي يعتمد عليه غالبية المواطنين في كل الدول، الذين وصل عددهم عبر العالم إلى ما لا يقل عن 5 مليارات شخص.