ساهمت العولمة والانفتاح التجاري في تزايد أهمية الموانئ البحرية في سلاسل الإمداد والتوريد العالمية وظهور مصطلح “دبلوماسية الموانئ” الذي يعني: استغلال الموانئ البحرية من قبل الدول الساحلية لتعظيم مصالحها القومية، وتعزيز بصمتها في النظام الدولي؛ إذ تُعد الموانئ أهم حلقة في شبكة النقل العالمية نظرًا لعملها كبوابات للتجارة الدولية والتنمية الاقتصادية، ونظرًا لدورها المحوري في تسهيل حركة البضائع وربط الدول في مختلف القارات ببعضها البعض.
وتعتبر الصين الدولة الرائدة في مجال الموانئ وشبكات الشحن البحري كونها موطنًا لأكبر موانئ الحاويات في العالم وأكثرها اتصالًا، إلى جانب قدرتها على ضخ استثمارات ضخمة في شبكة موانئ الاقتصادات المتقدمة والنامية ذات الأهمية الاستراتيجية للاقتصاد العالمي، مما منحها نفوذًا جيواقتصاديًا على الممرات البحرية الدولية. وفي هذا السياق، تحاول الورقة مناقشة أهمية الموانئ بالنسبة للتجارة العالمية والتي أبرزتها أزمة البحر الأحمر، إلى جانب تفكيك مظاهر الهيمنة الصينية على شبكة الموانئ العالمية.
دور محوري
لا تكمن أهمية الموانئ في البعد الاقتصادي فحسب، بل يُمكن استشعار دورها المحوري من الناحية الجيوسياسية والعسكرية بسبب أهميتها الاستراتيجية للأمن القومي والدفاع وحماية مصالح الدول وزيادة النفوذ السياسي، إلى جانب مساهمتها في إتاحة السلع والبضائع عبر الحدود، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتطوير المناطق الصناعية والمجمعات اللوجستية المحيطة مما يولد فرص عمل جديدة، وإيرادات دولارية لاقتصادات العالم المختلفة. وبناءً على ذلك، يُمكن اعتبار الموانئ نقاط ارتكاز أساسية في سلاسل الإمداد العالمية، وأمرًا بالغ الأهمية بالنسبة لاستراتيجيات النمو الاقتصادي في العديد من الدول الصاعدة.
وتبرز أهمية الموانئ في سيطرة الشحن البحري على نحو 90% من التجارة العالمية، ومن المتوقع أن يتضاعف حجم التجارة البحرية ثلاث مرات بحلول عام 2050، كما تؤثر أكبر عشر موانئ في العالم على 9.3% من الاقتصاد العالمي، حيث يمثل ميناء شنغهاي وحده نحو 1.7% من الناتج العالمي، وعطفًا على ذلك، تمثل الموانئ أهمية نسبية لبعض القطاعات كقطاع التعدين والمحاجر، حيث يتم نقل 82% من المواد الخام الخاصة بالقطاع عن طريق النقل البحري.
وأبرزت الاضطرابات المستمرة في البحر الأحمر أهمية الموانئ بالنسبة للتجارة العالمية حيث تتجنب السفن عادة حركة الملاحة في الممرات التي تعاني من اضطرابات، ولهذا تم تغيير مسار مئات من سفن الحاويات والسفن الأخرى حول رأس الرجاء الصالح بجنوب أفريقيا، مما أضاف وقتًا إضافيًا لمدة الرحلات الطبيعية بحوالي 7 أيام إلى 20 يومًا، ورفع أسعار الشحن العالمية وتكلفة التأمين على السفن إلى جانب استهلاك الوقود والتشغيل فضلًا عن تكاليف التأخير بالنسبة للمصدرين والمستوردين والمستخدمين النهائيين. ومن المتوقع أن تكون تكلفة إعادة توجيه السفن لمسارات أخرى ما يصل إلى مليون دولار من الوقود الإضافي لكل رحلة ذهابًا وإيابًا بين آسيا وشمال أوروبا. ومن شأن تأخير السفن عن موعد وصولها وتحويل مسار سيرها، أن يتسبب في حدوث اضطراب كبير في التجارة العالمية، حيث أظهرت أحدث بيانات مؤشر “كييل – Kiel” التجاري لشهر ديسمبر 2023، الذي يصدره معهد كييل الألماني، أن التغييرات الأخيرة التي طرأت على قطاع الشحن تسببت في انخفاض حجم الحاويات المنقولة بالبحر الأحمر بأكثر من النصف، أو بحوالي 70% تقريبًا، كذلك انخفضت التجارة العالمية بنسبة 1.3% في الفترة من نوفمبر 2023 إلى ديسمبر 2023.
إلى جانب اضطرابات البحر الأحمر، تواجه الموانئ عددًا من التحديات في بيئة التجارة العالمية، حيث يفرض زيادة الطلب على الشحن بالحاويات ضغوطًا على البنية التحتية تتطلب تحديث المرافق باستمرار للتعامل مع السفن الأكبر حجمًا، كما تشكل الاستدامة البيئية للموانئ تحديًا آخر نظرًا لأهمية تبنيها ممارسات صديقة للبيئة من أجل الامتثال للوائح الصديقة للبيئة وتقليل بصمتها الكربونية وتخفيف تأثير الأنشطة البحرية على النظم البيئي. علاوة على ذلك، من الضروري أن تواكب الموانئ الرقمنة والتقنيات الحديثة كالذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء لتحسين الكفاءة التشغيلية، وتعزيز سلاسل التوريد.
ريادة صينية
لم تصبح الصين أكبر دولة تجارية وثاني أكبر اقتصاد في العالم عن طريق الصدفة، بل من خلال اتخاذ خطوات حثيثة ووضع استراتيجيات دقيقة ترمي لتعزيز التنمية الاقتصادية القائمة على التصنيع والتصدير للخارج، حيث أدركت القيادة الصينية أهمية ترسيخ مكانة قوية في الأسواق العالمية وضرورة خلق شبكة تجارية مع جميع دول العالم، ومن هنا، بدأت الحكومة الصينية تقدم حوافز ودعمًا ماديًّا للشركات العاملة في قطاعات الموانئ والنقل البحري، حتى أصبحت 95% من تجاراتها تُدار عبر الممرات البحرية، ومن هنا يُمكن القول إن اتجاه الصين السريع لتدشين الموانئ على سواحلها أو الاستثمار في موانئ الدول الأخرى كان مدفوعًا بأولويات استراتيجية واقتصادية. ويُمكن استعراض مظاهر الدور المحوري الذي تلعبه الصين في التأثير على شبكة الموانئ العالمية على النحو الآتي:
• ريادة عالمية: تمتلك الصين سبعة من بين أكبر عشرة موانئ في العالم من حيث إجمالي حمولة البضائع، كما تصنف موانئ الحاويات الصينية من بين أكثر الموانئ اتصالًا في العالم، وفقًا لمؤشر اتصال شبكة الملاحة البحرية العالمي للربع الثاني من عام 2023، ويُمكن الاستعانة بالشكل التالي لتوضيح أهمية الموانئ الصينية بالنسبة للتجارة البحرية العالمية:
الشكل 1- حجم شحن وتفريغ الحاويات بأكثر الموانئ ازدحامًا بالمنطقة
Source- World Shipping Council, the Top 50 Container Ports.
يتبين من الشكل أعلاه أن ميناء شنغهاي هو أكبر ميناء على المستوى العالمي، كما إنه أصبح أكثر موانئ الحاويات ازدحامًا في العالم منذ عام 2010 حينما تفوق على ميناء سنغافورة. بالإضافة إلى ذلك، كانت الموانئ غير الصينية هي الوحيدة التي استطاعت أن تحتل مراتب متقدمة في المراكز العشرة الأولى هي؛ ميناء سنغافورة (المركز الثاني)، وميناء بوسان كوريا الجنوبية (المركز السابع)، وميناء روتردام هولندا (المركز العاشر).
ولا تكمن محورية الموانئ الصينية بالنسبة للتجارة العالمية في حجمها فحسب، بل في ارتفاع كفاءتها مقارنة بنظرائها؛ إذ بلغ متوسط الوقت الذي تقضيه سفن الحاويات في الموانئ الصينية 0.62 يومًا في عام 2020، وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن “الأونكتاد“، مقارنة بنحو 0.8 يوم في موانئ سنغافورة و1.03 يوم في موانئ الولايات المتحدة، كما يتبين تاليًا:
الشكل 2- مدة انتظار السفن في الموانئ (أيام)
Source- UNCTAD, Key performance indicators for ports and the shipping fleet.
وعلى الرغم من تفوق اليابان وتايوان على الصين في مدة انتظار السفن، إلا أن الموانئ الصينية تُعتبر أكثر كفاءة من منافسيها عند أخذ حجم السفن الكبير التي ترسو بها في الاعتبار، حيث إن حجم السفينة يحدد الوقت اللازم لتحميل وتفريغ حاوياتها.
إلى جانب ذلك، تُعد الصين ثاني أكبر دولة مالكة للسفن بعد اليونان، لتأتي اليابان في المرتبة الثالثة، وسنغافورة وهونج كونج في المرتبة الرابعة والخامسة على الترتيب. وترجع الريادة الصينية في مجال الموانئ إلى تخصيص الحكومة الصينية ما يقدر بنحو تريليون يوان (حوالي 153 مليار دولار أمريكي) لبناء مرافق ميناء جديدة وتحديث البنية التحتية للموانئ القائمة خلال الفترة بين 2012 حتى 2019. بالإضافة إلى اعتماد الشركات الصينية على الاستثمار في التكنولوجيا والتقنيات الحديثة كإنترنت الأشياء والحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي لتعزيز كفاءة الموانئ خاصة في ظل تباطؤ التجارة العالمية.
• مؤسسات عملاقة: تمتلك الصين عدة شركات شحن عملاقة سمحت لها بالتأثير على قطاع الشحن البحري العالمي، ففي عام 2016، شيدت بكين شركة وطنية عملاقة عبر دمج شركتي ” China Ocean Shipping Company”، و” China Shipping Group” لتكوين مجموعة الشحن “COSCO – كوسكو” التي تتضمن خط شحن يحمل الاسم ذاته، وشركة لتشغيل الموانئ، وبجانب نشاطات تجارية أخرى بمجال الشحن إلى جانب شركة “كوسكو”، تمتلك الصين شركتي ” China Merchants Port” و” China Shipping Terminal Development “، كما إنها تمارس نفوذها على هذه الشركات من خلال التدخل بسياسات الشركة الخاصة بتعيينات الموظفين، ويعين الحزب الشيوعي الصيني كبار مسئوليها التنفيذيين، وذلك للسيطرة على مفاصل الشركة.وتتمتع الشركات الصينية بميزة جوهرية على منافسيها، كسهولة الوصول إلى القروض بفائدة قليلة مقدمة من البنوك الحكومية، واستمرار الدعم الحكومي لتعزيز حصتها في السوق العالمية الخاصة ببناء السفن والشحن البحري.
• ترسيخ النفوذ عبر القارات: إلى جانب امتلاك الصين لأكبر الموانئ وشركات الشحن البحري العالمية، فإنها تمتلك أيضًا وتدير عددًا كبيرًا من محطات الموانئ فيما يقرب من مائة ميناء تجاري في أكثر من 50 دولة، أي في كل قارة حول العالم باستثناء القارة القطبية الجنوبية. كما يتبين من الجدول الآتي:
حجم الاستثمارات الصينية في الموانئ (مليار دولار) | حجم الاستثمارات الصينية في الموانئ (مليار دولار) | حجم الاستثمارات الصينية في الموانئ (مليار دولار) | |||
تنزانيا | 10.2 | جيبوتي | 0.606 | أوكرانيا | 0.151 |
أستراليا | 8.1 | الكاميرون | 0.568 | موزمبيق | 0.151 |
سريلانكا | 3.9 | ماليزيا | 0.544 | بروناي | 0.142 |
سنغافورة | 2.6 | اليمن | 0.508 | هولندا | 0.139 |
أنجولا | 2.1 | غانا | 0.476 | لاتفيا | 0.112 |
نيجيريا | 1.7 | إسبانيا | 0.454 | الإكوادور | 0.106 |
كولومبيا | 1.5 | موريتانيا | 0.453 | السودان | 0.0975 |
ميانمار | 1.3 | فرنسا | 0.446 | ألمانيا | 0.076 |
السعودية | 1.2 | باكستان | 0.44 | إيطاليا | 0.059 |
كوريا الجنوبية | 1.2 | اليونان | 0.411 | الكونغو | 0.056 |
تايلاند | 1 | إريتريا | 0.4 | تشيلي | 0.044 |
مدغشقر | 1 | ناميبيا | 0.385 | بلجيكا | 0.039 |
إسرائيل | 1 | غينيا الاستوائية | 0.352 | الفلبين | 0.01 |
روسيا | 1 | المكسيك | 0.272 | كوريا الشمالية | 0.0078 |
كينيا | 0.944 | الإمارات | 0.277 | الهند | 0.00018 |
تركيا | 0.94 | بيرو | 0.225 | ||
البرازيل | 0.924 | توجو | 0.207 | ||
قطر | 0.88 | بنما | 0.195 | ||
غينيا | 0.853 | فيتنام | 0.163 | ||
مصر | 0.721 | الولايات المتحدة | 0.161 |
Source- Council on Foreign Relations, Tracking China’s Control of Overseas Ports.
كما تسيطر الصين بالفعل على أكثر من 20 ميناءً أوروبيًا، حيث اشترت شركات صينية حصصًا من موانئ بحرية في بلجيكا وفرنسا واليونان وإيطاليا وهولندا وألمانيا على مدار العقد الماضي مما منحها نفوذًا على طرق الإمداد في القارة، إلى جانب ذلك، قامت شركة ” China Merchants Port” بشراء محطات في موانئ سريلانكا وميانمار وباكستان وجيبوتي والبرازيل، إضافة إلى محفظة استثمارية في 40 ميناءً على الأقل في أمريكا الشمالية والجنوبية وأفريقيا والشرق الأوسط وشرق أوروبا ووسط آسيا وجنوب شرقي آسيا وأستراليا والمحيط الهادئ.
ومن الجدير بالذكر أن الصين في الغالب لا تتولى تطوير موانئ بحرية فحسب، وإنما مناطق اقتصادية كاملة تدور حول نشاط النقل، وكذلك مراكز تجارية ومحطات لتوليد الطاقة، إضافة إلى مشروعات سكنية من حين لآخر.
• التحكم في البيانات: أطلقت الصين منصة ” LOGINK” الإلكترونية عام 2007 بهدف تبسيط إدارة البيانات اللوجستية وتتبع الشحنات، لتحقق بعد ذلك نجاحًا بحلول عام 2014 يتمثل في دمج البيانات الخاصة بنحو 11 ميناءً صينيًا، و5 موانئ يابانية، و3 موانئ كورية جنوبية. ومنذ عام 2014 وحتى 2022، اعتمد حوالي 24 ميناءً حول العالم على منصة ” LOGINK”، بينها؛ 12 ميناءً في آسيا، و9 موانئ في أوروبا، و3 موانئ بالشرق الأوسط.
ومن أجل تشجيع الدول على تبني استخدامه، وفرت الحكومة الصينية إمكانية استخدام المنصة مجانًا للموانئ وشركات الشحن بما يساعدها على الوصول إلى البيانات اللوجستية بشكل كامل والتي تشمل تحركات وإدارة وتسعير البضائع المنقولة حول العالم.
وقد حاولت الولايات المتحدة مواجهة مخاطر استخدام هذه المنصة من خلال فرض حظر على البنتاجون باستخدام أي ميناء بحري حول العالم يستخدم نظام “LOGINK”، كما إنها ناشدت حلفاءها أهمية حظره ومنع استخدامه ضمن حدودهم البحرية.
باختصار يمكن القول إن الصين استطاعت أن تهيمن على التجارة البحرية في ظل امتلاكها أكبر موانئ للحاويات حول العالم وأكثرها اتصالًا، والتحكم في نقاط الاتصال الرئيسية بسلاسل الإمداد والتوريد، وتشكل الاستثمارات الاستراتيجية للصين في الموانئ العالمية -والتي يشار إليها باسم “دبلوماسية الموانئ”- عنصرًا محوريًا في استراتيجيتها واسعة النطاق بأن تصبح قوى عظمى.