يشهد إقليم القرن الأفريقي تحولات نوعية تُعيد تشكيل ملامحه الجيوسياسية، حيث نجد أن التوازنات التي تمت بين دوله، لا سيما الصومال وإريتريا وإثيوبيا منذ يوليو 2018، لم تتسم بالقدرة على الصمود في وجه التحديات التي تواجه الإقليم، وهو ما اتضح جليًا في ردود أفعال دول القرن الأفريقي الساخطة حيال التحركات الإثيوبية التي انتهجتها مطلع عام 2024؛ إذ لم تراع مصالح دول الإقليم. وفي ظل هذه التحولات، يبرز التساؤل حول كيف اختلف السياق الذي كان سائدًا في عام 2018 عن السياق الراهن مطلع عام 2024، وما هي بوادر هندسة تحالف إقليمي جديد بين دول القرن الأفريقي بقيادة مصر؟
مظاهر التحول في طبيعة التحالفات
نجد أن طبيعة التحالفات التي كانت سائدة بين دول القرن الأفريقي منذ عام 2018، قد طرأت عليها بعض مظاهر التغير، وهو ما يمكن تناوله، وذلك على النحو التالي:
أولًا- نشأة التحالف الثلاثي:
سادت أجواء من التفاؤل بتولي آبي أحمد مقاليد السلطة في إثيوبيا عام 2018، حيث تبنى سياسة “تصفير المشاكل” مع دول الجوار، وهو ما تم ترجمته عمليًا بتأسيس تحالف ثلاثي بين إثيوبيا والصومال وإريتريا، لتحقيق مجموعة من الأهداف، والتي تتمثل في تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، تطوير البنية التحتية، تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وتعزيز التعاون الإقليمي. وقد تم إنجاز جملة من المكاسب المشتركة خلال فترة التحالف الثلاثي، والتي يمكن طرحها، وذلك على النحو التالي:
- المكاسب السياسية: لا شك أنه بموجب التحالف بين إثيوبيا وإريتريا قد أُنهي الجمود الذي شاب العلاقات بين البلدين، والذي استمر عقدين من الزمان، وهو ما تم اعتباره بمثابة فرصة لدفع جهود البلدين نحو تعزيز التعاون والاستقرار بين دول الإقليم. كما أسفر التعاون بين إثيوبيا والصومال عن دعم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لمقاربة الرئيس الصومالي السابق محمد عبد الله فرماجو، والتي كانت تقوم على تقوية سلطة المركز في مقابل إضعاف سلطة الولايات الفيدرالية.
- المكاسب العسكرية: نجد أنه قد تم توقيع عدد من اتفاقيات التعاون العسكري بين إثيوبيا وإريتريا والصومال منذ عام 2018، والتي تساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في القرن الأفريقي، ومكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة، وحماية المصالح المشتركة للدول الثلاث، ويمكن استعراض الاتفاقيات التي تم إبرامها بين الدول الثلاث، وذلك على النحو التالي:
- اتفاقية التعاون العسكري بين إثيوبيا وإريتريا: تضمنت الاتفاقية التي تم توقيعها 2018، إنهاء حالة الحرب بين الدولتين، وفتح الحدود المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخبارية، والتعاون في مكافحة الإرهاب.
- اتفاقية التعاون العسكري بين إثيوبيا والصومال: تضمنت الاتفاقية التي تم إبرامها 2020، تدريب القوات الصومالية من قبل إثيوبيا، وتقديم المساعدة العسكرية للصومال في مكافحة حركة الشباب المجاهدين.
- اتفاقية التعاون العسكري بين إريتريا والصومال: تضمنت الاتفاقية التي تم توقيعها 2023، تبادل الخبرات العسكرية بين الدولتين، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وتأمين البحر الأحمر.
- التعاون الاقتصادي: قد تم توقيع عدد من الاتفاقيات لتعزيز التعاون الاقتصادي، والتي تهدف لتعزيز التعاون التجاري والاستثماري بين الدول الثلاث، وتطوير البنية التحتية الإقليمية، وتعزيز التعاون في مجال الطاقة، وكذلك التعاون في مجال الأمن الغذائي.
ثانيًا- بوادر تفكك التحالف الثلاثي:
اتسم السياق الراهن بتصدع التحالف الثلاثي بين إثيوبيا والصومال وإريتريا، حيث انتهجت إثيوبيا سياسة تتسم بالانتهازية بتوقيعها مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال الانفصالي في يناير 2024، ونجد أن أهم البنود التي تضمنتها مذكرة التفاهم تتمحور حول تخصيص إثيوبيا منطقة ساحلية على ساحل أرض الصومال بمساحة 90 كيلومترًا مربعًا لاستخدامها كميناء تجاري وقاعدة بحرية، واستئجار إثيوبيا لميناء بربرة الواقع على ضفاف خليج عدن، وإنشاء خط سكة حديد يربط بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال، وإنشاء خط أنابيب نفط يربط بين إثيوبيا وميناء بربرة. وقد أثارت تلك الخطوة غضب دول القرن الأفريقي، ويمكن استعراض أسباب غضب دول القرن الأفريقي، وذلك على النحو التالي:
- انتهاك الاتفاقية لسيادة جمهورية الصومال الفيدرالية: اعتبرت الحكومة الصومالية مذكرة التفاهم بأنها غير قانونية، وتُعد انتهاكًا لسيادتها على إقليم أرض الصومال.
- مخاوف من زعزعة استقرار المنطقة: يخشى البعض من أن تؤدي الاتفاقية إلى زعزعة استقرار المنطقة، خاصةً في ظل عدم الاستقرار السياسي في إقليم أرض الصومال.
- تأثير الاتفاقية على المصالح الإقليمية: تخشى بعض الدول من أن تؤثر الاتفاقية على مصالحها الإقليمية، خاصةً في مجال التجارة والملاحة البحرية.
دوافع هندسة تحالف إقليمي جديد
لا شك أن التحركات الإثيوبية الانتهازية الأخيرة بتعزيز تقاربها مع أرض الصومال، دفعت دول القرن الأفريقي لتعزيز التقارب مع مصر، وهو ما يعني أن هناك بوادر لهندسة تحالف إقليمي جديد بين مصر والصومال وإريتريا، وهو ما يُمكن رصده من خلال عدد من المؤشرات، والتي يمكن استعراضها على النحو التالي:
- التقارب المصري-الصومالي
تم اتخاذ خطوات مهمة في سبيل تعزيز التقارب بين مصر والصومال، وهو ما اتضح في الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود لمصر في العشرين من يناير 2024، وساهمت هذه الزيارة في تبادل الآراء حيال القضايا ذات الاهتمام المشترك، لا سيما الاتفاق الإثيوبي مع إقليم أرض الصومال؛ إذ حذّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من المساس بمصالح الصومال، كما شددت القيادة المصرية على الدعم المصري لسيادة ووحدة الأراضي الصومالية. وفي هذا الصدد، يُمكن طرح تساؤل بشأن ما هي مصالح الصومال في تعزيز التقارب مع مصر في الوقت الراهن، وهو ما يمكن الإجابة على هذا التساؤل من خلال إمكانية حصول الصومال على دعم القيادة السياسية المصرية في عدد من المجالات، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
- الدعم العسكري: تواجه الصومال تهديدات أمنية، ويمكن أن يساهم التقارب الصومالي مع مصر في الحصول على دعم عسكري لمواجهة تهديد حركة الشباب الإرهابية، وكذلك التنسيق مع مصر لتامين السواحل من ظاهرة القرصنة.
- تعزيز العلاقات التجارية: ترغب الصومال في تنمية علاقاتها التجارية مع مصر، خاصة في مجال الواردات من المواد الغذائية، كما تسعى الصومال إلى جذب الاستثمارات المصرية في مختلف المجالات.
- إعادة إعمار البلاد: تحتاج الصومال إلى إعادة إعمار البنية التحتية بعد عقود من الصراع.
- التعاون في مجال الطاقة: تسعى الصومال إلى الاستفادة من خبرات مصر في مجال الطاقة.
- التقارب المصري-الإريتري
اتضح للقيادة السياسية في إريتريا أن إثيوبيا تنتهج سياسة ليست في صالح إريتريا، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال رفض إريتريا اتفاق “بريتوريا” الذي وقعته إثيوبيا مع جبهة التيجراي في نوفمبر 2022 لوقف الحرب، حيث تم استبعاد إريتريا من الانخراط في هذا الاتفاق، على الرغم من الدعم الإريتري للحرب الإثيوبية ضد جبهة التيجراي، بالإضافة إلى قيام إثيوبيا بتوقيع اتفاقية مع إقليم أرض الصومال، والذي ترجمته إريتريا باعتباره أنه لن يأتي فقط على حساب موانئها التي تستخدمها إثيوبيا في عملية التصدير، “مصوع” و”عصب”، بل أيضًا -وهذا هو الأهم- تخشى من إمكانية قيام آبي أحمد بمحاولة الاستيلاء على ميناء “عصب” في ظل طموحاته التوسعية.
ومن هذا المنطلق، نجد أن الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الإريتري أسياس أفورقي لمصر في الرابع والعشرين من فبراير 2024، ساهمت في تعزيز العلاقات الثنائية، وبحث التعاون في مختلف المجالات، وفي هذا الصدد، يُمكن طرح تساؤل بشأن ما هي مصالح إريتريا في تعزيز التقارب مع مصر في الوقت الراهن، وهو ما يمكن الإجابة عن هذا التساؤل من خلال إمكانية حصول إريتريا على دعم القيادة السياسية المصرية في عدد من المجالات، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
- مكافحة الإرهاب: تواجه إريتريا تهديدًا من الجماعات الإرهابية في المنطقة، مثل حركة الشباب المجاهدين.
- أمن البحر الأحمر: تسعى إريتريا إلى تأمين خطوطها الملاحية في البحر الأحمر.
- التجارة: ترغب إريتريا في تنمية علاقاتها التجارية مع مصر، خاصة في مجال الصادرات الزراعية، كما تسعى إريتريا إلى جذب الاستثمارات المصرية في مختلف المجالات.
- تطوير ميناء عصب: ترغب إريتريا في تطوير ميناء عصب ليصبح مركزًا تجاريًا إقليميًا.
- الربط الكهربائي: تسعى إريتريا إلى الربط مع الشبكة الكهربائية المصرية.
ج- موقف جيبوتي
أعربت جيبوتي عن استيائها من مذكرة التفاهم التي تم توقيعها بين إثيوبيا وأرض الصومال مطلع العام الحالي، على اعتبار أن هذه المذكرة تُمثل انتهاكًا لسيادة الصومال، كما يمكن أن تؤدي مذكرة التفاهم إلى زعزعة استقرار المنطقة. ونجد أن جيبوتي قد اتخذت عددًا من التحركات بإصدار بيان رسمي للتنديد فيه بمذكرة التفاهم، واستدعاء سفيرها لدى إثيوبيا، وكذلك مطالبة المجتمع الدولي بإدانة مذكرة التفاهم. ويمكن القول إن اعتماد إثيوبيا على موانئ جيبوتي في تجارتها مع العالم الخارجي باعتبارها دولة حبيسة، ولا شك أن استخدام إثيوبيا موانئ أخرى مثل ميناء بربرة في أرض الصومال، سيكون له تداعيات سلبية على جيبوتي، من حيث تراجع فقدان جيبوتي لنفوذها كمركز تجاري إقليمي، وتراجع إيرادات ميناء دورالي، بالإضافة إلى التداعيات الاجتماعية المتمثلة في فقدان الوظائف في القطاعات المرتبطة بالتجارة.
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن جيبوتي لن تعارض نشأة تحالف إقليمي جديد بقيادة مصر لاحتواء التحركات الإثيوبية الانتهازية في إقليم القرن الأفريقي. ويمكن ترجمة ذلك من خلال زيادة كثافة الزيارات الرسمية المتبادلة بين البلدين، لتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وتحقيق التنمية الاقتصادية.
وفي الختام، يمكن القول إن هناك فرصة لتعزيز التحالف بين دول القرن الأفريقي بقيادة مصر، على اعتبار أن السياسة الخارجية المصرية حيال دول القرن الأفريقي ترتكز على عدد من المبادئ والتي تتمحور حول الاحترام المتبادل وحسن الجوار، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، وحل النزاعات بالطرق السلمية. ويمكن لمصر أن تقوم بتنشيط دورها في إقليم القرن الأفريقي من خلال توظيف أدواتها المتنوعة، لا سيما الدبلوماسية النشطة لحل الصراعات، وتقديم المساعدات التنموية في مختلف المجالات، والتعاون العسكري لرفع كفاءة الهياكل الأمنية لدول القرن الأفريقي لمواجهة التهديدات الإرهابية.