شهد السودان في الحادي عشر من أبريل 2019، تحولًا جذريًّا تَمَثّل في الإطاحة بالرئيس “عمر البشير” الذي ترأّس السودان لثلاثة عقود شكّلت تقريبًا نصف تاريخ البلاد منذ الاستقلال، بعد أن تحتّم إخراجه من السلطة بآلية تتجاوز النصوص الدستورية على إثر تفجر موجة احتجاجية عارمة، واستشعار القوات المسلحة ما يحمله استمرار هذه الأوضاع من تهديد لاستقرار البلاد. وترتيبًا على ذلك، كان من المفترض أن يبدأ السودان مرحلة انتقالية وفق خريطة إجراءات واضحة؛ إلا أن الخلافات في وجهة النظر بين الطرفين الرئيسَيْن الممثلين في المجلس العسكري الانتقالي من جهة، وقوى “الحرية والتغيير” من جهة أخرى، وداخل كل منهما؛ ساهمت في إكساب الحالة السودانية الكثير من الغموض. إذ لم تقتصر مظاهر التباين في الرؤى على القرارات المتعلقة بإدارة المرحلة الانتقالية، بعد أن لاحت في الأفق مجموعة أخرى من القضايا الخلافية ستشهدها المرحلة الانتقالية بعد التوافق بشأن معالمها الأساسية، لتزيد من تعقيد الأوضاع في السودان في الأمد المنظور.
أولًا: ثلاث قضايا انتقالية عالقة
تجتمع ثلاث قضايا رئيسة لتعيق التوافق بشأن طبيعة المرحلة الانتقالية بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى “الحرية والتغيير”، تتعلق أولاها بمدة المرحلة الانتقالية، وتتعلق الثانية بتشكيل مؤسسات الحكم خلال هذه المرحلة، في حين تتعلق الثالثة بمستقبل المؤتمر الوطني وهو الحزب الذي حكم “البشير” من خلاله السودان لعقود.
1- مدة المرحلة الانتقالية
أعلن المجلس العسكري الانتقالي في بيانه الأول عن فترة انتقالية مدتها عامان على النحو الذي طرحه الفريق أول “عوض بن عوف” قبل استقالته، ليعيد المجلس العسكري صياغة هذه الرؤية في المؤتمر الصحفي للفريق أول “عمر زين العابدين” مسئول اللجنة السياسية بالمجلس، وكذلك في بيان تسلم الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، بحيث تصبح هذه المرحلة عامين بحد أقصى، بما يعني إمكانية عقد الانتخابات وتسليم السلطة قبل نهاية هذه المدة إذا ما استُكملت كافة الجوانب الإجرائية اللازمة لذلك. وفي المقابل، تطرح قوى “الحرية والتغيير” منذ بيانها الأول رؤية محددة تقتضي دخول البلاد في مرحلة انتقالية مطوّلة تمتد لأربعة أعوام تتمكن فيها هذه القوى من التخلص من مختلف الآثار السلبية لحكم “البشير” الذي استمر ثلاثين عامًا.
2- البنية المؤسسية للمرحلة الانتقالية
تقوم رؤية المجلس العسكري الانتقالي على أن يمثل المجلس سيادة البلاد، والذي يضم أحد عشر عضوًا بجانب الرئيس ونائبه، وهم جميعًا من ممثلي المؤسسات العسكرية والأمنية، حيث يضم المجلس ممثلين عن القوات المسلحة بمختلف أسلحتها، فضلًا عن قوات الدعم السريع، والشرطة وجهاز الأمن والمخابرات، من دون أي تمثيل مدني على الإطلاق. لكن المجلس العسكري الانتقالي كرر تأكيده على أن تكون الحكومة الجديدة حكومة مدنية بالكامل باستثناء الوزارات السيادية كالدفاع والداخلية، حيث أعلن انفتاحه على كافة مقترحات القوى السياسية بشأن المرشحين لرئاسة الحكومة أو عضويتها. وفي المقابل، ترفض قوى الحرية والتغيير هذا الطرح، وخاصة تجمع المهنيين على النحو الذي ظهر في مؤتمره الصحفي المنعقد في الخامس عشر من أبريل، إذ ترى فيه التفافًا على مطالب الشارع السوداني وتحايلًا عليه. فقد أكد التجمع ضرورة تسليم السلطة بالكامل لجهة مدنية تمثل سيادة السودان، وتحظى بتوافق شعبي، وتعبر عن قوى الثورة، على أن يسمح لهذه الجهة بأن تضم تمثيلًا محدودًا للمؤسسة العسكرية، باعتبار أن مدنية الحكومة أمر مفروغ منه، وباعتبار أن تولي المجلس العسكري إدارة البلاد في المرحلة الانقتالية يتنافى بالكلية مع مطالب الشارع بالتحول الفوري للحكم المدني الديمقراطي.
3- مستقبل المؤتمر الوطني
تتمثل القضية الخلافية الثالثة في موقع قادة وأعضاء المؤتمر الوطني من مستقبل السودان، وطبيعة الإجراءات الفورية المتخذة بشأنهم خلال المرحلة الانتقالية. ويُعد تـأكيد الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” اعتزامه “اجتثاث” نظام “البشير” نقطة إيجابية يمكن البناء عليها؛ إلا أنها لم تتضمن إجراءات محددة، حتى بعد الإعلان عن تشكيل لجنة لحصر أصول الحزب الحاكم السابق. وعلى الرغم من حملات الاعتقالات التي طالت عددًا من قادة الحزب ورموزه، لا يزال المجلس العسكري متحفظًا في الدخول في مواجهة مفتوحة مع الحزب ذي التنظيمات المتعددة المتشابكة التي تخترق مؤسسات الدولة ذاتها. وفي المقابل، لا تزال الحركة الاحتجاجية السودانية تنظر بالكثير من التشكك إلى الإجراءات المتخذة بشأن الحزب الحاكم، والتي تراها بعيدة عن مطالبها، حيث يرى طيف واسع من الحركة الاحتجاجية -خاصة من غير الحزبيين- ضرورة حل الحزب وتفكيك أبنيته وهياكله، خاصة تلك التنظيمات شبه العسكرية، تمهيدًا لمحاكمة رموز الحزب على ما ارتكبه طوال فترة تواجده في الحكم من تجاوزات، على أن تتم هذه الإجراءات بصورة عاجلة لتجنب أي موجة ارتدادية لأنصار الحزب، سواء بالاشتباك مع المتظاهرين أو بعرقلة عمل مؤسسات الدولة.
ثانيًا: قضايا مؤجلة لما بعد استقرار المسار الانتقالي
بافتراض إمكانية التوصل إلى توافق “مرن” بشأن القضايا الثلاث السابقة، وما يترتب على ذلك من البدء في إجراءات انتقالية متفق عليها، ستبدأ القوى السياسية السودانية في مواجهة عدد آخر من القضايا تتعلق بكيفية الانتقال من الوضع الانتقالي إلى وضع مستدام، وهي القضايا التي تتصل بالخلافات الجذرية والتناقضات العميقة بين مختلف اللاعبين السياسيين في السودان، بعيدًا عن الانقسام الظاهري القائم حاليًّا بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير.
1- فض الاعتصامات
كان المحرك الرئيس لإطاحة القوات المسلحة بالبشير صباح الخميس الحادي عشر من أبريل هو ما توارد من أنباء بشأن اعتزام مجموعات شبه عسكرية تتبع المؤتمر الوطني فض الاعتصامات بالقوة، وهو ما كان يمكن أن يوقع البلاد في دائرة لا نهائية من الفوضى. ومع تَسلّم القوات المسلحة السلطة، ومع كل إجراء تعلن عنه، كان رد الفعل الأساسي لقوى “الحرية والتغيير” هو دعوة المعتصمين لملازمة الساحات ودعوة الجماهير للانضمام إليهم، خاصة مع ما أثبتته آلية الاعتصام أمام مقار القوات المسلحة من فاعلية بعدما شكّلت النقطة الفارقة التي مكّنت مظاهرات أبريل من بلوغ هدفها النهائي على العكس من موجات احتجاجية سابقة، سواء تلك التي بدأت في ديسمبر 2018، أو موجات أخرى شهدتها الأعوام الماضية تصاعدت وتيرتها منذ عام 2013.
وقد كشف بيان تسلم الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” رئاسة المجلس العسكري الانتقالي عن موقف المجلس من الاعتصامات في المستقبل، حيث أكد ضرورة استعادة مظاهر الحياة الطبيعية كهدف حيوي من أجل السير قدمًا في المسار الانتقالي، مناشدًا المواطنين تقديم المساعدة في ذلك. كما أكّد الفريق “شمس الدين كباشي إبراهيم” (الناطق باسم المجلس العسكري الانتقالي) أنه لا نية لدى المجلس لفض الاعتصام بالقوة، لكنه طالب كل المعنيين بالاعتصام بإعادة الحياة لطبيعتها، مؤكدًا عدم سماح الدولة بتسلل “المتفلتين والمسلحين” لساحة الاعتصام. ويظهر موقف القوى الاحتجاجية معارضًا بشدة لموقف المجلس العسكري من الاعتصامات، على النحو الذي كشفت عنه الاشتباكات التي نشبت على إثر محاولة القوات المسلحة إزالة بعض الحواجز الإسمنتية التي تقطع الطرق المؤدية للاعتصام، وما أعقبها في اليوم التالي من توتر شديد نتيجة محاولة لقوات الدعم السريع الاقتراب من موقع الاعتصام أمام القيادة العامة. على هذا ستبقى قضية فض الاعتصامات محل كثير من الشد والجذب، حيث ستظل الاعتصامات هي ورقة الضغط الأكثر فاعلية في يد المعارضة، خاصةً غير الحزبية منها، إلى حين التثبت من الوزن الحقيقي لكل فصيل سياسي من خلال العملية الانتخابية.
2- الموقف من الحركات والفصائل المسلحة
في ظل احتدام السجال السياسي بين “البشير” ومعارضيه خلال الأشهر الماضية، توارت حقيقة أن السودان دولة تشهد عددًا من الصراعات الداخلية المسلحة، سواء في دارفور أو في جنوب كردفان. هذا الوضع الأمني الخطير القابل دائمًا للتصعيد والانفجار سبق وأن استرعى اهتمام قوى الحرية والتغيير في إعلانها الأول الموقّع في الأول من يناير الماضي، حيث كانت المهمة الأولى للحكومة المدنية -من وجهة نظر البيان- هي “وقف الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها”. ولا تُعد أولوية قضية وقف الحرب بين القوات المسلحة السودانية والفصائل المسلحة أمرًا مستغربًا في ظل انضمام بعض أهم هذه الفصائل لقوى الحرية والتغيير كحركة العدل والمساواة، والحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال وفصيل من حركة تحرير السودان.
من جانبه، أَوْلَى المجلس العسكري الانتقالي أهمية كبرى لقضية العلاقة بحركات التمرد المسلحة، في مختلف بياناته ومؤتمراته الصحفية. ففي البيان الأول، دعا الفريق أول “عوض بن عوف” حاملي السلاح والحركات المسلحة إلى “الانضمام إلى حضن الوطن، والمساهمة في بنائه”. وبدوره، جدد الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” دعوته لحاملي السلاح إلى “الجلوس والتحاور للوصول لإقرار السلام والتعايش السلمي وفق أسس ومعايير جديدة”. وفي ظل الأوضاع الأمنية السائلة في السودان، وفي ظل انشغال المؤسسة العسكرية بإدارة البلاد سياسيًّا وتنفيذيًّا، قد تستغل بعض الأطراف الفرصة في تصعيد العنف لفرض أمر واقع جديد. وقد بدأت مظاهر هذا التحدي في الظهور المبكر بعد مقتل 14 من النازحين المقيمين في مخيم “كلمة” في دارفور، وهو ما أرجعه اللواء ركن “هشام خالد” المكلف بمهام والي جنوب دارفور إلى تحول المخيم لبؤرة للتفلتات الأمنية التي تتأثر بها البلاد نتيجة انتشار الأسلحة، ووجود بعض المتمردين من عناصر حركة تحرير السودان من فصيل “عبدالواحد محمد نور”. وعلى الرغم مما أبداه المجلس العسكري الانتقالي من انفتاح غير مسبوق تجاه الحركات المسلحة، تسعى بعض الأطراف السياسية المتحالفة مع حركات التمرد إلى استغلال هذه الحركات كورقة سياسية بحيث تدفعها لرفض مبادرة المجلس العسكري للسلام، كونه معلنًا من طرف واحد دون تفاوض حقيقي ودون تقديم حلول آنية للمسببات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للصراع. على هذا تظل قضية الحركات المسلحة واحدة من أكثر الملفات أهمية، والتي ستحظى بالكثير من الاهتمام خلال المرحلة الانتقالية.
3- تمثيل القوى السياسية في المؤسسات الانتقالية
إذا كانت طبيعة المؤسسات الانتقالية محل خلاف بين المجلس العسكري الانتقالي وبين قوى الحرية والتغيير، فإن تحديد هوية شاغلي المناصب في هذه المؤسسات يمثل -بدوره- قضية خلافية جديدة ستفرض نفسها بقوة بعد الاستقرار على عدد المؤسسات الانتقالية واختصاصاتها. فالمنطق العام للمجلس العسكري الانتقالي يمكن قراءته باعتباره داعمًا لتشكيل حكومة مدنية تتكون بالأساس من وزراء تكنوقراط من غير الحزبيين المشتغلين بالسياسة، على النحو الذي أكده الإعلان عن تولي شخصية مستقلة رئاسة هذه الحكومة.
وتتعارض هذه الرؤية مع ما تطرحه قوى الحرية والتغيير من البداية، والتي تدعم تعيين حكومة من “الكفاءات” وهو ما لا يعني بالضرورة من غير الحزبيين. فالقوى السياسية التي دعت للاحتجاجات ودعمتها منذ أربعة أشهر تتعجل الحصول على مكاسب سياسية ملموسة، خشية أن تؤدي خطة المجلس العسكري الانتقالية لفوات الفرصة التاريخية، سواء باستمرار العسكريين في السلطة أو بانتكاس “المسار الثوري” وعودة المؤتمر الوطني والقوى السياسية والاجتماعية المتحالفة معه بعد تغييرات شكلية.
وبين الرؤيتين المتباينتين تظهر رؤية وسيطة تتفق مع مطلب المجلس العسكري الانتقالي بتشكيل حكومة من غير الحزبيين، مع الالتزام بــــ”تعويض” قوى الحرية والتغيير بأن يُستحدث لها مجلس تشريعي انتقالي توافقي، يقوم بثلاث وظائف؛ إحداها تمثيلية، بأن يعكس تقاسمًا للمقاعد بين الأحزاب والتنظيمات الموقّعة على بيان الحرية والتغيير من دون اللجوء للانتخابات العامة. والثانية تشريعية، بأن يتولى المجلس مهمة التشريع التي تعد الآن من اختصاصات المجلس العسكري والتي يقوم بها عبر إصدار مراسيم. والثالثة رقابية، بأن يُمنح المجلس صلاحيات مراقبة أداء الحكومة غير الحزبية طوال الفترة الانتقالية. لكن يظل هذا المقترح مرتهنًا بقبول المجلس العسكري التنازل عن صلاحياته التشريعية، وبقبول قوى الحرية والتغيير التخلي عن أي دور تنفيذي، سواء بالمشاركة في عضوية المجلس السيادي أو في الحكومة الانتقالية.
4- الدستور الجديد
على العكس من حالات عديدة كان آخرها الحالة الجزائرية، اقتضت الأوضاع في السودان الإعلان منذ وقت مبكر عن تعطيل العمل بالدستور على النحو الذي تضمنه البيان الأول للمجلس العسكري الانتقالي. كذلك لم تكن المعارضة لتقبل الاحتكام إلى مواد الدستور بعد أن تضمن بيان الحرية والتغيير مطلبًا أساسيًّا نص على “إقامة مؤتمر دستوري شامل لحسم كل القضايا القومية، وتكوين اللجنة القومية للدستور”. وتفتح قضية صياغة الدستور الجديد الباب أمام العديد من النقاط الخلافية التي يُتوقع أن تكون محلًّا لتباين حاد في الرؤى بين المجلس العسكري الانتقالي وبين قوى الحرية والتغيير، وبين الأحزاب والتنظيمات المكونة لقوى الحرية والتغيير وبعضها بعضًا.
وتتمثل القضية الأولى في تحديد الخطوات الإجرائية التي يأتي في مقدمتها تشكيل الهيئة الوطنية المنوط بها صياغة الدستور الجديد، وما إذا كانت ستخرج في شكل لجنة محدودة من الخبراء، أو هيئة موسعة تمثل مختلف التوجهات السياسية السائدة في السودان، وفي هذه الحالة يظل من المهم تحديد ما إذا كانت هذه الهيئة ستحدد عضويتها بالانتخاب أم بالتعيين من قبل المجلس العسكري، أم بالتوافق بين المجلس العسكري والقوى السياسية؟.
ولا تقل الأبعاد الموضوعية في صياغة الدستور صعوبة عن الأبعاد الشكلية. فنظرًا للتفاوتات الكبيرة بين قوى الحرية والتغيير، يتوقع أن يتسبب عدد من القضايا في تعميق الفجوة بين أعضاء التجمع، وفي مقدمة هذه القضايا ما يتعلق بمدنية الدولة. ففي الوقت الذي أكدت فيه بيانات تجمع المهنيين مدنية الدولة كهدف رئيس للتحرك ضد الرئيس “البشير”، تضم قوى الحرية والتغيير طيفًا واسعًا من الأحزاب الإسلامية يمثل بعضها توجهات “تقليدية” كحزب الأمة والتجمع الاتحادي، ويمثل البعض الآخر تنظيمات “الصحوة الإسلامية” وفي مقدمتها المؤتمر الشعبي بصفته عضوًا في الإجماع الوطني أحد المكونات الأربعة لقوى الحرية والتغيير. وقد سبق للمؤتمر الشعبي أن كان ركنًا أساسيًّا في حكم “البشير”، خاصة في عقده الأول قبل الخلاف الذي وقع بين “البشير” وبين “حسن الترابي” مؤسس المؤتمر الشعبي عام 1999.
كما ستظهر قضية شكل الدولة (موحدة أم فيدرالية) كأحد محاور الخلاف المتوقع في ظل كون علاقة العاصمة (الخرطوم) بالأطراف في الشرق والغرب والجنوب واحدة من أكثر القضايا حساسية، والتي لا تزال تُلقي بظلالها عبر بؤر الصراع المسلح الذي لم يتم تسويته بعد في دارفور وجنوب كردفان. ويزيد من حساسية هذه القضية اشتراك عدد من الأجنحة السياسية لفصائل تمرد مسلحة في قوى الحرية والتغيير، والتي يتوقع أن يكون الدستور المعزز للفيدرالية خيارًا أول بالنسبة لها. ولن تكون قضية نظام الحكم في السودان أقل إثارة للخلاف بين وجهات النظر المتباينة، حيث تميل الأحزاب التقليدية السودانية إلى تبني نظام الحكم البرلماني الذي يرتبط في الخبرة التاريخية السودانية بالمراحل الأكثر “ديمقراطية” على العكس من النظام الرئاسي.
ثالثًا: المستقبل الغامض للمرحلة الانتقالية
ترتيبًا على ما تقدم، يظل مستقبل السودان عصيًّا على التنبؤ، في ظل تعثر التوافق حول المعالم الأساسية للمرحلة الانتقالية، وذلك بعد مرور نحو أسبوع من الإطاحة بالرئيس “عمر البشير”. ولا يأتي هذا الغموض بسبب إخفاء الأطراف الرئيسة الفاعلة في الأزمة لخططها المستقبلية، بل بسبب عدم تبلور هذه الخطط على نحو حاسم لدى مختلف الأطراف المحلية والدولية.
ويؤكد الطبيعة “الارتجالية” للأحداث الجارية في السودان ما شهده المجلس العسكري من صعوبات في التشكل، خاصة في أيامه الأولى في ظل رفض بعض القادة العسكريين المشاركة، وما أعقب ذلك من تغير في قيادة المجلس وتشكيله، وما واكب ذلك في المقابل من انقسامات بدأت في الظهور في صفوف قوى الحرية والتغيير، خاصة بعد التقاء المجلس العسكري بعدد محدود من قادة الأحزاب، الأمر الذي لم يأتِ نتاج قرار متفق عليه من جانب قيادة قوى الحرية والتغيير ليعكس غياب التماسك التنظيمي لقوى المعارضة السودانية التي لم يجمعها سوى السعي للإطاحة بالبشير.
وفي المقابل، لا يزال الموقف الدولي بدوره غامضًا، إذ لا يمكن اعتباره مؤيِّدًا بصورة كاملة للمجلس العسكري الانتقالي، ففي الوقت الذي أعلنت فيه روسيا اعترافها رسميًا بالمجلس، جاء الدعم الأمريكي مشروطًا بحدوث تغير كبير في قيادة البلاد وسياساتها، مؤكدًا على ضرورة نقل السلطة للمدنيين في أقرب فرصة. كما أعلن الاتحاد الأوروبي عدم اعترافه بالمجلس العسكري الانتقالي، داعيًا إلى تسليم السلطة في المرحلة الانتقالية للمدنيين، وهو ما تشابه مع موقف بريطانيا التي رفضت بصورة مطلقة الاعتراف بالمجلس العسكري كممثل للسيادة في السودان.
على هذا، تُحتم الضرورة ألا يستمر هذا الغموض بشأن المرحلة الانتقالية في السودان طويلًا، في ظل التحديات الأمنية والاقتصادية الجسيمة التي تواجه الدولة السودانية، والتي يفترض أن تدفع مختلف الأطراف المشاركة في المرحلة الانتقالية إلى الحسم السريع لمختلف القضايا العالقة، لتجنب مواجهة أوضاع أكثر صعوبة تتضاءل فيها أهمية الترتيبات السياسية أمام قضايا أخرى أكثر إلحاحًا وصعوبة.