بعد أن التزمت الحياد الأيام الأولى من الصراع، سارعت القوى المدنية السودانية إلى الانخراط في المشهد، بما يضمن إعادة صياغة المواقف والرؤى التي يمكن طرحها في أية مفاوضات مستقبلية نحو بناء عملية سياسية شاملة تشارك فيها القوى المدنية في مرحلة تالية على وقف إطلاق النار. ومن هذا المنطلق، بدأت القوى المدنية عدد من الجولات الإقليمية والاجتماعات التي سعت من ورائها إلى دعوة الأطراف العسكرية لوقف إطلاق النار، بالتوازي مع إعادة توحيد هيكلها وبلورة موقفها من قضايا السلام استعدادًا لعملية تفاوضية مستقبلية شاملة.
وفي هذا السياق، أجرى وفد تنسيقية القوى الديموقراطية والمدنية (تقدم) تقدم برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك زيارة إلى مصر ضمن جولاتها الإقليمية لشرح الأزمة السودانية والبحث في الحلول العاجلة لوقف الحرب، شملت ضمن لقاءات عديدة لقاء مع المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، بهدف البحث في الرؤى والتصورات المشتركة حول أبعاد الأزمة وحلولها المقترحة.
الانخراط في المشهد
مع انطلاق مباحثات جدة برعاية سعودية أمريكية، لمناقشة قضايا وقف إطلاق النار والمسائل الإنسانية، بدأت تتبلور رؤية أمريكية حول ضرورة إشراك القوى المدنية في مرحلة تالية، لضمان عملية انتقالية سياسية بمشاركة القوى المدنية، بعد أن سيطرت المسائل العسكرية على المشهد.
ومن هنا بدأت بوادر اخراط القوى المدنية في المشهد مع جولة الحرية والتغيير الخارجية في يوليو 2023، بعد أكثر من شهرين من الصمت، وشملت تلك الجولة (أوغندا – كينيا – تشاد – جنوب السودان- السعودية) وانتهت بمصر يومي 23، و24 يوليو حيث استضافت الحرية والتغيير في أعقاب عقد قمة دول الجوار في 13 يوليو 2023.
وخلال اجتماع الحرية والتغيير بالقاهرة، وعدت بالانفتاح على كافة القوى المدنية بما في ذلك الكتلة الديمقراطية، وإعادة توحيد الصف مرة أخرى، ومحاولة إشراك القوى المدنية التي لم توقع على الاتفاق الإطاري الذي أدى إلى اندلاع الصراع في نهاية المطاف.
واستتبعت تلك الجولة بعدد من الجولات إلى إثيوبيا وكينيا وأوغندا، إذ شهدت استضافت إثيوبيا اجتماعات الحرية والتغيير لإعادة توحيد القوى مرة أخرى، وبناء جبهة مدنية موسعة تضم أطياف القوى المدنية.
إعادة توحيد الجبهة
في إطار الجولات الإقليمية المشار إليها سابقًا، وفي ضوء الوعود التي طرحتها الحرية والتغيير في القاهرة في يوليو الماضي لإعادة توحيد قواها المنقسمة، بدأت بشكل فعلي من أديس أبابا الحديث عن إعادة توحيد الجبهة أثناء الزيارة التي قامت بها لإثيوبيا في 14 أغسطس 2023. واجتمعت الحرية والتغيير في أديس أبابا مرة أخرى في 17 سبتمبر 2023، للحديث عن الأوضاع الإنسانية وتوحيد الجبهة المدنية، وتزامن ذلك الاجتماع مع آخر مماثل عقدته قوى سياسي تحت مسمى القوى الوطنية تشمل مجموعة الكتلة الديمقراطية في إريتريا وذلك قبل أن تتوجه إلى جوبا في جولة إقليمية، إذ طرحت في إريتريا إعلان أسمرا، ينص على فترة انتقالية لمدة عامين، يرأسها رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان.
واجتمعت قوى الحرية والتغيير مرة أخرى في أديس أبابا في23 أكتوبر 2023،بمشاركة عبد الله حمدوك ومجموعة من لجان المقاومة ونقابات مهنية وتنظيمات للمجتمع المدني وشخصيات ورموز دينية، لبحث تشكيل جبهة مدنية عريضة تحت مسمى تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية” تقدم”، برئاسة عبد الله حمدوك، الذي فضل الاكتفاء بالاجتماع التحضيري حتى إجراء مزيدًا من التشاور مع عبد الواحد نور وعبد العزيز الحلو.
وخلال الاجتماعات التحضيرية تم الاتفاق على عقد عدد من الورش التي تناقش القضايا الخلافية لضمان توحيد الجبهة والإعلان عن المؤتمر التأسيسي خلال 8 أسابيع. وسعيًا لتطوير الموقف التفاوضي للقوى المدنية، أقرّ اللقاء التحضيري في الوثيقة المسماة ” وثيقة إنهاء الحرب وتأسيس الدولة السودانية”، التي أشارت في 10 بنود إلى عقد عدد من الورش تتضمن قضايا (الإصلاح الأمني والعسكري – العدالة الانتقالية ـــ إعادة البناء المؤسسي لأجهزة الدولة ــ صناعة دستور دائم ـــ البرنامج الاقتصادي لإعادة الإعمار ــ قضايا الولايات والحكم المحلي).
وفي 23 فبراير 2024، بدأت فاعليات ورشتي الترتيبات الدستورية والحكم المحلي في بالعاصمة الكينية نيروبي، ضمن الورش السابقة على إطلاق المؤتمر التأسيسي لتقدم، الذي حدد له منتصف مارس الجاري، قبل أن يتم إرجائه مرة أخرى لإبريل المقبل، حيث شارك في الورش أطراف سودانية وغير سودانية، على أن تجري تقدم فيما بعد نقاش أوسع حول مخرجات وتوصيات هذه الورش.
وفي 3 مارس الجاري، في كمبالا عاصمة أوغندا، عقدت ورشتي العدالة الانتقالية وإصلاح القطاع العسكري، في سياق رؤيتها لتطوير رؤية لإدارة الدولة ومعالجة القضايا الانتقالية. ومن المفترض أن هناك 4 ورش أخرى سيعقد اثنان منها قبل المؤتمر التأسيسي في إبريل، ليتناولا الموقف التفاوضي وقضايا العون الإنساني، بينما يتم تأجيل ورشتي السلام والإصلاح المؤسسي لما بعد المؤتمر التأسيسي حيث يتطلبان نقاشًا أوسع.
ومن المفترض أن تشكل هذه الورش الرؤية العامة للجبهة المعاد تشكيلها، بحيث تؤسس لموقف عام يتم في إطاره التفاوض المستقبلي، سواء مع القوى المدنية المتبقية مثل الكتلة الديمقراطية، أو التفاوض مع الأطراف العسكرية والحركات المسلحة لإعادة صياغة الانتقال السياسي المتعثر.
حراك تقدم الدبلوماسي
وبجانب التفاعلات الداخلية الرامية لتعزيز التماسك وتوحيد المواقف بين القوى المدنية، سعت “تقدم” للتواصل مع طيف واسع من الأطراف المؤثرة في المشهد السوداني وعلى رأسها طرفي الصراع حيث أرسلت خطابين منفصلين في 25 ديسمبر 2023 لكلٍ من البرهان وحميدتي لعقد لقاءات تضمن وقف الحرب، حيث وافق حميدتي على لقائهم في أديس أبابا، وتم توقع إعلان أديس أبابا بين تنسيقية تقدم والدعم السريع في الأول من يناير 2024، الذي يتضمن خارطة طريق لوقف الحرب، في الوقت التي لا تزال فيه القوى المدنية بانتظار لقاء البرهان.
وفي السابع من يناير 2024، خاطبت تقدم كلًا من عبد العزيز الحلو وعبد الواحد نور والحزب الشيوعي السوداني وحزب البعث العربي الاشتراكي ” الأصل”، في إطار التواصل مع كافة القوى المدنية، لضمان انخراط أكبر عدد من القوى المدنية. وشاركت ” تقدم” في القمة الاستثنائية للإيجاد التي عقدت في أوغندا في 18 يناير 2024، التي شهدت تغيب الوفد الحكومي بعدما جمدت الخارجية السودانية عضويتها في الإيجاد، لاتهام قادة ودول الإيجاد بالانحياز لحميدتي، ودلل على ذلك تأجيل الإيجاد للاجتماع الذي كان مرتقبًا بين البرهان وحميدتي، في أواخر ديسمبر، رغم تواجد حميدتي حينها في جيبوتي.
واتجهت تنسيقية القوى المدنية ” تقدم” مرة أخرى لجوبا في 31 يناير 2024، في إطار الجولات الإقليمية لبحث سبل السلام، والتي كان من المفترض خلالها لقاء كل من عبد الواحد نور رئيس ” حركة جيش تحرير السودان” وعبد العزيز الحلو رئيس ” الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال”، وكذلك عرض إعلان أديس أبابا وخارطة طريق للحل على الرئيس سلفاكير. وفي القاهرة في 14 فبراير الماضي، التقى وفد تقدم بالحزب البعث العربي الاشتراكي “الأصل”، ضمن الدعوة المقدمة سلفًا.
وخلال مشاركة حمدوك في القمة الأفريقية التي عقدت في أديس أبابا في فبراير الماضي، التقى بعدد من الدبلوماسيين وبممثلين للأمم المتحدة، بما فيهم المبعوث الأممي الجديد ” رمطان لعمامرة” والمعين حديثًا بعد استقالة سلفه ” فولكر بيرتس” في ضوء ضغوط المجلس السيادي عليه.
رؤى وتصورات مشتركة
بناءًا على الجولات السابقة والجهود الدبلوماسية المبذولة من جانب القوى المدنية لطرح الرؤى والتصورات المختلفة حول أبعاد الأزمة، والبحث كذلك عن سبل إيقاف الحرب وتفعيل المبادرات الرامية لوقف غير مشروط لإطلاق النار وتأمين المساعدات الإنسانية ومن ثم البدء في عملية سياسية شاملة؛ جاءت تلك الزيارة إلى مصر، استكمالًا لما بدأته من زيارات لعواصم الدول الإقليمية المختلفة.
وقد شهدت زيارة “تقدم” للقاهرة زيارة وفد التنسيقية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية وهو اللقاء الذي الذي شهد تبادل الرؤى والتصورات بين الجانبين عبر مناقشة جذور الأزمة والعوائق أمام القبول بوقف إطلاق النار واستمرار الصراع رغم ما طرحه حول المنامة من توافق على أغلب القضايا بين الطرفين المتحاربين.
وقد عكس اللقاء توافق مصري سوداني على المسببات والحلول للأزمة، التي باتت تمثل تهديدًا وجوديًا للدولة السودانية، التي بات يعاني فيها نحو 25 مليون مواطن من أزمة جوع حادة، علاوة على أزمة النزوج واللجوء المتصاعدة.
وأكدّ كافة الأطراف على ضرورة وقف إطلاق النار كمطلب حاسم وضروري لصون الدولة من الانهيار، ومن ثمّ البدء في الحديث عن القضايا الخلافية، في الوقت الذي تبدو فيه الرؤى أيضًا مجمعة على ضرورة توحيد المنابر ومنصات الوساطة الإقليمية، لتكون هناك منصة واحدة يمكن من خلالها ضمّ كافة الأطراف الفاعلة في الأزمة.
وفيما يتعلق بالقضايا الانتقالية وقضايا السلام، أوضح وفد “تقدم” استعدادهم لإعادة طرح كافة القضايا الانتقالية للنقاش ومراجعة القضايا الخلافية، بما يتواكب ومستجدات اللحظة الراهنة، على نحوٍ يضمن تحقيق أكبر قدر من التوافق بين كافة الأطراف السودانية، باستثناء أعضاء المؤتمر الوطني. وتطرق النقاش إلى ضرورة فتح نقاش مصري سوداني على مستوى النخبة وقادة الفكر، بما يضمن تكوين رؤية وتصورات مشتركة، بعيدًا عن اقتصار التدخلات على مستوى المؤسسات والسياسات الرسمية.
في الأخير، ترمي جولات تنسيقية القوى المدنية إلى دول الجوار بما في ذلك الزيارة الراهنة لمصر في إطار تنسيقية تقدم بعد التي عقدتها في يوليو الماضي في إطار الحرية والتغيير، إلى ضمان إعادة تشكيل وتوحيد الصف، بما يضمن تنسيق المواقف والرؤى المستقبلية ضمن أية عملية تفاوضية شاملة. وتأتي أهمية تلك الزيارة في ضوء الانفتاح المصري على كافة الأطراف السودانية المؤثرة والحاضرة في المشهد، بما يضمن خلق توافق يسهم في حلّ جذري وشامل للأزمة.