أعلن المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، اللواء “أحمد المسماري“، أن قوات الجيش بدأت التحرك في محور جديد ضمن مسارات عملية “طوفان الكرامة” لتحرير العاصمة طرابلس، كما أعلن تسمية رئيس لغرفة عمليات تحرير مصراتة. ويُرجّح أن تكون مدينة “سرت” هي الخطوة الأولى في محور التحرك الجديد، حيث تم الدفع بقوة عسكرية قوامها 500 جندي وقرابة 200 آلية مسلحة، تتجه من طبرق للالتحاق بغرفة عمليات سرت الكبرى والجفرة لتنفيذ مهمة عسكرية جديدة. ويتناول هذا المقال الوضع الميداني في مدينة “سرت”، ودوافع ترجيح كونها أول الأهداف على محور العملية الجديد، والسيناريوهات المُحتمل تطورها.
الوضع الميداني في مدينة “سرت”
تقع مدينة سرت تحت قبضة ميليشيات المجلس العسكري في مصراتة، وتنشط بها عدة تنظيمات مسلحة من مدن مصراتة وغريان والزاوية وصبراتة وسرت ذاتها. وأبرز هذه الميليشيات هي “البنيان المرصوص”، وهي تحالف يضم مجموعة ميليشيات تابعة لحكومة الوفاق (دعا رئيسها “فائز السراج” لتشكيلها عام 2016)، وتمثل القوة الرئيسة التي تعتمد عليها “الوفاق”، وتتركز قواتها في المنطقة الوسطى، خاصة في مدينة سرت وضواحيها. وتُشير تقارير إلى أن قياداتها تتلقى ملايين الدولارات من “تميم آل ثاني” أمير قطر، الذي التقى قياداتها وعلى رأسهم العميد “بشير القاضي”.
وبينما لعبت “البنيان المرصوص” دورًا في دحر “داعش” من المدينة، وخفض تأثيره في 2016؛ إلا أنها مارست بعض الجرائم ضد السكان، وشاركت في معارك ضد الجيش الوطني الليبي فيما بعد، كما ترتبط بجماعة الإخوان وتيار الإسلام السياسي والسلفية الجهادية. ويمكن عرض أبرز مكوناتها فيما يلي:
– “كتيبة درع ليبيا”: وهي تجمع لمجموعة من الميليشيات التي تتبع تنظيم الإخوان، وتتمركز بمدينة مصراتة، وضمتها حكومة الوفاق لقواتها، ويرأسها العقيد “محمد إبراهيم موسى”. ورغم أنها لا تُصنَّف ضمن القوات المسلحة النظامية؛ إلا أن أفرادها تحصّلوا على دعم مادي وعسكري بقرارات صدرت عن المؤتمر الوطني العام في ليبيا. كما شاركت في عدة هجمات على المدنيين خلال تظاهرات رافضة لجرائم الميليشيات.
– “غرفة عمليات ثوار ليبيا”: وهي تجمع ميليشيا إسلامية، تأسست في منتصف عام 2013، واتُّهمت بالضلوع في اختطاف رئيس الوزراء الليبي “علي زيدان” في أكتوبر 2013، واختطاف دبلوماسيين بالسفارة المصرية بطرابلس. ولاحقًا تم نقل تبعيتها إلى رئاسة الأركان العامة بحكومة الوفاق. ويُشار أيضًا إلى كونها إحدى أذرع “كتيبة درع ليبيا”.
– “الكتيبة 166 للحماية والحراسة”: وتتبع ميليشيات “فجر ليبيا”، وشاركت في عملية “الرمال المتحركة” لمواجهة عناصر تنظيم “داعش” في سرت، وتعمل تحت أمرة “محمد الحصان”.
– “قوة حماية وتأمين سرت”: وتتبع غرفة عمليات “البنيان المرصوص”، وتقوم بعمل مجموعة من الدوريات الأمنية في مناطق جنوب وشرق سرت، ويقع تحت قيادتها عدد من السرايا التخصصية، مثل “سرية الألغام ومخلفات الحرب”، ويقودها العميد “النعاس عبدالله”.
وتُعاني أغلب الكتائب في الفترة الأخيرة من غياب الدعم المفترض وصوله عبر حكومة طرابلس كالتسليح والرواتب؛ إلا أن هذا الدعم بدأ في الوصول بعد تحرك الجيش الوطني الليبي نحو طرابلس؛ حيث تريد حكومة الوفاق ضمان جهد وولاء تلك الميليشيات لصالحها.
ومنذ إطلاق عملية الجيش الوطني لتحرير طرابلس، شهدت سرت تحرك عدد من الميليشيات والمقاتلين التابعين لها إلى خارج المدينة؛ ليقوموا بدخول طرابلس قبل أيام من الجبهة الشرقية عبر تاورغاء، وتأمينها بناء على النفير الذي أطلقته حكومة الوفاق لفرض النظام، خاصة في ظل الانفلات الأمني بعد فرار مئات السجناء. الأمر الذي دفع الكتائب التي ظلت متمركزة في سرت إلى مطالبة حكومة الوفاق بالدعم والتعزيز بعد إعلان الجيش الوطني الليبي التحرك على المحور الثامن نحو طرابلس. وقد تم تداول عدد من المقاطع والأنباء حول تحرك قوات الجيش لتحرير المدينة.
دوافع التحرك نحو مدينة “سرت”
من المرجّح أن تكون مدينة “سرت” أولى نقاط الإمداد والارتكاز الاستراتيجية التي ستكون ضمن أهداف التحرك على المحور الثامن لتحرير طرابلس؛ وذلك بالنظر إلى أن السيطرة عليها ستحقق عددًا من الأهداف المهمة، يُعوّل عليها أن تلعب دورًا مهمًّا في سياق عملية “طوفان الكرامة”. ونوجز فيما يلي أبرز هذه الأهداف:
1- الضغط على الكتائب الموالية للوفاق: سيؤدي تحرك الجيش الوطني الليبي نحو سرت -كخطوة أولى في الطريق نحو مصراتة- إلى زيادة الضغط على الميليشيات الداعمة للوفاق، والتي أعلنت النفير وأرسلت مجموعات ضمن تشكيلاتها لمحاولة صد جهود الجيش الوطني الليبي لتحرير العاصمة؛ حيث ستتعدد الجبهات أمام تلك الكتائب، وستكون مجبرة على إعطاء أولوية لبعض منها، والتخلي عن البعض الآخر. ويُرجح أن تقوم الميليشيات بالتراجع أمام الجيش على جبهة سرت لتعزيز تواجدها في مصراتة ومحاور القتال الأخرى حول طرابلس.
2- تأمين مسار إمداد القوات على جبهات القتال، وذلك بالنظر إلى الموقع الجغرافي المهم لمدينة سرت، التي تقع في منطقة وسط بين طرابلس غربًا ومدينة بنغازي شرقًا. كما تقع شمال محافظة الجفرة (نقطة ارتكاز للجيش الوطني الليبي وتتحكم في وسط ليبيا)، ويمكن أن تتحرك كتائب مصراتة للسيطرة على مدنها وبلداتها لقطع خطوط الإمداد لقوات الجيش في “فزان” بالجنوب الغربي ومحاور التقدم حول طرابلس. لذا فإن السيطرة على سرت تضمن تأمين الدعم المتصل لقوات الجيش الوطني الليبي في الجنوب والغرب.
3- السيطرة على قاعدة (القرضابية) الجوية: تضم سرت مطار وقاعدة القرضابية -كبرى القواعد الجوية في ليبيا- التي لا تبعد عن مصراتة سوى نحو 250 كم فقط. وبناء على تفوق سلاح الجو بالجيش الليبي يُمكن عبر السيطرة عليها التمهيد لقطع خطوط دعم كتائب مصراتة على طول الجبهة الممتدة من طرابلس إلى الحدود التونسية، وكذلك فرض حصار مُحكم على مصراتة لتحييدها أو فتحها تبعًا لخطة القيادة العامة للجيش.
4- حشد الدعم لمعركة الحسم: تمثل مدينة سرت أهم مناطق ارتكاز قبيلة الفرجان -ينحدر منها المشير “حفتر”- وهي أكبر القبائل في ليبيا، وكانت عائلاتها في الشرق قد أعلنت دعمها للجيش الوطني. ومن ثم، يتوقع “حفتر” انضمام عدد كبير من المتطوعين والمقاتلين فور تحرير المدينة من قبضة الميليشيات، كون تلك التنظيمات أضرت بتلك المناطق والقبائل خلال الفترة الماضية.
سيناريوهات مُحتملة
في حالة تحول الجيش الوطني الليبي إلى التركيز على مدينة سرت كمحور ثامن نحو طرابلس، يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات لمستقبل هذا المحور.
السيناريو الأول: هو انسحاب الميليشيات من سرت مقابل التركيز على المحاور السبعة الأخرى حول طرابلس، ومن ثم نجاح الجيش الوطني الليبي في استغلال هذا الانسحاب ودخوله المدينة، وهو ما يعني قُرب حسم الصراع في المحاور الأخرى حول طرابلس؛ إذ سيعني سقوط سرت بدء الميليشيات في معركة البقاء أمام الجيش الذي يُمكن أن يتحرك إلى معاقلهم الرئيسة في مصراتة. وستتجه الميليشيات إلى أحد بديلين: إما التركيز على حماية مصراتة التي يعني سقوطها أو حصارها قطع الإمداد عن قواتها على محاور طرابلس، أو التمسك بصد “طوفان الكرامة” عن العاصمة طرابلس وهو ما سيكون أولوية لحكومة الوفاق. وقد يترتب على ذلك حدوث انقسام بين حكومة الوفاق وكتائب مصراتة، وتحول كل منهما للتركيز على أولوياته، ما قد يؤدي إلى انهيار إحدى الجبهتين: طرابلس أو مصراتة.
السيناريو الثاني: هو صمود ميليشيات سرت خاصة في حالة دعم مصراتة وحكومة الوفاق لها، وهو ما يعني خفض قدراتهم على المقاومة على محاور طرابلس الأخرى لصالح سرت، الأمر الذي قد يُمكّن الجيش الوطني من دخول طرابلس وإنهاء وجود الميليشيات بها، وتأجيل الحسم العسكري بمدينة مصراتة، بينما يكون المشهد السياسي في ليبيا موحدًا خلف البرلمان الليبي برئاسة “عقيلة صالح”، ودخول ليبيا مبكرًا لساحة الحل السياسي بعد تحييد التمثيل الذي حاولت حكومة الوفاق منحه للميليشيات والتيارات السياسية الدينية والإخوان المسلمين. وهذا السيناريو هو الأقل ترجيحًا؛ حيث ستظل الميليشيات وحكومة الوفاق على استراتيجيتها المتمسكة بإبقاء قبضتها على طرابلس بصورة أكثر إلحاحًا من المُدن الأخرى دون مصراتة.
السيناريو الثالث: يقوم على قدرة حكومة الوفاق وميليشيات مصراتة وسرت على الصمود لفترة طويلة دون سقوط أي من مدنها، بما يسمح لتحركات الفواعل الإقليمية والدولية لإقناع الجيش الليبي بإيقاف عملياته، أو استصدار قرار أممي بوقف القتال والتحول الى الحل السياسي. وهذا السيناريو مستبعد إذا وجد الجيش تمسك الأطراف الدولية بذات الضوابط التي تمنح تمثيلًا للتنظيمات والميليشيات المسلحة أو نفوذًا لحكومة الوفاق لا يتناسب مع المشهد الجديد، وهو ما يرفضه الجيش الوطني الليبي منذ انطلاق عملياته. فيما قد يكون هذا السيناريو محل تفكير إذا وجد الجيش مبادرة سياسية جادة تضمن تحييد الأطراف المسلحة بعيدًا عن المشهد السياسي، وتضعه في صدارة المشهد الذي يُمكّنه من إدارة المؤسسة العسكرية الموحدة التي يُراد الخروج بها من الحوار الوطني القادم، وعودة الشرعية للبرلمان الليبي المنتخب برئاسة “عقيلة صالح”.