أرسلت روسيا طائرتين تحملان 35 طنًّا من المعدات العسكرية، بجانب 100 جندي روسي إلى فنزويلا في نهاية شهر مارس الماضي، وهو ما أثار تساؤلات عدة حول طبيعة الدعم العسكري الروسي لفنزويلا، والدوافع الروسية لإرسال تلك الإمدادات، ودلالة توقيتها، وتداعياتها المحتملة، خاصةً في ظل الدعم الأمريكي لزعيم المعارضة الفنزويلي “خوان جوايدو”، وتصاعد الضغوط الأمريكية للإطاحة بالرئيس الفنزويلي “نيكولاس مادورو”.
طبيعة الإمدادات والمصالح الروسية
بنهاية شهر مارس الماضي، أرسلت موسكو طائرتين تابعتين للقوات الجوية الروسية من مطار تشالوفسكي العسكري الروسي إلى مطار مايكيتيا خارج كراكاس، تحت حراسة فرقة من الحرس الوطني الفنزويلي. وقد مرت الطائرتان بسوريا لتصل لفنزويلا عبر منطقة البحر الكاريبي؛ إحداهما طائرة ركاب من طراز Ilyushin IL-62، وثانيهما طائرة شحن من طراز Antonov AN-124، وذلك لتدريب وصيانة المعدات الاستراتيجية، والمشاركة في مشاوراتٍ ثنائية، في إطار التعاون العسكري بين الدولتين.
وقبيل ذلك، قامت الطائرتان برحلاتٍ منتظمة من مطار موسكو العسكري إلى قاعدةٍ جويةٍ روسية في سوريا. وقد حملت الطائرتان أطنانًا من المعدات العسكرية، وعددًا من الجنود الروس، يأتي على رأسهم “فاسيلي تونكوشكوروف” (قائد الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية في الفترة من أكتوبر 2013-مايو 2018، والرئيس الحالي للقوات البرية الروسية).
وعلى الرغم من تزايد الجدل بشأن طبيعة تلك القوات والهدف منها، إلا أنها تأتي كرد فعلٍ للتحركات الأمريكية المتسارعة ضد كاراكاس خلال الأسابيع الأخيرة. كما يجدر القول إنه سبق لروسيا بالفعل إرسال قاذفين استراتيجيين من طراز “توبوليف 160” إلى فنزويلا لدعم “مادورو”. كما أجرت الدولتان مناوراتٍ عسكرية مشتركة في ديسمبر 2018، وهي المناورات التي وصفها “مادورو” بأنها دليل على تقوية العلاقات بين الدولتين، بينما انتقدتها الولايات المتحدة باعتبارها انتهاكًا روسيًّا في المنطقة.
هناك مجموعة من الدوافع التي تقف وراء الدعم الروسي للرئيس الفنزويلي “مادورو” في مواجهة الولايات المتحدة.
سياسيًّا، هناك مصلحة روسية في الحفاظ على نظام الرئيس “مادورو”، ذلك أن نجاح الجهود الأمريكية في إزاحة “مادورو” سيترتب عليها تنصيب رئيس حليف للولايات المتحدة معادٍ لروسيا. من ناحية أخرى، سيترتب على ذلك تقويض كافة جهود التقارب الروسي-الفنزويلي التي بدأت منذ تسعينيات القرن العشرين في ظل القيادة الاشتراكية للبلاد.
ومن ثمّ، برزت روسيا كحليفٍ لإحكام قبضة “مادورو” على السلطة. وقد تجلى ذلك واضًحا في استخدام روسيا حق الفيتو داخل مجلس الأمن لعرقلة المقترحات الأمريكية بفرض عقوباتٍ دولية على فنزويلا. كما عارضت روسيا صراحة التحركات الأمريكية للاعتراف بزعيم المعارضة “خوان جوايدو” كرئيسٍ مؤقت للبلاد.
وجديرٌ بالذكر أن التحالف الوثيق مع فنزويلا يمنح روسيا موطئ قدم في أمريكا اللاتينية التي تُعد الفناء الخلفي للولايات المتحدة، ما يساهم في تعزيز المكانة العالمية التي تسعى إليها روسيا في إطار نظامٍ دولي متعدد الأقطاب، الأمر الذي يتطلب -في جزءٍ منه- تقويض الهيمنة الأمريكية، وممارسة دورٍ روسيٍ فاعل في أمريكا اللاتينية.
يتصل بما سبق تحول روسيا إلى المورّد العسكري الرئيسي لفنزويلا منذ انتخاب “هوجو تشافيز” رئيسًا للبلاد في عام 1999. ومنذ ذلك الحين، اشترت فنزويلا معداتٍ عسكرية من روسيا تقدر بمليارات الدولارات، إذ تُعد فنزويلا واحدة من أكبر الدول استيرادًا للتكنولوجيا العسكرية الروسية، ولديها طائرات حربية وصواريخ روسية مضادة للطائرات، وأنظمة أسلحة أخرى تتطلب الصيانة والتدريب. ومن ثم، من شأن النظام السياسي الفنزويلي ما بعد “مادورو” أن يؤثر سلبًا على حجم الصادرات العسكرية الروسية.
ولا تقل المصالح الاقتصادية الروسية لدى فنزويلا أهمية، فقد أنفقت شركة “روزنفت” الروسية حوالي 9 مليارات دولار للاستثمار في مشروعاتٍ نفطية في فنزويلا منذ عام 2010. وقدمت الشركة رأس المال المطلوب للملكية المشتركة لخمسة حقول نفطية. كما قدمت موسكو مليارات الدولارات كقروض لكاراكاس، معظمها بموجب ترتيباتٍ لسداد الديون المستحقة على النفط الفنزويلي.
وفي ظل تعثر مساعي التنقيب، تدين فنزويلا للشركة بما يقرب من 3 مليارات دولار. كما تمتلك الشركة حقلين للغاز البحري. وفي ضوء تلك الأهمية، يمكن فهم تزايد اهتمام “إيجور سيتشين” (رئيس روسنفت) بفنزويلا، ولقائه “مادورو” في نوفمبر 2018.
السيناريوهات المستقبلية
أسفر الوجود العسكري الروسي في فنزويلا عن ردود أفعال أمريكية واسعة النطاق؛ ففي محادثته التليفونية مع “سيرجي لافروف”، وصف “مايك بومبو” وزير الخارجية الأمريكية الوجود العسكري الروسي في فنزويلا بالسلوك غير البنّاء. وأكدت وزارة الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة ودول المنطقة لن تقف مكتوفة الأيدي، وأن لديها بالفعل قائمة من الخيارات للرد على الوجود الروسي في فنزويلا الذي يدعم النظام غير الشرعي لـ”مادورو”، ما قد يزيد من حدة التوتر. كما حذر البيت الأبيض من الدعم الروسي لفنزويلا بوصفه “تهديدًا مباشرًا” لأمن المنطقة.
وحذر “جون بولتون” (مستشار الأمن القومي) من محاولات نشر أصول عسكرية في فنزويلا أو في أي مكان آخر في أمريكا اللاتينية، بهدف إنشاء أو توسيع نطاق العمليات العسكرية، معتبرًا تلك المحاولات أعمالًا استفزازية تُهدد السلم والأمن الدوليين في المنطقة، مؤكدًا دفاع الولايات المتحدة عن مصالحها وحماية مصالح شركائها.
ومن المقرر أن تتصاعد العقوبات الأمريكية على الاقتصاد الفنزويلي في 28 أبريل 2019، بما يشمل ذلك فرض حظرٍ أمريكي على واردات النفط الخام، خاصةً أن الولايات المتحدة هي المستورد الأول للصادرات النفطية الفنزويلية. ومن المتوقع أن تؤدي هذه الخطوة إلى تجميد الموارد المالية المتناقصة بالفعل لحكومة “مادورو”. وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤثر سلبًا على قدرة النظام السياسي على سداد الديون الروسية.
في هذا الإطار، يمكن طرح عددٍ من السيناريوهات بشأن مستقبل أزمة فنزويلا:
السيناريو الأول- استعراض القوة: تؤكد وكالات الأنباء الروسية على الطابع الروتيني للقوات الروسية، كونها تأتي في إطار العقود العسكرية التعاونية الموقّعة منذ سنوات بين روسيا وفنزويلا. كما تؤكد على عدم إضرارها بالاستقرار الإقليمي. ومن ثمّ، يمكن القول إن القوات الروسية كان الهدف منها هو إرسال رسائل روسية قوامها الردع، واستعراض القوة، وتأكيد التواجد الروسي. كما تمثل في جوهرها استباقًا للتواجد العسكري الأمريكي، فقد صرّح “دونالد ترامب” بأن أحد الحلول الأمريكية المطروحة للتعامل مع الأزمة هو إرسال قوات عسكرية أمريكية إلى فنزويلا لإنهاء الأوضاع الخاطئة. وهو ما اعتبرته روسيا “انقلابًا” على الرئيس “مادورو”، فأسرعت بإرسال قواتٍ عسكرية إلى فنزويلا، لتطالب الولايات المتحدة موسكو بسحب جنودها.
ومن ثمّ، يُتوقع أن يقتصر دور تلك القوات على التعاون الفني والعسكري للحيلولة دون استيلاء الولايات المتحدة على النفط الفنزويلي، والحيلولة كذلك دون التدخل العسكري الأمريكي لاسقاط نظام “مادورو” من خلال حشد القوات العسكرية في كل من كولومبيا وبورتوريكو. وهو ما يتسق مع تصريحات الملحق العسكري الفنزويلي في موسكو بأن “العسكريين الروس الذين وصلوا إلى فنزويلا لن يشاركوا في أي عملياتٍ عسكرية”.
السيناريو الثاني- الحرب الأهلية: تتواجد القوات العسكرية الروسية وشبه العسكرية في عددٍ من المسارح الاستراتيجية لتحدي الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما في سوريا وأوكرانيا. وقد يشهد النظام الفنزويلي شكلًا من أشكال الحرب الأهلية بين نظام “مادورو” من ناحية والمعارضة من ناحيةٍ أخرى، لتتحول إلى حربٍ بالوكالة، في ظل دعم الولايات المتحدة زعيمَ المعارضة “خوان جوايدو” واعترافها رسميًّا برئاسته للبلاد في يناير 2019، وحشد الدعم الدولي له، حتى بلغ عدد الدول التي اعترفت به (50). وفي المقابل، يتمتع “مادورو” بدعمٍ قوي من كل من روسيا والصين، حرصًا من كلتيهما على حماية مصالحهما المشتركة مع فنزويلا، خاصة على الصعيد الاقتصادي، في ظل الموارد النفطية الفنزويلية.
السيناريو الثالث- التدخل العسكري الروسي: قد تكون القوات الروسية هي البداية لتدخل موسكو عسكريًّا في أزمة فنزويلا كما فعلت في سوريا. فقد تكون تلك الإمدادات والقوات المرسلة هي النواة الأولى لبناء جسرٍ جوي لإنشاء قاعدة عسكرية في فنزويلا. غير أن حجم القوات المرسلة وطبيعتها لا تكفي لإنشاء تلك القاعدة في الوقت الراهن. ويجب أن يسبق تطور هذا السيناريو بالضرورة استجابة قوية من جانب الولايات المتحدة قد تصل إلى حد التدخل العسكري للحيلولة دون الوجود الروسي في فنزويلا. وما يُدلل على ذلك تصريحات “دونالد ترامب” بأنه يتعين على روسيا أن تخرج من فنزويلا، وأن كافة الخيارات مفتوحة لإجبار روسيا على ذلك. ناهيك عن إجلاء الإدارة الأمريكية للدبلوماسيين الأمريكيين من فنزويلا في وقتٍ سابق.
إجمالًا، يزداد المشهد الفنزويلي تعقدًا؛ وعلى الأرجح لن يتجاوز رد الفعل الأمريكي الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية، وتصعيد العقوبات الأمريكية على روسيا. فلن تحاول الولايات المتحدة الدخول في صدامٍ عسكري مباشر مع الأخيرة، على الرغم من رفض روسيا سحب قواتها العسكرية، وذلك بالنظر إلى تداعيات التدخل الأمريكي في كلٍّ من: العراق، وأفغانستان، وسوريا، وبخاصة على الاقتصاد الأمريكي مقارنة بالمكاسب المتحققة منها.