سعى “دونالد ترامب” منذ توليه مقاليد الأمور بالولايات المتحدة الأمريكية إلى تبني سياسة أكثر صرامةً وحزمًا عن تلك التي تبناها “باراك أوباما” في عددٍ من الملفات، وعلى رأسها التعامل مع إيران. حيث عمد “ترامب”، منذ بداية حملته الانتخابية، إلى شيطنة طهران، واتهامها برعاية الإرهاب، ومن ثمّ فقد أعلن عن انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني الذي وقعته إدارة “باراك أوباما” مع إيران خلال عام 2015، كما انتهج سياسة فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على طهران من أجل إجبارها على تغيير سلوكها المُزعزِع لاستقرار المنطقة. وقد استمرت جهود الإدارة الأمريكية في عزل إيران إقليميًّا ودوليًّا، وهو ما تبلور مؤخرًا في حشد الجماعة الدولية خلال قمة وارسو التي عُقدت في الفترة من (13-14 فبراير 2019)، وذلك بغرض تطويق النفوذ الإيراني.
ويُعتبر قرار الإدارة الأمريكية في أبريل 2019 بإدراج الحرس الثوري الإيراني على قوائم الإرهاب، تحولًا نوعيًّا، وخطوة هي الأولى من نوعها، خاصة وأن هذا القرار يعني قيام واشنطن بتصنيف جزء من جيش دولة كمنظمة إرهابية في سابقة لم تحدث من قبل، وهو ما أسفر عن تصعيد مضاد من جانب طهران، إذ أعلن مجلس الأمن الأعلى في إيران إدراجه القوات الأمريكية العاملة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا والقرن الإفريقي ضمن القوائم التي تصنفها إيران على أنها إرهابية.
وعلى الرغم من جهود الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الرامية إلى إضعاف إيران اقتصاديًّا وعزلها سياسيًّا؛ إلا أن النشاط الإيراني لا يزال فاعلًا في منطقة الشرق الأوسط عبر توظيف طهران لوكلائها في عدد من العواصم والدول العربية (العراق، سوريا، لبنان، اليمن)، وهو ما أسفر عن صراع إقليمي متنامٍ بين إيران وعدد من القوى بمنطقة الشرق الأوسط، ومع ذلك فلدى إيران ووكلائها بالمنطقة نقاط ضعف يمكن استغلالها لتحجيم الدور الإيراني المتنامي، وهو ما عبّر عنه التقرير الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في مارس 2019، والمعنون “الحرب بالوكالة.. بصمة إيران المتنامية في الشرق الأوسط”، Seth G. Jones,” War by Proxy: Iran’s Growing Footprint in the Middle East”, Centre for Strategic and International Studies”, March 2019 الذي سلط الضوء على حدود وطبيعة الدور الذي يلعبه الحرس الثوري الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وعوامل الضعف التي يمكن استغلالها لوقف التدخلات الإيرانية في المنطقة. ونعرض فيما يلي أهم ما جاء في هذا التقرير.
الحرس الثوري.. النشأة والمهام
تأسس الحرس الثوري الإيراني في عام 1979، حيث رأى الإمام “الخميني” (قائد الثورة الإسلامية الإيرانية) ضرورة وجود قوة لحماية الثورة من التهديدات الداخلية والخارجية. وقد تبلورت فكرة تأسيس الحرس الثوري مع استمرار شكوك “الخميني” في ولاءات ضباط الجيش النظامي الإيراني، خشية أن تكون لديهم علاقات مع “محمد رضا بهلوي”. وقد ضم الحرس الثوري الإيراني قوات جوية وبرية وبحرية، بالإضافة إلى قوات الباسيج (التعبئة) وهي ميليشيا تطوعية تقوم بعدد من المهام من بينها: إدارة الأمن الداخلي، وفرض سيطرة الدولة على المجتمع، والقيام بمهام ضبط الأخلاق.
وبمرور الوقت، انبثق من الحرس الثوري الإيراني وحدة قوات خاصة عُرفت باسم “فيلق القدس”، والتي عملت على رفع تقارير خاصة للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية. كما نشطت في دعم حلفاء طهران في الخارج، وذلك من خلال تأسيس الوحدة 400 التي كانت بمثابة مركز تنسيق للعمليات الخارجية. وتعددت المهام الرئيسة لفيلق القدس لتشمل: جمع المعلومات الاستخباراتية، وتدريب وتجهيز وتمويل القوات المساندة لإيران في الخارج، والقيام بعمليات الاغتيال والتفجير، وارتكاب هجمات إلكترونية. وامتد نشاط “فيلق القدس” إلى عدد من البلدان والمناطق، ومنها العراق وسوريا ولبنان، وكذا شبه الجزيرة العربية، بالإضافة إلى أفغانستان.
وفي الوقت الذي يصل فيه عدد الجنود في الحرس الثوري الإيراني إلى أكثر من 125 ألف جندي، نجد أن فيلق القدس يضم بمفرده ما يقرب من 15 ألف جندي من إجمالي القوة البشرية للحرس الثوري.
وعمل الحرس الثوري على إقامة شراكات مع عدد من الفاعلين في منطقة الشرق الأوسط من خلال الدعم المالي واللوجيستي والاستخباراتي، الأمر الذي يدل على التزام طهران بأسلوب الحرب غير النظامية. وهناك جملة من العوامل ساهمت في تنامي دور الحرس الثوري في المنطقة، أبرزها: الغزو الأمريكي للعراق، وسيطرة التيارات الشيعية على الحكومة في بغداد. كما ساهمت أحداث الربيع العربي وما خلفته من تراجع لدور الدولة في عدد من البلدان إلى تنامي نفوذ إيران عبر وكلائها كما هو الحال في اليمن، إذ قامت إيران بتقديم الدعم الكامل للحوثيين ضد الحكومة اليمينة. ناهيك عن الأزمة السورية وما نجم عنها من زيادة عدد المقاتلين الشيعة، إذ قام “حزب الله” بنشر مقاتلين وتدريب وتمويل عدد من الميليشيات الشيعية لدعم نظام الأسد.
طهران.. والنفوذ عبر الوكلاء الإقليميين
عملت طهران على تقديم مساعدات عسكرية وغير عسكرية لشركائها في عدد من البلدان والمناطق، الأمر الذي عزز من نفوذها وزاد من قدراتها على التأثير في السياسات الإقليمية.
1- لبنان:
يعتبر “حزب الله” اللبناني هو الشريك الرئيس للحرس الثوري وعناصر فيلق القدس، إذ سعت طهران لتحسين القدرات العسكرية لحزب الله من خلال إمداده بمنظومة دقيقة من أنظمة التسليح، وذلك بغرض توسيع وتحديث المخزون العسكري لدى “حزب الله”، سواء فيما يتعلق بالصواريخ، أو القذائف والطائرات بدون طيار. ومن بين هذه الأسلحة الصواريخ الباليستية قصيرة المدى من طراز M-600، وفاتح 110، بالإضافة إلى صواريخ طوفان الموجهة المضادة للدبابات، وأنظمة كورنيت “Kornet” المضادة للدبابات، وكذا حاملات الجنود M113، والدبابات القتالية من طراز T-72، بالإضافة إلى المركبات الجوية القتالية بدون طيار من طراز كرار “karrar”، وقاذفات الصواريخ كاتيوشا.
من ناحية أخرى، تمكن “حزب الله” من الانخراط بشكل مباشر في الحياة السياسية اللبنانية، عبر زيادة حصته الانتخابية في برلمان 2018، كما واصل الحزب زيادة نفوذه عبر توليه ثلاث حقائب وزارية في الحكومة اللبنانية التي تشكلت في يناير 2019، وهو ما حذرت من عواقبه الولايات المتحدة خوفًا من استغلال خدمات الوزارة في تحويل الأموال أو القيام بأنشطة لدعم أجندة “حزب الله”.
2- اليمن:
قدّم الحرس الثوري الإيراني مساعدات لجماعة الحوثي في اليمن من خلال إمدادها بالصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار، والتي لجأ الحوثيون لاستخدامها في عدد من الهجمات البرية ضد أهداف بالمملكة العربية السعودية والإمارات. وقد سعت إيران من خلال دعمها للحوثيين إلى تحقيق عدد من الأهداف، منها: الإبقاء على النفوذ الإيراني في البحر الأحمر، والعمل على إضعاف السعودية والإمارات.
وخلال عام 2016، ومع تصاعد حدة الصراع في اليمن، قدمت إيران مزيدًا من المساعدات العسكرية للحوثيين، إذ زودت الحوثيين بالصواريخ الموجهة المضادة للدبابات، والألغام البحرية والطائرات بدون طيار. ومن بين هذه الأسلحة صواريخ كاتيوشا، وأنظمة دفاع جوي من طراز Misagh-2، وكذا أنظمة الدفاع الجوي المحمولة MANPADS، والصواريخ من طراز Borkan-2H، ومنظومة قاهر الصاروخية قصيرة المدى، بالإضافة إلى الصواريخ الباليستية والزوارق المُتفجرة وأنظمة الرادارات.
3- العراق:
يتزايد النفوذ الإيراني في العراق بشكل كبير عبر وكلاء إيران وأذرع الحرس الثوري الإيراني وعناصر فيلق القدس، حيث نجحت إيران في تعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري في العراق. وساعدت طهران الميليشيات العراقية في بناء قدراتها في إنتاج الصواريخ، وذلك من خلال مصانع تطوير الصواريخ في منطقة جرف الصخر والزعفرانية. وقد زودت عناصر الحرس الثوري بعض الميليشيات العراقية بصواريخ باليستية وصواريخ موجهة مضادة للدبابات ATGMs، وناقلات جنود، ومدفعية، ومركبات جوية بدون طيار، وكذا منظومات الدفاع الجوية المحمولة. وقد ساهمت عدة ميليشيات عراقية بجانب قوات الحرس الثوري الإيراني وعناصر فيلق القدس في تحرير عدد من المدن (تكريت، الفلوجة، الرمادي، تلعفر، الموصل) من قبضة “داعش”. وقد ذكرت بعض التقارير أن القوات الشيعية التي يقودها فيلق القدس في الموصل عام 2017 والتي شاركت في ساحة المعركة ضد “داعش” كانت قد بلغت نحو 10 آلاف جندي.
في السياق ذاته، يتبلور النفوذ الإيراني في العراق عبر ميليشيا “الحشد الشيعي”، والتي تنقسم إلى ثلاث مجموعات أساسية؛ الأولى: هي تلك التي تعلن ولاءها للمرشد الإيراني الأعلى، وتربطها علاقة وثيقة بالحرس الثوري الإيراني، ومنها: مؤسسة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب سيد الشهداء، وكتاب حزب الله العراقية وحركة النجباء. الثانية: تلك التي تضم المجموعات الموالية لـــ”علي السيستاني” (المرجع الديني الأكبر للشيعة حول العالم) والذي أصدر فتوى في يونيو 2014 دعا فيها المقاتلين للانضمام إلى المؤسسات الأمنية للحكومة العراقية بدلًا من الانضمام للجماعات المرتبطة بإيران، ومن بين هذه الجماعات: سرايا العتبة العباسية، وسرايا العتبة العلوية، وسرايا العتبة الحسينية. ومثلت المجموعة الثالثة الكتائب الموالية للزعيم الشيعي “مقتدى الصدر” وفي مقدمتها “سرايا السلام”.
4- سوريا:
عمدت إيران منذ اندلاع الأزمة السورية إلى تقديم الدعم لنظام الأسد، وذلك من خلال قيامها بتدريب وتمويل أكثر من 100 ألف مقاتل شيعي، وكذا توفير أسلحة خفيفة وثقيلة للنظام والميليشيات السورية. ووفقًا لبعض التقديرات، فقد أنفقت إيران حوالي 16 مليار دولار في سوريا خلال الفترة (2012-2018). ويعود هذا الدعم إلى مجموعة من الأسباب، يأتي في مقدمتها تخوف إيران من صعود الجماعات السنية المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، حيث ساهم نحو 3000 من عناصر الحرس الثوري وفيلق القدس في تنفيذ وتخطيط عمليات عسكرية محددة، ومن بينها عملية “فجر النصر” التي انطلقت في ديسمبر 2016 بهدف استعادة سيطرة النظام على حلب.
وقد نشر “حزب الله” اللبناني نحو 8000 مقاتل في سوريا، كما عمل على تقديم المشورة والمساعدة وتدريب الشيعة وغيرهم من الجماعات غير الحكومية التي عرفت باسم “المقاومة الإسلامية في سوريا”، ومن بين هذه الجماعات قوات “الرضا” التي نشرت قوتها في عدد من المحافظات السورية، وفي مقدمتها حمص، وكذا جماعة “الغالبون” “سرايا المقاومة الإسلامية في سوريا” التي نشطت في محافظات درعا والقنيطرة، بالإضافة إلى جماعة “لواء الباقر” التي تمركزت في حلب.
ولم تقتصر تحركات عناصر الحرس الثوري وقوات فيلق القدس على هذا النطاق فحسب، بل اتسع نطاقها وتمددها ليصل إلى الساحة الأفغانية وذلك من خلال تدريب ودعم وتمويل ما يقرب من 10 آلاف إلى 15 ألف مسلح تحت لواء “الفاطميون”، ومن ثم نشرهم في ساحة القتال السورية لدعم قوات الأسد، خاصة في مناطق حلب، درعا، دمشق، حماة، حمص، اللاذقية، تدمر، دير الزور. وبالمثل عمل الحرس الثوري الإيراني على تدريب وتمويل نحو 2000 مقاتل باكستاني تحت لواء “الزينبيون” واستخدامهم في الساحة السورية. كما يوجد لدى عناصر الحرس الثوري وكلاء في مناطق أخرى مثل إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، بحسب ما جاء في التقرير.
تحديات قائمة
أشار التقرير إلى مجموعة من التحديات المهمة التي تواجه تنفيذ هذه السياسة الإيرانية من خلال قوات الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس ووكلاء إيران الإقليميين، حددها فيما يلي:
1- تأزم الوضع الاقتصادي: حيث يُمثل العامل الاقتصادي تحديًا كبيرًا أمام إيران، إذ إن الاستمرار في توفير الموارد والدعم لقوات الحرس الثوري الإيراني ووكلاء إيران الإقليميين قد يؤدي إلى انعكاسات سياسية كبيرة على الداخل الإيراني، خاصة في ظل تقديرات صندوق النقد الدولي التي تُرجّح انكماش الاقتصاد الإيراني بنسبة 3.6% خلال عام 2019 وذلك بسبب العقوبات الأمريكية على إيران، وانخفاض إنتاج النفط، ناهيك عن توقعات بأن يصل معدل التضخم إلى 50% خلال العام المُقبل. وبالمثل، يرى البنك الدولي أن إيران ستتأثر بتراجع الصادرات وتراجع في حجم الطلب وقطاع الصناعة، وهو ما يضر بدوره بالحرس الثوري الذي يسيطر على عدد من الشركات والمؤسسات العاملة في مجال البناء والبتروكيماويات والإسمنت.
2- المواقف العراقية المتباينة: حيث يُنظر إلى تباين وجهات النظر والمواقف العراقية تجاه إيران، خاصة في الأوساط الشيعية، على أنه من مصادر التهديد ونقاط الضعف التي تواجه إيران في العراق، إذ نجد أن “علي السيستاني” (المرجع الشيعي العراقي) لا يؤمن بنهج “الخميني” فيما يتعلق بولاية الفقيه، ويتجنب المشاركة الدينية المباشرة في العملية السياسية. كما أن القومية العراقية والمشاعر المعادية لإيران بين العراقيين ما زالت قائمة منذ الحرب العراقية الإيرانية، ناهيك عن حالة الاحتقان العراقي تجاه إيران، ورفض دورها ونفوذها في المناطق السنية، بالإضافة إلى الخلافات الأيديولوجية مع “مقتدى الصدر”، فضلًا عن مواقفه من العروبة التي تتعارض مع أفكار “الخميني” المناهضة للقومية.
3- انحسار الدور الإيراني: لفت التقرير إلى أن إيران تعاني من عزلة شديدة بفعل الضغوط الدولية، فقد تراجع دورها بشكل كبير في عدد من المناطق التي كانت تمارس فيها النفوذ، إذ تشير الاستطلاعات إلى تراجع الدور الإيراني بشكل كبير في منطقة الشرق الأوسط، حيث ساهمت الأعمال الإسرائيلية في تحجيم النشاط الإيراني في سوريا، كما ساهم الدعم السعودي للحكومة اليمنية في تطويق الحوثيين في اليمن. وقد نوه التقرير إلى ضرورة التنسيق بين الدول وبعضها بعضًا فيما يتعلق بجمع المعلومات الاستخباراتية والعمل العسكري المحدود لمنع تراكم الصواريخ الإيرانية في سوريا ومن ثم استعادة نفوذها مرة أخرى.
وقد خلُص التقرير إلى أن النشاط الإيراني المستمر بحاجة إلى تعاون فعال بين الولايات المتحدة الأمريكية والحكومات في أوروبا ودول منطقة الشرق الأوسط من أجل التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة.
___________________________________________________
للاطلاع على التقرير انظر:
Seth G. Jones,” War by Proxy: Iran’s Growing Footprint in the Middle East”, Centre for Strategic and International Studies”, March 2019, Available at, https://csis-prod.s3.amazonaws.com/s3fs-public/publication/190312_IranProxyWar_FINAL.pdf