في سياق اندلاع عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي، والحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، كان لحزب الله دور مساند ومتضامن مع حركة حماس، وشهدت الحدود اللبنانية-الإسرائيلية توترًا متصاعدًا، إذ توالت الهجمات المتبادلة بين الطرفين والتي نتج عنها قتلى ومصابون، فضلًا عن تدمير بعض المنشآت. وفي مساعي دولية لاحتواء التوترات في الجبهة اللبنانية، وعدم الانجراف إلى حرب أوسع نطاقًا، بذلت جهود دبلوماسية أمريكية وفرنسية للتهدئة بطرح بعض الخيارات البديلة، فهناك رغبة دولية في عدم اتساع دائرة الصراع بما يُرتب دخول أطراف أخرى، وقد قدمت لبنان ردًّا على المقترح الفرنسي. فهل تنجح هذه الجهود الدبلوماسية في التهدئة بين حزب الله وإسرائيل؟
أولًا: توترات الحدود
تمتع السكان على جانبي الحدود بفترة من الاستقرار والهدوء فيما بعد إطلاق الجماعات الفلسطينية المسلحة هجمات على إسرائيل عبر الحدود من لبنان في مطلع سبعينيات القرن العشرين، وحتى اندلاع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي، ثم جاء انخراط حزب الله وإسرائيل في هجمات متبادلة على الحدود، حيث قام الطرفان بتجاوز تطبيق القرار 1701 الذي نصّ على عدم وجود كيانات مسلحة غير تابعة للدولة اللبنانية جنوب نهر الليطاني، والذي يمر بموازاة الحدود على مسافة تتراوح بين 5 و35 كم إلى شمالها، كذلك انتهكت إسرائيل القرار الدولي بانتهاك المجال الجوي اللبناني، فضلًا عن استمرار احتلال أراضي لبنان في الجزء الشمالي من الغجر وهي قرية حدودية يقع نصفها الجنوبي داخل مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل.
ومنذ بدء عملية طوفان الأقصى، استمرت التوترات بين حزب الله وإسرائيل، وتفاقمت مخاوف الطرفين من تمدد الحرب خاصة بعد اغتيال إسرائيل لقيادات بارزة منهم “صالح العاروري” نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في ضاحية بيروت الجنوبية على بعد 100 كم من الحدود، على إثر توجيه ضربة جوية إسرائيلية في 2 يناير 2024، كذلك تم اغتيال “وسام الطويل” القائد في قوات الرضوان التابعة لحزب الله في الشهر ذاته. وقد توعد حزب الله بالرد على هذه الاغتيالات. بالإضافة إلى توجيه ضربات إسرائيلية إلى مواقع الحزب في جنوب لبنان في كفر كلا، فكان الرد من جانب حزب الله بقصف مدفعي وصاروخي داخل إسرائيل.
وأطلق حزب الله هجمات كثيفة على موقعين عسكريين إسرائيليين، كما أطلقت إسرائيل عملية قصف واسعة في جنوب لبنان، وهدد “حسن نصر الله” الأمين العام لحزب الله بدفع إسرائيل ثمن قتل المدنيين، في السياق ذاته وجرّاء القصف المتبادل تعرض برج مراقبة داخل موقع لليونيفيل للقصف بالقرب من منطقة إبل القمح في جنوب لبنان، بما قاد إلى أضرار في هيكل البرج، كذلك تم توجيه غارة جوية إسرائيلية على مركزين للقيادة العسكرية لحزب الله، ومستودعات للأسلحة في بعلبك شمال شرق لبنان على بعد حوالي60 ميل من الحدود. وأثارت نيران الصواريخ وهجمات المُسيّرات عبر الحدود خطر التصعيد إلى حرب واسعة النطاق.
ثانيًا: عوامل محفزة
ثمة بعض العوامل المُحفزة التي قد تدفع إلى التهدئة بين حزب الله وإسرائيل تتمثل في:
• ضغوط داخلية: توجد ضغوط داخلية شعبية على الحكومة الإسرائيلية نتيجة نزوح سكان المنطقة الشمالية جرّاء القصف المتبادل بين إسرائيل وحزب الله، ويتراوح أعدادهم ما بين 80-100 ألف إسرائيلي، بهدف اتخاذ خطوات فعلية للعودة بأمان إلى مناطقهم، وبما يُتيح استعادة الأمن على الحدود.
من ناحية ثانية، يواجه حزب الله مأزق تهديد أمن المدنيين في ظل تهجير أكثر من 85 ألف مواطن من الجنوب بالإضافة إلى الأضرار التي تعرضت لها منازلهم، والبنية التحتية، والأراضي الزراعية، فضلًا عن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها لبنان منذ عام 2019، بما لا يجعلها قادرة على تحمل أخطار حرب ممتدة، من ناحية ثالثة لن تتحمل لبنان خطر هجمات إسرائيلية على المناطق التي يقطنها الشيعة في ضواحي بيروت الجنوبية ووادي البقاع وجنوب لبنان في ظل اتهامات إسرائيلية للحزب بتخزين جزء كبير من الأسلحة بين المدنيين، ومثل هذه الهجمات سوف تقود إلى كارثة إنسانية بنزوح نحو مليون شخص، وهي كارثة تهدد لبنان والدول المجاورة.
كذلك يُمثل خيار التصعيد عامل قلق للطرفين، بما يصعب السيطرة عليه، ويترك مناطق في جنوب لبنان وشمال إسرائيل في حالة من الدمار؛ الأمر الذي يُهدد أمن المواطنين من الدولتين، ويُعيق قدرتهم على العودة إلى حياتهم بشكل طبيعي في ضوء استمرار التوترات وحالة الردع المتبادلة.
• ضغوط خارجية: بالرغم من الدعم الذي تتلقاه إسرائيل في سياق الحرب الدائرة، إلا أن الأطراف الدولية تُدرك جميعها مخاطر الحرب على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، وربما ذلك ما دفع إيران إلى بدء عدة جولات إلى أذرعها بهدف الحفاظ على مستوى منضبط من التصعيد، ومن ناحية أخرى الحفاظ على محورية حزب الله في الاستراتيجية الإيرانية الدفاعية في مواجهة إسرائيل.
ويبدو أن هناك توافقًا على خيار عدم تصعيد الحرب، وتوسيعها حتى لا تضطر إلى انخراط إيران أو الولايات المتحدة بها، خاصة أن استمرار الأذرع الإيرانية في الحرب قد يقود إلى مواجهة مباشرة من جانب إيران وهو السيناريو الذي لا ترغب واشنطن في تحققه، لذلك تقوم بجهود حثيثة للوساطة والتهدئة بين إسرائيل وحماس أو بين حزب الله وإسرائيل.
كذلك أظهرت الجولات الإيرانية الحرص على ضبط حدود التصعيد مع الولايات المتحدة، فكانت زيارة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني “إسماعيل قاآنى” إلى العراق في فبراير الماضي، وحثّ الجماعات المسلحة العراقية على وقف هجماتها على القوات الأمريكية في العراق وسوريا، كذلك زيارته إلى بيروت في الشهر ذاته بهدف التنسيق حول التصعيد الدائر في لبنان، لكن اللافت في هذه الزيارة الرسائل التي بعث بها الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله” في محاولة لطمأنه إيران، وربما إرسال تهديدات وردع الجانب الإسرائيلي بتعبيره بأنه “لا يريد أن تنجر إيران إلى حرب مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، وأن حزب الله سيقاتل بمفرده، قائلًا “هذه معركتنا”، وبالرغم من هذه التهديدات إلا أن إيران تمتلك أدوات ضبط تحركات أذرعها في المنطقة.
ثالثًا: خيارات بديلة
بُذلت جهود دبلوماسية أمريكية وفرنسية خلال الفترة الماضية في سبيل التهدئة بين الطرفين، وطرحت بعض الخيارات البديلة تجنبًا لسيناريو التصعيد أو توسع الحرب على النحو الآتي:
تضمن المقترح الفرنسي الذي تم تقديمه في 13 فبراير الماضي من وزير الخارجية الفرنسي “ستيفان سيجورن” للمسئولين في لبنان، إنهاء التصعيد بين الطرفين، وانسحاب حزب الله على بعد 10-12 كيلو متر شمال الحدود، وتفكيك المباني والمنشآت القريبة من الحدود، وسحب القوات القتالية بما فيها قوات الرضوان، ونشر 15 ألفًا من الجيش اللبناني في المنطقة الحدودية بجنوب لبنان، بالإضافة إلى وقف الانتهاكات الجوية الإسرائيلية، وإنشاء لجنة رباعية من (فرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل ولبنان) لمراقبة أي خروقات، والتفاوض حول ترسيم الحدود البرية.
لم يختلف الطرح الأمريكي كثيرًا، وخلال لقاء المبعوث الأمريكي ” آموس هوكستين” بـرئيس الحكومة المؤقتة “نجيب ميقاتي” ورئيس البرلمان “نبيه بري” وعدد من المعارضة اللبنانية في 4 مارس الجاري، قد طرح خيار تضييق الخلافات بين إسرائيل ولبنان حول الحدود البرية، خاصة بعد نجاحه في التوصل إلى اتفاق بشأن الحدود البحرية بينهما في العام 2022، وكان قد أجرى مناقشات أولية قبل اندلاع أحداث 7 أكتوبر حول 13 نقطة حدودية برية متنازع عليها، منها مزارع شبعا، وهي منطقة جبلية غير مأهولة تمتد على طول الحدود الجنوبية الشرقية للبنان، وفي سبيل تهدئة التوترات الحالية طرح فكرة انسحاب حزب الله إلى مسافة ما بين 8- 10 كيلو متر من الحدود، بالإضافة إلى زيادة عدد أفراد الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني، ودعم القوات المسلحة اللبنانية وتعزيز انتشارها بما يخفض من دور حزب الله، خاصة أن الحزب يتمتع بعلاقات جيدة مع الجيش اللبناني بما قد يقبل خيار توسيع وجود القوات المسلحة اللبنانية في الجنوب.
بالإضافة إلى عودة المدنيين اللبنانيين والإسرائيليين إلى منازلهم، ثم الاتفاق على ترسيم الحدود البرية بين الدولتين وتسوية النزاعات حول المنطقة المحاذية للخط الأزرق المجاورة للحدود والذي رسمته الأمم المتحدة في العام 2000، فضلًا عن تقديم دعم مالي للبنان في ظل أزمتها الاقتصادية، وانخفاض قيمة عملتها.
رابعًا: رؤى متباينة
تختلف آراء حزب الله وإسرائيل حول الخيارات المطروحة، إذ يرغب حزب الله في انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، وأن تكون هناك منطقة آمنة في الجليل في شمال إسرائيل تشرف عليها قوات اليونيفيل في مقابل المنطقة الآمنة التي تطالب بها إسرائيل، وأن يكون الانتشار العسكري للطرفين بعيدًا عن الحدود، وهو ما لا ترغب فيه إسرائيل، إذ توجد الأخيرة من خلال قواتها في الطرف الشمالي من قرية الغجر، التي تقع على الجانب اللبناني من الخط الأزرق منذ نهاية حرب عام 2006.
بينما تقترح إسرائيل الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي أنهى الحرب في عام 2006، وبقاء المليشيات المسلحة غير الخاضعة لسلطة الدولة بعيدة عن الحدود، وعدم نشر قوات حزب الله جنوب نهر الليطاني الذي يبعد حوالي 18 ميلًا شمال الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، وتوسيع قوات حفظ السلام في جنوب لبنان “اليونيفيل” والتي يُقدر عدد قواتها بنحو 10-12 ألف فرد.
إلا أن محاولات تغيير مهمة اليونيفيل قد تواجه فيتو، خاصة أن روسيا والصين امتنعتا عن التصويت على تجديد تفويض اليونيفيل في أغسطس الماضي، اعتراضًا على نص ينتهك السيادة اللبنانية، لذلك فإن أي مشروع قرار يهدف إلى تحويل اليونيفيل قوة قسرية سيواجه الفيتو.
وبالرغم من التزام لبنان بالقرار 1701، لكن لا تستطيع الدولة اللبنانية فرض نشر القوات المسلحة اللبنانية، وإجبار حزب الله على الانسحاب من الحدود، كما أن الدبلوماسيين في الدول التي تسهم بقوات في اليونيفيل لن يغامروا بفرض قرار بالقوة على حزب الله بما يعرض جنودهم للخطر.
ومن ثَمّ تهدف إسرائيل دفع حزب الله إلى شمال نهر الليطاني ووجود قوات دولية في مزارع شبعا وشمال قرية الغجر، ووجود منطقة آمنة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من الأسلحة فيما عدا وجود القوات الدولية أو الجيش اللبناني، بالإضافة إلى مناقشة ملف اختيار الرئيس في لبنان وكذلك قائد الجيش اللبناني.
لكن يرفض حزب الله الانخراط في ترتيبات أمنية مستقبلية في الجنوب في ظل استمرار الحرب في غزة، وفي الوقت ذاته لن يقبل بخيار الحد من الوصول إلى الحدود ما لم يتم الالتزام بالقيود ذاتها من جانب إسرائيل. كما أن خيار نقل مواقع حزب الله إلى شمال نهر الليطاني لن يحل معضلة الأمن بالنسبة لإسرائيل، خاصة بعد تطوير الحزب لقدراته العسكرية والدعم المستمر الذي يحصل عليه من إيران؛ الأمر الذي قد يدفع إلى استمرار مواجهة الحزب عسكريًا لهزيمته وليس فقط ردعه.
وبالرغم من أن حزب الله ربط بين التهدئة في غزة والتهدئة في جبهة لبنان، وأن انتهاء حرب غزة تلغي المنطق وراء استمرار هجمات حزب الله على الحدود، لكن تظل التخوفات الإسرائيلية من استمرار خيار التهديد من قبل حزب الله، خاصة أن وحدة الرضوان في حزب الله استعرضت قوتها العسكرية في مايو الماضي عبر غارات وهمية عبر الحدود، ومن ثَمّ يمثل قرب قوات حزب الله من الحدود تهديدًا أكبر لإسرائيل، لذلك تصر على وجود منطقة أمنية عازلة في جنوب لبنان، لمنع أي هجمات مفاجئة عبر الحدود الشمالية.
وتشير التجارب في الماضي إلى وجود منطقة غير مأهولة على الحدود في عامي 1978و1982 عندما احتلت إسرائيل جنوب لبنان بهدف إخراج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان في منتصف وأواخر تسعينيات القرن العشرين، لكن القتال تصاعد آنذاك في المنطقة الأمنية التي سيطر عليها الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان بمساعدة الجناح العسكري لحزب القوات اللبنانية.
كذلك، فإن تمدد إسرائيل في هذه المنطقة يرتب تداعيات أكثر خطورة ويجعل شمال إسرائيل منطقة لا يمكن العيش بها في ظل امتلاك حزب الله لترسانة قوية، وأن أي قرار إسرائيلي بغزو بري لتأسيس منطقة عازلة في جنوب لبنان يرتب أضرارًا مدنية، ويدفع إلى تصعيد لا يمكن السيطرة عليه، وبما يقود لبنان إلى كارثة في ظل أزمة اقتصادية مستمرة، وصعوبة في تعامل الحكومة اللبنانية مع 50 ألفًا من المهجرين من الجنوب.
أخيرًا، تظل احتمالات التهدئة قائمة، وفي خطوة إيجابية سلم وزير الخارجية اللبناني “عبد الله بوحبيب” السفير الفرنسي “هيرفيه ماجرو” ردًّا على المقترح الفرنسي، بعد التشاور بين رئيس مجلس النواب “نبيه بري” ورئيس الوزراء اللبناني “نجيب ميقاتي” بالموافقة على تطبيق القرار 1701 ونشر وحدات أكبر تابعة للجيش اللبناني على الحدود الجنوبية، فضلًا عن استعداد لبنان لتفعيل عمل اللجنة الثلاثية العسكرية والتي تضم كلًا من (لبنان وإسرائيل واليونيفيل)، لكن لم يتضمن الرد اللبناني إبعاد وحدات الرضوان التابعة لحزب الله عن الحدود. كذلك عبرت تصريحات رئيس الوزراء اللبناني “نجيب ميقاتي” عن بدء محادثات غير مباشرة على طريق التهدئة بين حزب الله وإسرائيل خلال الشهر الجاري، بعد زيارة المبعوث الأمريكي لبيروت “آموس هوكستين، ويُنتظر دراسة المقترح الأمريكي والرد عليه.
في الختام، قد يرتب انتهاء الحرب في غزة فرصة للتهدئة في جبهة لبنان، لكن هناك صعوبة في إجراء تفاهمات أمنية بين الطرفين ما لم تقدم إسرائيل تنازلات، خاصة أن حزب الله هو إحدى أوراق القوة التي تمتلكها إيران في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، ويتم توظيفها بما يتناسب مع مصالحها، وتكمن معضلة التوافق في تمسك الطرفين برؤيتهما؛ إذ يصر حسن نصر الله في خطاباته على عدم فك الارتباط بين الهجمات في الجبهة الجنوبية للبنان، وبين الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة، ومن ناحية أخرى تستمر نغمة التشدد والاستعداد للتصعيد من الجانب الإسرائيلي، وهو ما عبرت عنه تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالانت” عن تمسك إسرائيل بضرورة انسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني من خلال المساعي الدبلوماسية أو عن طريق القوة، بما يعكس التحول في التفكير الاستراتيجي وربما الاستعداد لخوض إسرائيل الحرب مع أي كيانات تهدد أمنها، خاصة بعد اندلاع عملية طوفان الأقصى، وسقوط عدد من القتلى والأسرى الإسرائيليين، ونزوح المواطنين وعدم ضمانها لأمنهم.