نادرا ما تتاح لنا الفرصة فى مصر للتعرف على أفكار غير تلك التى تأتينا من الغرب، ولكن استثناء على هذه القاعدة حدث منذ نحو أسبوعين، عندما قامت كلية الشئون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الامريكية، بمناسبة مرور عشر سنوات على إنشائها، بدعوة مجموعة من المفكرين والشخصيات العامة الدولية للحديث حول مستقبل العالم، أحد هؤلاء كان المفكر الآسيوى كيشور محبوباني، المواطن السنغافوري، والدبلوماسى والعميد المؤسس لكلية السياسات العامة بجامعة سنغافورة الوطنية. محبوبانى هو مفكر استراتيجى من الطراز الأول، و له كتابات متعددة، كان آخرها كتابه بعنوان «هل الغرب فقد مكانته؟»، والذى يشير فيه بعبارات صريحة الى أن الغرب كان فى مقدمة العالم خلال المائتى عام الأخيرة، ولكننا نعيش الآن فيما يعرف بالقرن الآسيوي، وأن الصين تقع فى قلب هذا القرن، وأن الغرب عليه أن يدرك ذلك ويتكيف معه. ويشير محبوبانى الى أنه منذ بداية التاريخ حتى عام 1820 كان أكبر اقتصادين فى العالم هما الصين والهند، ولم تنطلق أوروبا وأمريكا إلا خلال الـ 200 عام الماضية. وفقًا للسيد محبوبانى ، فإن المائتى عام الماضية من تاريخ العالم كانت انحرافًا تاريخيًا كبيرًا عن المسار، لكن هذا الانحراف قد انتهى. وحان الوقت للقوى العالمية السابقة للعودة إلى حالتها الطبيعية كقوى كبرى ومهيمنة. ويشير الى أن أوروبا قد تكيفت نفسيا مع حقيقة أنها لم تعد قادرة على أن تكون قوة عالمية عندما حلت الولايات المتحدة محلها، والآن يتعين على الولايات المتحدة التكيف مع حقيقة أنها لم تعد رقما واحدا فى العالم، على حد تعبيره.
جانب آخر من حديث وكتابات محبوبانى يتناول معجزة بلده سنغافورة، وكيف تحولت من مجرد جزيرة صغيرة فى جنوب شرق آسيا، الى واحدة من أكثر الدول تطوراً فى العالم فى غضون عقود قليلة. فمساحتها عند الاستقلال عام 1965، لم تكن تتجاوز نصف مساحة البحرين، أو عُشر مساحة إمارة دبي. كما أنها لا تملك أى موارد طبيعية على أراضيها، وتحتوى على نسيج سكانى متعدد الأعراق والأديان، ولكنها حققت نجاحا اقتصاديا منقطع النظير. ويشير الى أن الخلطة السرية الكامنة وراء نجاح سنغافورة هى إنشاء نظام يمنح الأولوية للجدارة والكفاءة والاستحقاق على أى صفة أخرى. ويقتبس عبارة لرئيس الوزراء المؤسس لسنغافورة لى كوان يو بأنه إذا أردت أن تُنشئ حكومة جيدة، لا بد أن تُسلّم زمام المسئولية فيها لأشخاصٍ جيدين. وقد عملت الحكومة السنغافورية دائما بهذا المبدأ، وكانت تختار أفضل الأشخاص للانضمام للقيادة السياسية ولقطاع الخدمة المدنية أو الجهاز البيروقراطى للدولة. و يشير محبوبانى فى أحد مقالاته الى أن سنغافورة قد صممت سياساتها فى اكتشاف المواهب البشرية والاستفادة منها، بناء على عددٍ من الفرضيات الرئيسية. أولاها هو أن بعض الناس أكثر موهبةً من غيرهم بحكم الطبيعة. وثانيتها أن المواهب والقدرات الاستثنائية يمكن أن نجدها بين الفقراء كما نجدها بين الأغنياء دون فرق، ومسئولية الدولة هى البحث بشكل استباقى وتطوير المواهب الموجودة فى نسيجها السكاني. وأسست السياسات التعليمية البنية التحتية لنظام الجدارة فى سنغافورة، حيث يعتمد النظام التعليمى على مبدأ أن كل طفل أو طفلة يملك أو تملك مواهب بطريقة خاصة، واستنادا لهذا المبدأ، يتابع الموهوبون دراسياً تعليمهم كما هو متعارف عليه ضمن التدرج الأكاديمى المعتاد، فى حين يرسل الأطفال الموهوبون فى مجالات تقنية أو مهنية أخرى إلى المرافق المتخصصة بتعليم وتدريب تلك المهارات.
ووفقا لمحبوباني، فإن الأقدمية لا محلّ لها من الإعراب فى سنغافورة، والعنصر الأساسى هو الجدارة وخاصة فى الجهاز الحكومي، وأدى تطبيق نظام الجدارة الى نجاح سنغافورة فى استخلاص أقصى قدرٍ ممكن من المواهب من نسيجها السكاني، على الرغم من أن عدد مواطنيها صغير جدا، كما أسفر أيضاً عن استقرار اجتماعى وسياسى، وشعر الفقراء بأن لديهم نصيباً متساوياً مع الأغنياء فى المجتمع، وتعزز الشعور بالمواطنة وبالهوية الوطنية. ويخلص محبوبانى الى أن الدروس المستفادة من السياسات التى انتهجتها سنغافورة قابلة للتطبيق فى مختلف الدول الأخرى، مهما كان حجمها، سواء أكانت صغيرة أو كبيرة.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ ١٩ أبريل ٢٠١٩.