يُعرِّض العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر منذ الثامن أكتوبر 2023 والذي وصل إلى التهديد بل والإصرار على اقتحام مدينة رفح الفلسطينية ومعها محور صلاح الدين، معاهدةَ السلام المصرية الإسرائيلية لامتحان أو تحدٍّ هو الأقسى والأخطر خلال مسيرتها التي أكملت في السادس والعشرين من مارس 2023 عامها الخامس بعد الأربعين. فبينما يصر نتنياهو على الذهاب بالمعاهدة إلى حافة الهاوية مدعيًا أن اجتياح رفح لا يخل بالمعاهدة؛ فإن مصر حافظت والتزمت بالمعاهدة رغم كل ما تحملته جراء السياسات الإسرائيلية، بل إنها التزمت بالمعاهدة حتى في أحلك الظروف التي مرت بها خلال الفترة من عام 2011 إلى عام 2013 إيمانًا منها بأن المعاهدة هي حجر الزاوية للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط. وانطلاقًا من مبدئها الثابت بالسعي نحو حل كل الخلافات بالطرق السلمية في إطار الالتزام بكل المواثيق والمعاهدات الثنائية والدولية؛ تصر على الالتزام بتلك المعاهدة وتحذر من تداعيات ما يقوم به نتنياهو.
وبصفة عامة، فقد واجهت العلاقات المصرية-الإسرائيلية، أو بالأحرى معاهدة السلام عبر خمسة وأربعين عامًا، العديد من العقبات أو التحديات في عدد من المراحل المختلفة، بدءًا من عصر الرئيس السادات وحتى الآن. فبعد توقيع المعاهدة، ألقت تلك المعاهدة بتداعياتها على العلاقات العربية–الإسرائيلية عامة، إذ نصت معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية في ديباجتها على أن إطار كامب ديفيد إنما قُصد منه أن يكون أساسًا للسلام، ليس بين مصر وإسرائيل فحسب بل أيضًا بين إسرائيل وجيرانها من الدول العربية، وهو ما تحقق لاحقًا، إذ مهدت معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية الطريق لعقد اتفاقات أخرى مع إسرائيل كاتفاق أوسلو عام 1993، واتفاقية “وادي عربة” مع الأردن في عام 1994، وفتح مكاتب للتمثيل الإسرائيلي في عدد من الدول العربية، ولا سيما في دول الخليج، وصولًا إلى ما عُرف باتفاقيات السلام الإبراهيمي الذي طال الإمارات والبحرين، والحديث عن إمكانية تطبيع العلاقات الإسرائيلية السعودية، ناهيك عن تبني الدول العربية فكرةَ السلام كخيار استراتيجي، وهو الأمر الذي أكد على صدق توقعات الرئيس السادات بأن فكرة الحرب لا يمكن ولا يجب أن تمتد إلى الأبد. فالحرب كوسيلة لإنهاء هذا النزاع قد استنفدت أغراضها، وأن أيًا من طرفي الصراع لم يعد قادرًا على فرض إرادته على الآخر بالقوة.
التحديات خلال مسيرة المعاهدة
أول التحديات التي واجهتها مصر بعد توقيع المعاهدة تمثلت في انتقادات المعارضة المصرية والدول العربية التي رأت في الاتفاقية استسلامًا من جانب مصر، وضربة للتضامن العربي في نضاله من أجل القضية الفلسطينية، بما دفع تلك الدول إلى تكوين ما أُطلق عليه جبهة الصمود والتحدي، وإلى عقد قمة عربية في نوفمبر 1978 لتعلن رفضها لاتفاقيتي “كامب ديفيد”، وتعلن مقاطعة مصر وتجميد عضويتها في جامعة الدول العربية، وتنقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس. ومع ذلك استكمل السادات المسار وصولًا إلى توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” 1978، ثم معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية في عام 1979، التي سعى خلالها الطرفان لتحقيق أهدافهما، حيث دخلت مصر مسار التسوية مع إسرائيل بهدف صياغة روابط سلام محكمة مع إسرائيل، ومحاولة إحراز تقدم نحو تسوية شاملة للصراع العربي–الإسرائيلي، بينما هدفت إسرائيل من سلامها مع مصر إلى فصل علاقتها مع مصر عن طبيعة العلاقات المصرية أو الإسرائيلية مع بقية الدول العربية.
وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجّهت لمصر حينها، فإن الدول العربية بدأت في اتباع أو تبني فكرة السادات بضرورة التسوية السياسية بعد فترة قصيرة للغاية، حيث أعلنت الدول العربية في “قمة فاس” بالمغرب في 1982، أي بعد ثلاث سنوات من معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية، عن تبني صيغة عربية للتسوية السلمية تستند إلى فكرة الاعتماد على البدائل السياسية للتعامل مع الصراع العربي– الإسرائيلي.
التصرفات الإسرائيلية العدوانية تجاه الدول العربية مثلّت تحديًا آخر واجهته مصر، حيث تسببت تلك التصرفات في إحراج الحكومة المصرية وإضعافها في مواجهة تصاعد المعارضة الداخلية والرافضين لمعاهدة السلام، وخلق حالة من الغضب والاحتقان الشعبي ضد سياسة الحكومة تجاه إسرائيل، ومن ذلك قيام إسرائيل بمهاجمة لبنان في عام 1978، فيما عُرف بعملية “الليطاني” لطرد مجموعات الفدائيين الفلسطينيين خاصة منظمة التحرير، ثم قرار الكنيست الإسرائيلي في عام 1980 بجعل القدس عاصمة إسرائيل الأبدية، ثم قيامها في يونيو 1981 بضرب المفاعل النووي العراقي “أوزيراك” بعد أيام من اجتماع بين “مناحيم بيجين” و”السادات” في شرم الشيخ، بما دفع السادات إلى الإعلان عن خشيته من أن يؤدي هذا الحادث تحديدًا إلى إعادة بناء الحاجز النفسي للمصريين تجاه إسرائيل، معتبرًا أنه اختبار جدي لعملية السلام، ومدى رغبة الطرفين في الالتزام بها، كما أبدى تخوفه من أن تؤدي التصرفات الإسرائيلية إلى تقوية مواقف خصوم عملية السلام المصرية-الإسرائيلية.
وقد أثار هذا السلوك الإسرائيلي الإحباط في نفوس المصريين، وبدأ الجمهور المصري المؤيد للسلام في الاضمحلال المضطرد، ونمت المشاعر الصامتة بعدم الرغبة في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، علاوةً على المماطلات الإسرائيلية مع مصر التي أدت إلى تأخير الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المصرية، وسلسلة الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الفلسطينيين، بما كان له تأثير كبير على تطور العلاقات بين البلدين، حيث تصور الإسرائيليون أن العلاقات المصرية-الإسرائيلية ستصبح دافئة وسوف تتطور بوتيرة متسارعة لتطال كافة المستويات على نحو يجعلها في وضع يُشبه العلاقات الطبيعية بين أي دولتين في المجتمع الدولي بينهما علاقات طبيعية، لا سيما وأن المعاهدة قد ألزمت مصر بوقف الدعاية المعادية لإسرائيل، والعمل على إبراز العلاقة بينها وبين إسرائيل على أنها علاقات ودية وطبيعية باعتبار أن تلك العلاقات هي مقابل الانسحاب من سيناء، وهي الفكرة التي أسس لها “إسحاق نافون” رئيس دولة إسرائيل في بداية الثمانينيات، عندما ذكر “أن مقابل تنازلنا عن تلك الثروات المادية في سيناء، يجب أن يكون ترجمة معاهدة السلام إلى علاقات فعلية”. ومع ذلك فإن العلاقات الثنائية لم تسر على نحو ما رغبت إسرائيل، حيث حرصت مصر وفي أكثر من مناسبة على الفصل بين معاهدة السلام وما تقتضيه من علاقات رسمية وبين تطبيع العلاقات في مختلف المجالات الأخرى، وعدم الاستجابة للضغوط الإسرائيلية عليها للقيام بنوع من التطبيع القسري الذي يتجاوز ما تفرضه اتفاقات السلام.
في مرحلة الرئيس الأسبق مبارك كان واضحًا منذ البداية أنه لا يعتزم إجراء تغيير في السياسة الخارجية التي اتبعها الرئيس السادات فيما يتعلق بإسرائيل وعملية التسوية عمومًا، بل إن موقفه من عملية التسوية جاء متطابقًا إلى حد بعيد مع موقف الرئيس السادات. وأوضح أن السياسة الخارجية المصرية في عهده سارت باتجاهين متوازيين هما: الاحترام الكامل لمعاهدة السلام، واستكمال عملية السلام المصرية-الإسرائيلية من ناحية، والعمل الدؤوب طويل النفس لاستعادة علاقات مصر العربية من ناحية أخرى، وتأكيد رفضها للمفهوم الإسرائيلي للحقوق الفلسطينية وتصرفاتها تجاه دول الطوق. واتضح هذا الموقف جليًا في الموقف المصري المُعلن من الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، فقد أدانت مصر هذا الغزو وقررت -خاصة بعد مذابح “صبرا وشاتيلا”- سحب سفيرها من تل أبيب، واشترطت لعودته انسحاب إسرائيل من لبنان، وقد ظلت مصر على موقفها رغم كل الضغوط الأمريكية التي حاولت أن تربط العلاقة المصرية–الأمريكية بمستوى العلاقات المصرية–الإسرائيلية. وخلال مرحلة المفاوضات التي انطلقت بعد مؤتمر مدريد للسلام 1991 تعاملت مصر مع تلك المفاوضات بما لا يُخل بمعاهدة السلام مع إسرائيل، دون أن يدفعها ذلك للابتعاد عن المشاركة في التعامل مع أو احتواء المشاكل التي نجمت عن تعنت الحكومة الإسرائيلية وسياستها التوسعية.
وعلى الصعيد المتعلق بالقضية الفلسطينية فإن مصر ربطت باستمرار بين مسار العلاقات الثنائية وتقدم عملية السلام، فكلما سارت مفاوضات التسوية إلى الأمام، تراجع التوتر في العلاقات المصرية-الإسرائيلية، وبالتالي إغلاق الكثير من الملفات الخلافية، وكلما تجمدت مفاوضات التسوية العربية-الإسرائيلية، أدى ذلك إلى عودة التوتر مجددًا إلى العلاقات المصرية–الإسرائيلية، وإعادة فتح ملفات الخلافات من جديد.
ويظل التحدي الأكبر هو الصورة النمطية السلبية التي تكونت لدى الرأي العام المصري عن إسرائيل، باعتبارها دولة عنصرية تعتمد على القوة العسكرية والعدوان على الآخرين. فهي مجتمع صُمم بحيث يكون في حالة حرب دائمة، وهي الصورة التي أسهمت السياسات الإسرائيلية في تدعيمها عبر الثلاثين عامًا، بل إن تلك السياسات قد فرضت حالة من التوتر الدائم على العلاقة بين الجانبين، وهو الأمر الذي جعل العلاقات المصرية-الإسرائيلية دائمًا أسيرة لسحابة لا تنقشع من الريبة والشكوك بين الجانبين. ويأتي تحدي عدم الاستقرار في المنطقة، حيث شهدت المنطقة حروبًا وتوترات عديدة، كحرب العراق وإيران، وكحرب الخليج الأولى والثانية، وانتفاضتين فلسطينيتين، وستة حروب إسرائيلية ضد قطاع غزة وحرب لبنان، ناهيك عن حالة الفوضى التي ضربت وأسقطت عددًا من الدول العربية نتيجة الربيع العربي.
نتنياهو: توتر دائم
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن وصول بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل قد ترافق معه توترٌ دائم في العلاقة بين البلدين. ففي عام 1997، وعلى الرغم من تأسيس التحالف الدولي من أجل السلام الذي عُرف باسم تحالف كوبنهاجن للسلام في شهر يناير 1997، وما أشاعته تلك الخطوة من آمال أخذت تتصاعد بشأن إمكانية التقدم في عملية التسوية السلمية، بما من شأنه أن ينعكس إيجابيًا على العلاقات المصرية الإسرائيلية؛ تصاعدت بعض الأزمات بين مصر وإسرائيل إلى حدود غير معتادة، ووصلت إلى مستويات من التوتر الذي ارتبط بحملات إعلامية وسياسية تعلقت بالأساس بالموقف المصري من السياسة الإسرائيلية الجديدة التي يتبناها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وإصراره على تبني خطاب يركز على أمن إسرائيل وأرض إسرائيل والاستيطان والسلام مقابل السلام، بينما تغيب عنه مفردات مثل الدولة الفلسطينية والانسحاب من الأراضي المحتلة والأرض مقابل السلام، وعدم استعداده للمضيّ في عملية التسوية، بينما كان مطلوبًا منه أن يتعامل مع المراحل الأكثر صعوبة المتبقية من عملية التسوية منذ عهدي رابين وبيريز؛ الأمر الذي أدّى إلى توقف مفاوضات السلام تمامًا بما انعكس سلبًا على توجهات الفلسطينيين أنفسهم من تأييد عملية السلام. وفي هذه الأثناء تعرض السفير المصري في تل أبيب لمضايقات كثيرة ركزت عليها الصحف الإسرائيلية، وهو الأمر الذي بدا معه أن السلام البارد بين الدولتين يتحول إلى حرب باردة. ولم تُفلح زيارات المسئولين الإسرائيليين، مثل نتنياهو ووزير الخارجية والرئيس الإسرائيلي، للقاهرة في تخفيف حدة ذلك التوتر في العلاقات بين الجانبين.
وفي عام 1998، استمر الخلاف المصري الإسرائيلي حول عملية التسوية على المسار الفلسطيني، كما تصاعدت الخلافات بين الجانبين بشأن السياسة الدفاعية والتسليحية للجانبين، إلى الدرجة التي دفعت ببعض الصحف الإسرائيلية في أبريل 1998 للتحدث عن نية مصرية لشن حرب ضد إسرائيل في عام 2000. كما استمر تصاعد الحملات السياسية والإعلامية. وفي ظل تلك الأجواء استمر رفض مصر الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي “عزام عزام”، ورفضت إسرائيل التعاون مع مصر لبحث أوضاع 24 سجينًا مصريًا لدى إسرائيل. وامتد مشهد التوتر بين الجانبين إلى عام 1999، إذ استمرت الخلافات بينهما لتشير إلى استمرار حالة الحرب الباردة بينهما. ففي أبريل 1999، نُشر تقرير منسوب للاستخبارات الإسرائيلية يقرر أن مصر أخطر على إسرائيل من إيران، وهو التقرير الذي وصفه المحلل العسكري الإسرائيلي “زئيف شيف” بأنه إضافة إلى التقارير المخابراتية المصرية يؤكد أن كل طرف ينظر إلى الآخر على أنه مصدر تهديد قد يأخذ أبعادًا خطيرة. ووصف رئيس الأركان الإسرائيلي السابق ماتان فيلنائي مصر بأنها إحدى الدول التي تُشكل خطرًا على إسرائيل.
لقد فرض ملف التهدئة وملف الإفراج عن الجندي الإسرائيلي المختطف نفسه على العلاقات المصرية الإسرائيلية خلال عام 2009، وكان من الطبيعي أن يهيمن التوتر أو على الأقل الفتور في العلاقة بين مصر وإسرائيل، خاصة في ظل عودة بنيامين نتنياهو مرة أخرى لرئاسة الوزراء، كونه يدير ظهره بصفة عامة لعملية التسوية السلمية للصراع العربي وما شهدته من أفكار ومقترحات مثل: فكرة حل الدولتين، وخريطة الطريق، ومقترحات مؤتمر أنابوليس، ومبادئ الأرض مقابل السلام، ويتجاهل أيضًا اتفاق أوسلو. حتى إن اللقاءات التي تمت بين الرئيس مبارك ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 11 مايو و18 يوليو و13 سبتمبر عام 2009 قد تركزت على مناقشة ملفي التهدئة في الأراضي، والإفراج عن الجندي الأسير بالأساس، كما كان هذان الملفان إضافة إلى كيفية استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية محورًا للقاء الرئيس مبارك والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في الأول من أغسطس 2010. ثم جاء اللقاء الأخير بين الرئيس مبارك ورئيس الوزراء الإسرائيلي في الخامس من يناير 2011، أي قبل عشرين يومًا من اندلاع الثورة المصرية، وقد تركز اللقاء على البحث في كيفية التعامل مع المأزق الذي تمر به عملية السلام، وتوقف المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي نتيجة لاستمرار النشاط الاستيطاني بالأراضي المحتلة بما في ذلك القدس الشرقية.
المعاهدة بين الإلغاء والتعديل
منذ يناير 2011 عاد التوتر في العلاقات، فاستدعى المصريون، النخبة والرأي العام، معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية، والسلام مع إسرائيل بصفة عامة، إلى مائدة حواراتهم اليومية كما لم يحدث من قبل، ونال المعاهدة ما نالها من شرح وتفسير وتحليل وانتقادات، وتزايدت الدعوات لضرورة إلغاء المعاهدة أو -على الأقل- تعديلها، ولجأ البعض إلى رفع دعوى أمام القضاء الإداري للمطالبة بإلغاء معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية على اعتبار تقييد حرية مصر وسيادتها داخل سيناء لصالح إسرائيل؛ إلا أن محكمة القضاء الإداري حكمت برفض تلك الدعوى في 30 أكتوبر 2012، معللة ذلك بأن المعاهدة هي عمل من أعمال السيادة التي يختص بها رئيس الجمهورية، وبالتالي فهي تخرج عن نطاق إشراف القضاء.
الانزعاج الإسرائيلي مما حدث في مصر 2011 كان واضحًا للغاية، وتم التعبير عنه بوضوح من قبل القيادات والنخبة الإسرائيلية، بل إن استطلاعًا للرأي العام الإسرائيلي أظهر أن ثلثي الإسرائيليين يرون أن رحيل مبارك عن السلطة سيكون خطرًا على إسرائيل. كما دفع شعور الإسرائيليين بالخطر جراء الثورة المصرية معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، إلى المطالبة بأن تستعد تل أبيب جيدًا للتغيّرات الجذرية بعد الرئيس المصري حسني مبارك، بل إن إسرائيل عبرت بوضوح عن غضبها من الموقف الأمريكي تجاه ما يحدث في مصر، وهو الأمر الذي دفع للمطالبة في تصريحات عديدة لتأمين موقف دولي داعم لفكرة ضرورة أن يحترم أي نظام قادم في مصر الاتفاقات المصرية الموقعة مع إسرائيل، وتحديدًا اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية الموقّعة في عام 1979. فإسرائيل كما رأى “باتريك سيل” قد أُصيبت بحالة من التوتر العالي بسبب الثورة المصرية خوفًا على بقاء معاهدة السلام التي تمثل الرقم الأساسي في معادلة الاستقرار في المنطقة وتأمين تفوق إسرائيل، وعلى حد تعبير وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق موشيه دايان فإنها تمثل العجلة التي لو أُزيلت فإن العربة لن تسير مرة أخرى. وفي هذا السياق، سعت إسرائيل لدى الولايات المتحدة للحصول على موقف واضح من القاهرة إزاء اتفاقية السلام، فجاء الموقف المصري عبر تصريح للمجلس الأعلى للقوات المسلحة عقب تسلمه مسئولية إدارة الدولة بعد تنحي الرئيس مبارك ليؤكد أن مصر ملتزمة بكافة الاتفاقات الدولية التي وقعتها. وقد رحب رئيس الوزراء الإسرائيلي بإعلان الجيش المصري، مؤكدًا أن اتفاق السلام الساري منذ وقت طويل مع مصر خدم البلدين كثيرًا وشكّل حجر زاوية من أجل السلام والاستقرار في الشرق الأوسط كله. ومع ذلك ظل الحديث عن ضرورة إعادة النظر في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية مطروحًا بقوة في النقاش العام في مصر خلال الفترة 2011 إلى 2013، بل إن مجلس الشعب صوت في مارس 2012 على طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، مع التأكيد على أن مصر لن تكون صديقة أو شريكة لإسرائيل، فهي تمثل العدو رقم واحد لمصر وللأمة العربية، كما أصبح الموقف من المعاهدة ومن السلام بصفة عامة مع إسرائيل واحدًا من المحاور الأساسية في برامج المرشحين لرئاسة الجمهورية في تطور لم تعهده مسيرة العلاقات المصرية الإسرائيلية. وخلال العشر السنوات الأخيرة عادت العلاقات المصرية الإسرائيلية لتشهد نوعًا من الهدوء سمح بتعديل بنود اتفاقية دولية أمنية مع إسرائيل في السابع من نوفمبر 2021، لتعزيز التواجد المصري في المنطقة الحدودية برفح، مما يعزز الأمن طبقًا للمستجدات والمتغيرات، وهو ما انعكس في تراجع تناول معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في النقاش العام كما حدث بعد عام 2011.
باختصار، فإن المعادلة التي حكمت تلك العلاقة عبر خمسة وأربعين عامًا هي القدرة، ومن قبلها الرغبة، التي أبداها الطرفان للحفاظ على العلاقة الرسمية بينهما، والتعامل أو احتواء كل ما من شأنه أن يضع تلك العلاقة على حافة الهاوية قد ظل الملمح الأساسي أو الصيغة الأساسية الحاكمة لتلك العلاقة، ومكنهما من الابتعاد بالعلاقة الرسمية بعيدًا عن المتغيرات الداخلية لدى كل طرف. الآن تتعرض تلك المعادلة لاختبار صعب ومخاطر جمة يفرضها إصرار إسرائيل على المضيّ في عدوانها على غزة، بينما تصر مصر على أن المساس بأمنها القومي بشكل مباشر أو غير مباشر هو خط أحمر لا يمكن الاقتراب منه، علاوةً على ذلك فإن من شأنه الإخلال الجسيم على الأقل بروح معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وقد يجعلها عرضة للإلغاء أو التجميد بكل ما يفرضه ذلك من تهديدات ليس فقط للعلاقة بين البلدين ولكن لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط. بتعبير آخر، فإن المعاهدة أصبحت على المحك نتيجة الغضب المصري الكبير من الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة، كما نقلت وكالة “أسوشيتد برس” يوم 11 فبراير 2024، مؤكدة أن مصر قد تعلق معاهدة السلام إذا غزت القوات الإسرائيلية رفح. وهو الأمر نفسه الذي أكدته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، 10 فبراير 2024، بقولها إن مصر هددت بأنه إذا عبرت موجة من الفلسطينيين الحدود مع غزة، أو إذا اجتاح الجيش الإسرائيلي رفح؛ فإن ذلك سيكون بمثابة انتهاك من شأنه أن يعلق فعليًا معاهدة السلام مع إسرائيل.
أما مصر الرسمية فلم يخرج عنها ما يشير إلى التفكير في تعليق أو إلغاء المعاهدة، إذ أكد وزير الخارجية، سامح شكري، في 12 فبراير 2024، أن “مصر ملتزمة باتفاقية السلام مع إسرائيل التي حافظت عليها لخمسة وأربعين عامًا”، وهو الأمر الذي يعد التزامًا راسخًا بالسياسة المصرية التي تحترم التزاماتها وتنظر بكل تقدير لأهمية معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وتعمل دائمًا على وضعها على الطريق الصحيح، وتجنيبها مخاطر “لعبة حافة الهاوية” التي يمارسها نتنياهو، فبدون تلك المعاهدة ستنفتح أبواب الفوضى على مصراعيها في منطقة الشرق الأوسط برمتها.
حافة-الهاوية-12