مع انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الماضي وتصاعد الأحداث في قطاع غزة، برز تساؤل حول موقف التنظيمات الإرهابية من المشهد في فلسطين، وكان المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية حاضرًا بالإجابة عن هذا السؤال بورقة جاءت بعنوان “طوفان الأقصى بين القاعدة وداعش” في محاولة لفهم الرؤية التي تتبناها التنظيمات الإرهابية تجاه الأحداث في غزة، لكن تجدد الحديث في هذا الصدد مع تصاعد نشاط تنظيم “داعش” وتنفيذه عمليات إرهابية في كل من تركيا وإيران وروسيا مؤخرًا، وبرز سؤال غاية في الأهمية وهو: لماذا لم يستهدف “داعش” إسرائيل؟
أولوية الاستهداف
وضع تنظيم “داعش” إسرائيل على رأس قائمة أعدائه، حيث حرض على استهدافها باستمرار في معظم خطابات قاداته، وقد تبلور هذا الطرح في خطاب لـــ”أبي بكر البغدادي” (الزعيم الأسبق لتنظيم داعش) والذي جاء بعنوان “فتربصوا إنا معكم متربصون” في 26 ديسمبر 2015، حيث قال: “كلا يا يهود ما نسينا فلسطين لحظة.. وقريبًا قريبًا بإذن الله تسمعون دبيب المجاهدين وتحاصركم طلائعهم في يوم ترونه بعيدًا ونراه قريبًا”. وأضاف: “ها نحن نقترب منكم يومًا بعد يوم، وإن حسابكم لعسير عسير، لن تهنئوا في فلسطين أبدًا يا يهود.. لن تكون فلسطين إلا مقبرة لكم”.
وقد استمر هذا التوجه في عهد “أبي إبراهيم الهاشمي القرشي” حيث أصدر التنظيم خطابًا على لسان “أبي حمزة القرشي” (المتحدث الرسمي الأسبق لتنظيم داعش) بعنوان “دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها” في 27 يناير 2020، وذلك ردًا على كشف “دونالد ترامب” (الرئيس الأمريكي السابق) عن خطة السلام الأمريكية الخاصة بإدارته في الشرق الأوسط، حيث أعلن التنظيم عن تدشين مرحلة جديدة من الإرهاب، من خلال تحريض أنصاره على استهداف مستوطنات اليهود وأسواقهم، مطالبًا إياهم بـ “اجعلوها أرضًا لتجريب أسلحتكم وصواريخكم الكيماوية وغيرها”. وبصفة عامة كان التنظيم حريصًا أن تتضمن منشوراته الإعلامية والدعائية دعوات واضحة لاستهداف إسرائيل والجاليات اليهودية.
وفي سياق موازٍ، أوضح التنظيم موقفه من القضية الفلسطينية بشكل جلي في العدد (22) من صحيفة “النبأ” والتي صدرت في 15 مارس 2016، حيث جاءت مقالة بعنوان “بيت المقدس قضية شرعية أولًا”، أكد فيها على أن القضية الفلسطينية لا تأتي قبل قضايا الجهاد الأخرى. إذ قال: “لو نظرنا إلى أرض الواقع اليوم، لوجدناها تحكم كلها بالشرك وقوانينه، وخلال بقاع منها مكّن الله الدولة الإسلامية من إقامة الدين فيها.. بالتالي يتساوى الحكم على الجهاد في فلسطين مع غيره دون تمييز”.
وعلى الرغم من التناقض الذي يمكن أن يظهر بين خطاب “داعش” المحرض على استهداف إسرائيل وبين موقفه من القضية الفلسطينية المتعلق بأن القضية الفلسطينية ليست ذات أولوية ولا تأتي قبل قضايا الجهاد الأخرى، إلا أن هذا التناقض يمكن تفسيره في ضوء أولوية الاستهداف لدى التنظيم القائمة على قتال “العدو القريب”، والتي تعني محاربة الأنظمة العربية الحاكمة، وذلك في ضوء قناعته بأن “العدو القريب” أولى بالقتال، فضلًا عن أن إسقاط الأنظمة العربية سوف يوفر له البيئة المناسبة لتأسيس خلافته ومن ثَمّ التفرغ لاستهداف العدو البعيد المتمثل في الولايات المتحدة وحلفائها وعلى رأسهم إسرائيل. وتجدر الإشارة إلى أن التنظيم يحاول الجمع بين استراتيجية قتال “العدو القريب”، واستراتيجية قتال “العدو البعيد”، لكن تظل الأولوية هي استهداف “العدو القريب”.
وفي أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، جدد التنظيم الحديث عن استراتيجيته في استهداف إسرائيل وتحرير الأراضي الفلسطينية في العدد (413) من صحيفة “النبأ”، والتي صدرت في 19 أكتوبر 2023، إذ جاءت الافتتاحية بعنوان “خطوات عملية لقتال اليهود”، وأوضح فيها أن الطريق لاستهداف إسرائيل يتحقق عبر مساريين؛ “أولهما: استهداف الوجود اليهودي في كل العالم أيًا كان شكل هذا الوجود، وخصوصًا الأحياء اليهودية ومهاجمة السفارات اليهودية” في كل مكان. وثانيهما: استهداف جيوش وحكومات الدول العربية التي تمثل خطوط الدفاع الأمامية والخلفية لليهود”.
وقد كرر هذا الطرح في العدد (417) من صحيفة “النبأ”، والتي صدرت في 16 نوفمبر 2023، إذ جاءت الافتتاحية بعنوان “قاتلوا الذين يلونكم من الكفار”، وذلك في أعقاب القمة العربية الاسلامية وهي القمة المشتركة بين دول جامعة الدول العربية ودول منظمة التعاون الإسلامي، لبحث الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حيث أكدت الافتتاحية على أن “قادة وحكومات الدول العربية هم خط الدفاع الأول لإسرائيل، وبلا قتالهم لن تعود غزة وفلسطين ولا غيرها إلى ديار المسلمين”.
ومن ثَمّ، يتبنى “داعش” رؤية قائمة على استهداف الأنظمة العربية كخطوة أولى لتحرير فلسطين ثم التفرغ بعد ذلك لاستهداف إسرائيل، وذلك على خلفية مزاعمه المتعلقة بقيام الدول العربية بتقديم الدعم لإسرائيل. بعبارة أخرى، يرى التنظيم أن تحرير فلسطين سيكون ممكنًا مع سقوط الأنظمة العربية الداعمة لإسرائيل.
فجوة بين التحريض والاستهداف
تشير العمليات التي تبناها ونفذها تنظيم “داعش” في الداخل الإسرائيلي، إلى وجود فجوة واسعة بين خطابه الدعائي التحريضي ضد إسرائيل، وعملياته الفعلية التي نفذها على الأرض، فالهجمات التي تبانها التنظيم داخل إسرائيل هي هجمات قليلة جدًا، إذ أعلن التنظيم عن تبنيه عملية الدهس والطعن المزدوجة في مدينة بئر السبع بالنقب نفذها “محمد أبو القيعان”، في 22 مارس 2022، والتي أدت إلى مقتل 4 إسرائيليين. كذلك تبنى التنظيم عملية “إطلاق نار في الخضيرة” جنوب حيفا، والتي نفذها كل من “أيمن إغبارية” و”إبراهيم إغبارية “، في 27 مارس من العام ذاته، وقتل خلالها إسرائيليان، وأصيب 4 آخرون.
لكن في السياق ذاته لا يمكن غض الطرف عن العمليات التي أفادت مصادر أمنية إسرائيلية أنها جاءت بناءً على إلهام “داعش”، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى عملية إطلاق النار التي نفذها “نشأت ملحم” في شارع ديزنغوف في تل أبيب، في يناير 2016، وأسفر عن مقتل اثنين وإصابة ستة آخرين، إذ أفاد عدد من المسئولين الإسرائيليين بأن العملية جاءت بإلهام من “داعش”.
كذلك عملية إطلاق النار التي قام بها كل من “خالد مخامرة”، و”محمد مخامرة” على منطقة “سارونا ماركت” التجارية وسط تل أبيب، في يونيو 2016، وأسفرت عن مقتل أربعة أشخاص وإصابة ستة. إذ أفاد الشاباك الإسرائيلي أن الهجوم الذي نفذه الشابان كان مستوحى من “داعش”. فالشبان لم ينضما بشكل مباشر إلى التنظيم، لكنهما قاما بتصوير أنفسهما مع علم التنظيم قبل تنفيذ الهجوم.
كذا عملية الدهس التي قام بها ” فادي القنبر”، ووقعت في حي أرمون هاناتسيف بالقدس في 8 يناير 2017، وأدت إلى مقتل أربعة جنود إسرائيليين، وقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو” أن منفذها من أنصار “داعش”. وبالنظر إلى الهجمات التي استطاع التنظيم تنفيذها داخل إسرائيل خلال فترات تمدده وانحساره يمكن وصفها بالهجمات البسيطة القائمة على استراتيجية الذئاب المنفردة كتكتيكات إطلاق النار والدهس والطعن.
وقد ذهبت بعض الاتجاهات في تحليل هذا المشهد إلى جملة من العوامل؛ يتعلق أولها: بعجز التنظيم عن فرض سيطرة مكانية على دول الجوار الجغرافي لإسرائيل. وينصرف ثانيها: إلى الإجراءات الأمنية من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية والتي منعت عناصر التنظيم من الوصول إلى العمق الإسرائيلي. ويتصل ثالثها: بهيمنة فصائل المقاومة الفلسطينية المحلية على مشهد الصراع مع إسرائيل، وحرصها على منع التنظيمات الإرهابية من إقحام نفسها في الأراضي الفلسطينية.
وعلى الرغم من منطقية هذه الأسباب لتفسير ندرة عمليات التنظيم في الداخل الإسرائيلي، إلا أن الهجمات التي تبناها ضد أهداف إسرائيلية خارج إسرائيل، محدودة هي الأخرى، ونذكر منها على سبيل الإشارة، الهجوم على المتحف اليهودي في بروكسل في 24 مايو 2014، والهجوم على السوبر ماركت اليهودي كوشير في باريس في 9 يناير 2015. وبالتالي يقدم هذا المشهد تصورًا أكثر وضوحًا عن الخطاب البرجماتي للتنظيم، إذ يدرك جاذبية القضية الفلسطينية باعتبارها قضية كبرى في العالم العربي والإسلامي، ومن ثَمّ يوظفها في الدعاية والتجنيد دون تحويل هذا الخطاب إلى عمليات فعلية تستهدف إسرائيل ومصالحها.
إسرائيل وأولويات القتال المرحلي
تمثل أولويات الاستهداف عند التنظيمات الإرهابية محددًا حاكمًا لتفسير أهدافها، وتتمثل أولوية الاستهداف عند تنظيم “داعش” في التركيز على استهداف العدو القريب، وعلى الرغم من أن هذا الطرح قد يقدم تفسيرًا جزئيًا لتراجع “داعش” عن استهداف إسرائيل، إلا أن المشهد في حاجة إلى عدسة أكثر وضوحًا، ومن ثَمّ لا بد من النظر إلى ديناميكيات عمل تنظيم “داعش” في الوقت الحالي، حيث سعى التنظيم للتكيف مع ما تتعرض له القيادة الأساسية من ضغط، واعتمد على استراتيجية لا مركزية في القيادة، الأمر الذي أتاح تمتع الأفرع الإقليمية المرتبطة به باستقلالية عملياتية، وبالتالي أصبح لهذه الأفرع أولويات عمل وأهداف خاصة بها، في ضوء ما يعرف بأولويات القتال المرحلي.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر، تهدف ولاية خراسان في أفغانستان إلى ترسيخ نفسها كفاعل رئيسي في الساحة الأفغانية والساحة الآسيوية مما يجعلها تطور أنماط هجماتها داخل أفغانستان وخارجها، مع العمل على توسيع شبكات تجنيدها. في سياق موازٍ، تعمل ولاية الساحل على التمدد الجغرافي والعملياتي في منطقة الساحل من أجل تعزيز نفوذها من ناحية فضلًا عن تغلغلها داخل المجتمعات المحلية من ناحية أخرى، ومن ثَمّ لدى ولايات التنظيم أجندة عمل خاصة بها تسعى إلى تحقيقها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، لا يمكن إغفال دور “المكاتب الإدارية” المشرفة على الولايات التابعة لتنظيم “داعش” (يطلق عليها الإدارة العامة للولايات)، والتي تشكلت في أعقاب خسارته لخلافته المزعومة، وتم تقوية دورها في عهد “أبي إبراهيم الهاشمي القرشي” (الزعيم السابق لتنظيم داعش)، إذ احتلت موقعًا مركزيًا في تنفيذ العمليات الإرهابية الخارجية للولايات.
وقد تعرضت هذه المكاتب لهيكلة تنظيمية في أعقاب قتل “أبو سارة العراقي” (قائد الإدارة العامة للولايات في داعش) في فبراير 2023، حيث تم دمج بعضها، فأصبح التنظيم في الوقت الحالي يعمل في العراق وسوريا بتوجيه من مكتب “الأرض المباركة”، كذلك تخضع شبكة التنظيم في تركيا التي تشمل القوقاز وروسيا وأجزاءً من أوروبا الشرقية، إلى إدارة المكتب ذاته، بعد أن كانت تخضع لإدارة “مكتب الفاروق” في تركيا، إلا أن الاعتقالات التي قامت بها السلطات التركية أغلقت الأخير، وذلك على خلفية ما أفادت به تقارير مجلس الأمن الصادرة عن الأمم المتحدة خلال عامي 2022 و2024.
وتتمثل المكاتب الإدارية القوية في مكتب “الصديق” الذي يغطي كلًا من أفغانستان وباكستان والهند وبقية جنوب آسيا وآسيا الوسطى، ومكتب “الكرار” والذي يغطي الصومال وموزمبيق والكونغو الديمقراطية، ومكتب “الفرقان” الذي يتولى شئون حوض بحيرة تشاد والساحل. كذلك ثمة مكاتب إدارية يشهد نشاطها اضمحلالًا وهم؛ مكتب “الأنفال” وهو مسئول عن ليبيا وأجزاء من شمال أفريقيا، ومكتب “أم القرى” الذي يغطي اليمن وشبه الجزيرة العربية، ومكتب “ذو النورين “ويغطي مصر والسودان.
وبالنظر إلى هذا التقسيم الإداري يمكن القول إن تنظيم “داعش” لا يتمتع ببنية تنظيمية قوية في الدول المحيطة لإسرائيل، بينما يتمتع التنظيم ببنية قوية في مكاتب وولايات أخرى لها أولويات عمل خاصة بها وبعيدة عن محيط إسرائيل، لكن تظل المصالح الإسرائيلية خارج إسرائيل أهداف محتملة للتنظيم، ومن ضمنها: الحضور الإسرائيلي في تركيا وأذربيجان، والمصالح الإسرائيلية في كردستان العراق، كذا الوجود الإسرائيلي في دول آسيا الوسطى في ضوء قدرة التنظيم على التجنيد في الشبكات الطاجيكية.
مجمل القول، حرص تنظيم “داعش” منذ ظهوره على أن تتضمن منشوراته الإعلامية دعوات واضحة لاستهداف إسرائيل ومصالحها بهدف اكتساب زخم لخطابه الدعائي دون أن تكون هناك عمليات فعلية تجاهها، سواءً في مراحل تمدده أو مراحل تراجع نفوذه، وذلك في ضوء وجود أولويات خاصة بأجندة عمله، وفي المرحلة الحالية يمكن القول إن استهداف الداخل الإسرائيلي ليس من ضمن أولوياته، وإن كان هناك احتمالية لاستهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج من أجل تحسين صورته وتقديم ذاته كمدافع عن القضية الفلسطينية.