“الإسلاموفوبيا” مصطلح يعني خوفًا جذريًّا من الإسلام، وهو يُعيّن واقعًا، وهو وجود خطاب وممارسات ومشاعر تعادي الإسلام والمسلمين وتميز ضدهم. ولكنه أيضًا اتهام قد يكون صحيحًا وقد يكون ظالمًا، وهو أداة لشيطنة خطابات وممارسات توظفها قوى فاعلة لا تنتمي بالضرورة للإسلام السياسي، إذ نجد فصائل ليبرالية وفرقًا تؤمن بالتعددية الثقافية وحركات يسارية تستسهل اللجوء إليها كوسيلة هجوم على المحافظين، يمينيين كانوا أم يساريين.
دول الغرب شهدت خلال آخر خمسين سنة تطورات جذرية تتعلق بموضوعنا. أولها طبعًا تزايد كبير في عدد المسلمين، منهم من وُلد في أوروبا نفسها وعلاقته بوطن أجداده ملتبسة أو منعدمة. وثانيها تغير كامل في الثقافة الغربية مع ثورات التحرر الجنسي وتحرير المرأة تحريرًا غير مسبوق، ولا سيما مع اختراع حبوب منع الحمل وتراجع الأسرة التقليدية، وتزايد معدلات الطلاق، وبروز ظاهرة العائلة التي لا يوجد فيها إلا أحد الوالدين. وثالثها تزايد المشكلة السكانية مع تراجع نسبة المواليد، ما يعني أن هذه الدول ستضطر إلى قبول مهاجرين جدد. وبما أن إفريقيا تعاني من المشكلة العكسية (زيادة سكانية تلتهم ثمار التنمية وتعطلها) فمن الواضح أن المهاجرين سيكونون أفارقة أو عربًا، منتمين لثقافات أخرى تشاهد تطورات تذهب بها إلى مزيد من المحافظة. ودون شك يلعب “منظر” التحرر الغربي دورًا في تغذية الفكر المحافظ الرافض للتغريب في الثقافات الأخرى.
لقد أصبح المسلمون أقلية يُعتد بها في الدول الغربية. وعلى عكس المتصور، تعجز الليبرالية التقليدية -في أحوال ليست بالقليلة- عن حل مشكلة الأقليات؛ فالليبرالية التقليدية تعترف لكل المواطنين بحقوق متساوية وفرص متساوية في الفضاء العام، وترفض للدولة حق التدخل في الفضاء الخاص أو تقيده بشدة، والنتيجة أن النموذج الليبرالي التقليدي عاجز عن القضاء على التمييز في الفضاء الخاص؛ فأبناء الأقليات قد يواجهون صعوبات في العثور على شقة للإيجار أو على وظيفة. قد لا تطفو المشكلة إن كانت العلاقات بين الأغلبية والأقلية جيدة جدًّا، ولكنها تصبح ملحة إن شابت تلك العلاقة توترات. وهنا قد تضطر الليبرالية إلى التدخل وقد تصبح سلطوية فتنتهج سياسات مثل التمييز الإيجابي وتفرض وجود حد أدنى من أبناء الأقليات أو تجرم بعض أنواع التمييز. وتلك الحلول رغم ضرورتها لها آثار جانبية سلبية.
ونحاول هنا شرح معضلة الأقليات أيًّا كانت، فمن ناحية هي تريد المساواة وترفض تكلفتها. ومن ناحية أخرى، هي تريد معاملة تعترف ولا تعترف في آن واحد بخصوصيتها وباختلافها الجذري. تريد قدرًا كبيرًا من الاندماج، وتخشى من تلاشي هويتها. تظهر المشكلة بوضوح أكثر، وعلى سبيل المثال، في مسألة الأحوال الشخصية؛ المساواة التامة تقتضي قانون أحوال شخصية موحدًا. وإن تعددت الشرائع، سيضطر الحاكم إلى وضع تراتبية لحل النزاعات بينها إن اختلفت ديانات الأزواج. ولكن قانون الأحوال الشخصية الموحد سيعكس بالضرورة ثقافة الأغلبية. مثال آخر نجده كثيرًا في الواقع: يوجد في عائلات الأقليات توجس كبير من زواج الأبناء والبنات من أفراد لا ينتمون إلى الأقلية. قد تخف حدة هذا التوجس في القطاعات الليبرالية ولكنه يظل موجودًا. ويترتب على هذا التوجس تلقين دائم منذ الصغر ضد “سيئات” ثقافة الأغلبية وسوء أخلاقها و”تعصبها المستتر”، تلقين يحث دائمًا على الحفاظ على الانتماء للأقلية. وهذا لا يعني أن الأقلية غير وطنية، ولكنها تحب الوطن وتتوجس من فقدان هويتها. وفي المقابل، ترى الأغلبية أن الأقلية منغلقة على نفسها، وتبدي تعجبها ممن يقول إنه يحب الوطن في حين أن سلوكه يُظهر نوعًا من التحفظ تجاه الثقافة الغالبة. وبالطبع، ترى الأغلبية أن ثقافتها هي الأرقى وهي الأكثر تقدمًا، ولا تجيد دائمًا إخفاء هذا، ومن يقاوم هذا من أبنائها يذهب إلى النقيض المبالغ فيه بأن الثقافة الغربية أسوأ ثقافات العالم.
كل هذا ليس جديدًا، وتعاملت معه الدول والمجتمعات، وتوصلت إلى صيغة تحل الكثير من المشكلات وليست كلها، وهي “العلمانية” (ولها أشكال متعددة)، أو مدنية الدولة وحصر الدين في الفضاء الخاص. والمشكلة طبعًا أن الكثير من المسلمين يتوجسون منها لأسباب بعضها وجيه وليست كلها. وسنعود إلى تلك النقطة مرارًا. وهناك مشكلة أخرى تخص بعض قطاعات فقراء المسلمين والإفريقيين: يمثل التعليم والمدرسة الفرصة الرئيسة وقد تكون الوحيدة للصعود الاجتماعي في أغلب الدول. والتعليم في أوروبا عامة مختلط، ففي الفصول أولاد وبنات، وفي كل العالم تتفوق البنات على الأولاد في المراحل الأولى، تفوقًا يكاد يكون ساحقًا، وتعلم كل العائلات هذا وتتعامل معه، والاستثناءات تكون في بعض قطاعات فقراء المسلمين والإفريقيين، حيث تتعامل بمنتهى القسوة مع الابن الذي يجد صعوبات في الدراسة وتعايره بتفوق أخته عليه. والنتيجة عندئذ أنه يكره الثقافة الغالبة، ويكره عائلته، ويكره أخته، ويكره المدرسة والمناهج التي “تكرس” فشله، وينعكس هذا على سلوكه فيصبح عدوانيًّا مثيرًا للمشكلات. هذا النمط ليس غالبًا، ولكنه يلعب دورًا مهمًّا في “تسميم” الجو.
وبرزت بسرعة مشكلة التعايش بين أغلبية يتناقص وزنها السكاني ويزداد إحساسها بعدم الأمان الثقافي، وأقلية تزداد أهمية ولها أصول ثقافية مغايرة وتعاني أيضًا من إحساس بعدم الأمان. وزادها تعقيدًا أن مسار كل ثقافة (مزيد من التحرر/ مزيد من المحافظة) يبدو مناقضًا للآخر. يبدو لأن كل ثقافة تشاهد سجالًا بين تيارات مختلفة، منها المحافظ ومنها الليبرالي أو اليساري، ولكن الواضح أن الرأي العام ازداد يمينية.
وهنا يجب التدقيق. أولًا، الماضي والذاكرة الجمعية يلعبان دورًا مهمًّا. على سبيل المثال، أوروبا الغربية لها ماضٍ استعماري، بينما عانت دول أوروبا الشرقية من الاحتلال العثماني. الجزائريون عانوا من الاحتلال الفرنسي معاناة أعمق بكثير من معاناة الباكستانيين من الاحتلال البريطاني. وفي المقابل، فإن تأثرهم بالثقافة الفرنسية أشد، هناك دول تستقبل مهاجرين منذ قرن (فرنسا) أو حتى قرون (الولايات المتحدة وكندا)، وهناك دول حديثة العهد بالظاهرة (شمال أوروبا)، وهناك دول كانت تشاهد أبناءها يهاجرون، ثم أصبحت هي تستقبل مهاجرين (إيطاليا، واليونان)، ودول كانت تستقبل مهاجرين وأصبحت الآن تشهد هجرة، فأبناؤها يتركونها (فرنسا).
ثانيًا، هناك دول تحتاج إلى مهاجرين ودول وضعها مختلف نسبيًّا (ولا يعني هذا أن المجموعة الأولى ستحسن استقبالهم على عكس الثانية؛ فالموضوع أكثر تعقيدًا).
ثالثًا، تلعب العلاقات بين المسلمين واليهود دورًا مهمًّا في نظرة الأغلبية للمسلمين، من يتعاطف مع اليهود -وهم قطاعات كبيرة- سيكون منزعجًا من الخطابات المعادية لهم وهي قطعًا أكثر انتشارًا في أوساط المسلمين، وفرنسا تحديدًا بها أكبر جالية إسلامية وأكبر جالية يهودية في أوروبا.
رابعًا، يجب التشديد على وجود طبقات وسطى مسلمة كبيرة أجادت التكيف مع محيطها، وتأثرت به، وأثرت فيه، ولا تشتبك معه، بل تنخرط فيه. موضوعيًّا، المشكلات تخص أساسًا القطاعات الفقيرة وبعض قطاعات البرجوازية الصغيرة، وتوظيف تلك المشكلات من قبل الإسلام السياسي وبعض فرق اليساريين من جهة، والتيارات اليمينية المتطرفة من جهة أخرى.
لا نقلل من شأن المشكلة، فنسبة الشباب المنخرطين في الإسلام السياسي في ارتفاع مستمر، وبلغ حدًّا يُقلق السلطات والطبقات الوسطى، ولا نقول إن تلك المشكلة لا تؤثر على مدركات الرأي العام واتجاهاته بأكمله وبكل طوائفه وطبقاته، ولا نقول إن العلاقات بين أبناء الطبقات الوسطى من مختلف الثقافات “سمن على عسل” دائمًا، بل نقول إن وصول الموضوع إلى مرحلة “الأزمة الخطيرة” يعود إلى مزيج من العوامل، منها الهيكلي، ومنها “عمى” النخب الليبرالية وعدم فهمها لعمق ظاهرة انعدام الأمن الثقافي وعجز الدول عن تحديد صيغة عادلة تسمح بالتعامل مع من يجد صعوبة في التكيف مع الثقافة الأصلية للبلاد ومع من يرفضها أيضًا، ووجود قوى سياسية وناشطية عدوانية تستغل المشكلة وتساهم في تفاقهما تنفيذًا لأجندتها.
كل هذا لا يعني أن لقاء الثقافات “سلس” بطبعه، وأن هناك من أفسده. هناك صعوبات يومية تعتري التعامل بين أبناء ثقافات مختلفة. ولا يتسع المجال لحصرها، ولذلك سنكتفي بذكر بعضها. هذه المشكلات يمكن حلها بالحوار وبحسن النية، ولكن هناك من يحرص على تعميقها لأسباب سياسية. على سبيل المثال، الثقافة العربية تسمح بالصلاة في الفضاء العام، ولكن الثقافة الغربية (بما فيها ثقافة المتدينين) تمتعض من هذا، وترى فيه سلوكًا عدوانيًّا. هناك عادة متأصلة في الثقافات الأوروبية (الوضع مختلف في الولايات المتحدة) وهي السخرية الجارحة من الأديان كافة ومن رموزها، ولا يتقبل الإفريقيون والعرب هذا بسهولة، وهذه المشكلة مسمومة لأن النخب الليبرالية تحث على مراعاة شعور المسلمين مما يثير اللا دينيين والمتدينين من أبناء الديانات الأخرى الذين يطالبون باحترام دياناتهم أيضًا. هناك قطاعات من المتدينين لا يحبون أن يكشف طبيب على امرأة، بل يطالبون بوجود طبيبة وقد يطالبون طبيبة من أبناء ديانتهم. هناك امتعاض المتدينين من بعض المناهج الدراسية، لا أتحدث عن نظرية دارون فقط بل عن تدريس بعض النصوص الأدبية العظيمة، وكلما طالب المتدينون بتغيير المناهج كلما تصلب رأي أعداء التغيير. وهناك مسلمون قد يقبلون تدريسها، ولكنهم يعترضون على تدريسها في شهر رمضان، وهو مطلب يبدو لي معقولًا ولكن هناك من يرفضه. ناهيك عن الصراعات الدائمة حول كيفية تدريس التاريخ وتفسيره، وتدريس الفلاسفة ومذاهب الملاحدة. في دول كثيرة هناك رفض لا عقلاني للحجاب، فهناك تصورات وهمية بأن الرجل هو الذي يفرضه لإذلال المرأة، وأنه يعكس رغبة في الانغلاق وفي إبداء الاحتقار للثقافة الغربية (وطبعًا يمارس الإسلاميون ضغوطًا لا تُطاق لفرضه على المسلمة. وهناك اعتداءات على المسلم الذي يفطر علنًا في رمضان وعلى اليهود وعلى المسلم الذي يجاهر بإلحاده). وهناك عند الكثيرين من الغربيين موقف لا عقلاني ومتعصب من قضايا الأكل الحلال. والغربيون يمارسون تمييزًا قد يكون لا إراديًّا. وبصفة عامة، يمكن القول إن الثقافة الغربية تعتنق المذاهب الفردية والمفرطة في الفردية، بينما ترتكز الثقافات الأخرى على الولاء للجماعة والطائفة.. إلخ.
سنتعرض لاحقًا في مقال آخر لأساليب التعامل مع “الغير” من أبناء الوطن في الدول الغربية، وسنقارن بين التعددية الثقافية والإدماج الفارض لثقافة مركزية، ثم نعود إلى التمييز ضد المسلمين وتزايد أعمال العنف ضدهم، ونتحدث عن مميزات وعيوب وغموض مفهوم الإسلاموفوبيا، وتوظيفه كأداة في أيدي قوى سياسية متنوعة لها أهداف متناقضة، فهناك من يتبناه لتسهيل الإدماج والمحافظة على السلام، وهناك من يستعمله لزرع الفتنة وتعميق الهوة ولخدمة مشروعه.