فى إطار البحث وراء جريمتى، «الفصل العنصري» و«التطهير العرقى» الموصوم بهما الاحتلال الإسرائيلى فى ممارساته بحق الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين منذ ما قبل عام 1948 ولاحقا قبل 1967 أيضا فى حالات واسعة، من الأراضى والسكان. تأتى المناطق الثلاث التى يمكن اعتبارها بعد حصاد جولتى الصراع العسكرى المصحوب بفعل ووضعية «الاحتلال»، تشهد وجودا لمكون «فلسطينى» معتبر وهى الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، باعتبارها المناطق الجغرافية التى شهدت انتهاكا واسعا للحقوق الفلسطينية، للحد الذى وصل إلى النزاعات القانونية الدولية والتقارير الحقوقية التى وصفت الكثير من وقائعها، بالجرائم ضد الإنسانية، فضلا عن الحرمان الكامل من الحق الإنسانى والأخلاقى، وأخيرا وصولا لـ«جرائم حرب» بحق المدنيين.
احتلت إسرائيل الضفة الغربية منذ السابع من يونيو 1967، وقد فرضت على المنطقة بأكملها سلطة احتلال اعتبارا من هذا التاريخ، وخولت لـ«قائد منطقة الضفة الغربية» كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على الأراضى المحتلة وسكانها، اعتبارا من هذا الوقت. وقد قام هذا الحاكم العسكرى بممارسة تلك السلطات عبر إصدار الجيش الإسرائيلى، مئات من الأوامر العسكرية التى تحكم كل مناحى الحياة اليومية للبلدات والقرى الفلسطينية وسكانها، بما يشمل كل ما يتعلق بالأراضى والموارد الطبيعية. جرى تقسيم أراضى الضفة الغربية بموجب «اتفاقية أوسلو» إلى ثلاث مناطق اعتبارا من عام 1994، وهو تاريخ تأسيس «السلطة الفلسطينية» إلى مناطق «أ» و«ب» و«ج»، بحيث تمارس السلطات الإسرائيلية سيطرة حصرية كاملة على المنطقة «ج» التى تبلغ مساحتها نحو 60% من الضفة الغربية، فى حين تدير السلطة الفلسطينية بعض الشئون المتعلقة بحياة الفلسطينيين فى منطقتى «أ» و«ب» اللتين تشكلان 40% من المساحة المتبقية من إجمالى الضفة الغربية.
باستخدام سلاح «الاستيطان» وهو رأس الحربة لترسيخ الاحتلال والاقتلاع، وممارسة جريمة «التطهير العرقى» المثبتة داخل عشرات المناطق بالضفة الغربية، قامت إسرائيل منذ عام 1967 بإنشاء ما يتجاوز (285 مستوطنة)، منها (138 مستوطنة) معترفا بها بحسب القانون واللوائح الرسمية الإسرائيلية. والعدد الباقى يطلق عليه مصطلح «البؤر الاستيطانية»، وهى مستوطنات أقيمت دون تصاريح رسمية فى حين تقوم السلطات الإسرائيلية لاحقا بتوفير البنية التحتية والخدمات الأساسية لها، تمهيدا لتحويلها إلى مناطق شرعية، رغم أن غالبيتها تمثل حالات مثبتة لـ«سرقة الأراضى». وهذا ما يجعل فعل «التطهير العرقى» مكتمل الأركان،
بالنظر إلى منشأ السرقة والانتزاع للأراضى ومن ثم «إحلال» المستوطنين اليهود الإسرائيليين محل أصحاب الأرض الفلسطينيين. كما تقوم سلطات الدولة الإسرائيلية بـ«التمييز» بين المكونين السكانيين الفلسطينى البالغ (2.8 مليون فلسطينى) و(441 ألف مستوطن إسرائيلى)، بنظامين وقانونين مختلفين يرسخان بالطبع عدم التكافؤ فى غالبية ما له علاقة بالحقوق المدنية والسياسية، لكن يظل الأخطر والأشد وطأة على المكون الفلسطينى ما يتعلق بفرض الأمن وحرية التنقل، ومعه عدة مسائل ذات ارتباط بالمعيشة اليومية مثل قواعد البناء، والحصول على خدمات البنية التحتية من الماء والكهرباء وإدارة الموارد.
«حرية التنقل» والوصول للأراضى كنموذج كاشف، يخضع لتعقيدات تمارسها السلطات الإسرائيلية بصرامة ودقة طوال الوقت، فهناك سماح كامل من السلطات الإسرائيلية للمستوطنين المقيمين والزائرين الإسرائيليين، والسياح الأجانب أيضا، بحرية تنقل واسعة فى كامل أنحاء الضفة الغربية، بما فى ذلك مناطق التماس والكثير مما تعتبر مناطق عسكرية مغلقة. فى حين تمنع فلسطينيى الضفة الغربية من دخول أجزاء كبيرة من مناطق الضفة نفسها، بما يشمل ذلك القدس الشرقية والقرى المجاورة لها التى ضمتها إسرائيل فى عام 1967، فضلا عن مناطق التماس بين «جدار الفصل العنصري» وما يسمى بـ«الخط الأخضر»، وهذا يشمل بالطبع المستوطنات والمناطق العسكرية. لكن ما يمكن اعتباره جريمة ممتدة لها ارتباط بـ«الفصل العنصرى»، هو حرمان نحو (15 ألف فلسطينى) ممن يعيشون فى مناطق التماس من الوصول إلى أراضيهم الزراعية، وهو النشاط الرئيسى الذى يمارسونه من أجل البقاء على قيد الحياة. وهذا الأمر ليس مقصورا على هؤلاء فحسب، فالفلسطينيون عليهم مواجهة نحو (600 عائق أمنى) يقيد تحركاتهم فى مناطق الضفة الغربية وحدها، تتمثل تلك العوائق فى نقاط أمنية وحواجز ومتاريس، للقوات الموجودة عليها سلطة عدم السماح للفلسطينيين بالمرور منها، وهو ما يجرى غالبية الوقت كى تتحول التنقلات القصيرة إلى رحلات طويلة ومهينة تستغرق ساعات.
ينطبق القانون الدولى لحقوق الإنسان بما فى ذلك العهد الدولى، على تعامل إسرائيل مع فلسطينيى الضفة الغربية، إلى جانب القانون الإنسانى الدولى الذى ينظم الاحتلال، وتحاول إسرائيل دوما التنصل من التزامها به. إلا أن لجنة حقوق الإنسان الأممية خلصت إلى أن بنود العهد الدولى تنطبق لمصلحة الأراضى المحتلة، كما قامت محكمة العدل الدولية بتأييد هذا الرأى فى رأيها الاستشارى المتعلق بـ«جدار الفصل» الإسرائيلى، وذكرت المحكمة أن العهد الدولى ينطبق على الأعمال التى تقوم بها دولة ما عند ممارسة اختصاصها خارج ترابها، كون الجدار العنصرى أقيم على أراض فلسطينية. وتوفر بعض النصوص القانونية المهمة حماية واجبة للشعب والحق الفلسطينى، مثلما تعتبر مثلا أنه كلما كان الاحتلال أطول، تصبح قواعد القانون العسكرى أشبه بنظام حكم اعتيادى، لذلك يجب أن تكون معايير القانون الدولى لحقوق الإنسان المنطبقة فى كل الأوقات هى المعايير السائدة.
بل وأكثر من ذلك فعندما تكون هناك فترات زمنية من القتال العنيف خلال الاحتلال، فإن الوضع يجب أن يعود إلى طبيعته بعد أن تهدأ هذه الأعمال القتالية، على أن يحل محلها تلقائيا وضع تسوده أحكام القانون الدولى لحقوق الإنسان. بحسب تقرير لمنظمة «هيومن رايتس» بعنوان «بلا حقوق منذ الولادة»، والذى ورد بعاليه بعض مما جاء فيه، يذكر فضلا عن ذلك أنه فى أغسطس عام 1967 أصدر الجيش الإسرائيلى (الأمر العسكرى رقم 101) الذى يجرم المشاركة فى تجمعات تزيد على عشرة أفراد دون ترخيص، وتصل عقوبة ذلك إلى السجن عشر سنوات. بعد 57 عاما، مازال الجيش الإسرائيلى حتى اليوم يحاكم ويسجن الفلسطينيين بموجب ذات الأمر العسكرى رقم 101 لسنة 1967!