مع تجاوز العدوان الإسرائيلي على غزة قرابة النصف عام بدأ يتشكل سلوك أمريكي داعم لمزيد من التهدئة والتوجه صوب الاستقرار، وهو ما انعكس بشكل جلي في امتناع واشنطن استخدام حق النقض الفيتو ضد القرار رقم 2728 الذي طرحته الجزائر في مجلس الأمن في مارس الماضي من أجل وقف إطلاق النار. إلا أنه على النقيض من ذلك يبدو أن المنطقة ترنو صوب الاشتعال مجددًا مع استهداف إسرائيل في نطلع إبريل الجاري القنصلية الإيرانية في دمشق ومقتل عدد من قيادات رفيعة بالحرس الثوري الإيراني، وما أعقبه من رد إيراني السبت 13 أبريل، استهدف الداخل الإسرائيلي بالعديد من الطائرات بدون طيار والصواريخ. الأمر الذي يثير التساؤل بشأن المنحى الذي ستتبناه واشنطن في تعاملها مع هذا المشهد التصعيدي، الذي سيحمل – حال استمراره – المزيد من التكاليف ليس فقط على المنطقة ودولها، وإنما على الولايات المتحدة أيضًا.
دعم ممزوج بالحرص على عدم التصعيد
مع تبلور مؤشرات الانتقام الإيراني للرد على إسرائيل، سارعت الولايات المتحدة إلى تقديم تأكيدات متكررة بشأن دعم إسرائيل وحماية أمنها، لكن يظل الملمح البارز في هذه التصريحات هو الإشارة إلى عدم الرغبة في الدخول في صراع مع إيران أو اتجاه المشهد نحو المزيد من التصعيد.
أدان الرئيس “جو بايدن” في بيانه المنشور على موقع البيت الأبيض الهجوم الإيراني غير المسبوق. موضحًا أنه أصدر توجيهات بقيام الجيش الأمريكي بنقل طائرات ومدمرات للدفاع الصاروخي الباليسيتي إلى المنطقة على مدار الأسبوع الماضي. مضيفًا أنه بفضل عمليات الانتشار هذه تم مساعدة إسرائيل في إسقاط جميع الطائرات بدون طيار والصواريخ تقريبًا.
كما أشار إلى أنه تحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مؤكدًا التزام واشنطن الصارم بأمن إسرائيل، ومشيدًا بالقدرات الدفاعية الإسرائيلية التي حملت رسالة واضحة مفادها عدم قدرة الخصوم على تهديد أمن إسرائيل. ولفت أيضًا إلى اجتماعه مع زعماء مجموعة السبع من أجل تنسيق “رد دبلوماسي موحد”، وكذا استمرار فريق إدارته في التفاعل مع نظرائهم بالمنطقة.
ومن جانبه، أكد وزير الخارجية “أنتوني بلينكين” إدانة واشنطن للهجوم الإيراني على إسرائيل، موضحًا أنه على الرغم من عدم دعم الولايات المتحدة لمزيد من التصعيد، إلا أنها ستواصل دعم الدفاع الإسرائيلي. كما تحدث وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” مع نظيره الإسرائيلي “يوآف جالانت” لتأكيد الدعم الأمريكي القوي للدفاع عن إسرائيل، مشيدًا بالإجراءات الدفاعية غير العادية والتعاون القوي بين البلدين.
صرح “أوستن” بوضوح أن إسرائيل يمكنها “الاعتماد على الدعم الأمريكي الكامل للدفاع عن إسرائيل ضد أي هجمات مستقبلية من قبل إيران ووكلائها الإقليميين”. كما أدان في بيان الهجمات “المتهورة وغير المسبوقة” التي تشنها إيران ووكلائها، داعيًا إيران إلى الوقف الفوري لأي هجمات أخرى، بما في ذلك تلك التي تشنها قواتها بالوكالة، وتهدئة التوترات. لافتًا إلى أن واشنطن لا تسعى إلى الدخول في صراع مع طهران، لكنها لن نتردد في العمل لحماية قواتها ودعم الدفاع عن إسرائيل.
إعادة تحفيز دعم الكونجرس
في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” اتجه الكونجرس بغرفتيه إلى التركيز على الدعم الأمريكي لإسرائيل، إلا أن هذا الدعم قد ووجه بمعرقلين أساسيين، ينصرف الأول إلى محاولة بعض الديمقراطيين ربط الدعم المقدم لإسرائيل بالدعم المقدم لأوكرانيا؛ بينما يستند الثاني إلى الضغوط التي فُرضت على هذا الدعم جراء المجازر والوحشية الإسرائيلية في تعاملها مع سكان قطاع غزة. إلا أنه فيما يبدو كنتيجة للهجمات الإيرانية على إسرائيل سيذوب تأثير هذين المعرقلين، ويصبح التركيز على الدعم الأمريكي لإسرائيل بشكل لا جدال فيه.
وعلى هذا النحو، يقوم مجلس النواب الأمريكي بتغيير جدول أعماله للأسبوع المقبل للنظر في تشريع يدعم إسرائيل في أعقاب إطلاق إيران طائرات بدون طيار باتجاه إسرائيل. فقد قال زعيم الأغلبية بمجلس النواب “ستيف سكاليز” في بيان إن مجلس النواب “سينتقل من جدوله التشريعي المعلن عنه مسبقًا الأسبوع المقبل لينظر بدلًا من ذلك في تشريع يدعم حليفتنا إسرائيل ويحاسب إيران ووكلائها الإرهابيين”. مضيفًا أن مجلس النواب “يقف بقوة إلى جانب إسرائيل، ويجب أن تكون هناك عواقب لهذا الهجوم غير المبرر”.
ومن جهته، قال رئيس مجلس النواب “مايك جونسون” في بيان إنه “سيواصل التواصل مع البيت الأبيض للإصرار على الرد المناسب” على الهجوم. كما دعا النائب الجمهوري “مايك لولر” رئيس مجلس النواب إلى “تقديم حزمة تكميلية من المساعدات لإسرائيل من أجل دعمها في وقت حاجتها”. ووصف النائب الديمقراطي “ريتشي توريس” إيران بأنها “القوة المنفردة الأكثر زعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط”. بينما ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، حيث دعت السيناتور الجمهورية “مارشا بلاكبيرن” الرئيس “بايدن” إلى “شن ضربات انتقامية عدوانية على إيران”.
الغلاف الديني للدعم الأمريكي لإسرائيل
لم يتوقف التعامل مع مشهد التصعيد الجاري في منطقة الشرق الأوسط عند حدود الحديث بشأن المصالح السياسية والاقتصادية، وإنما يكمن الخطر الحقيقي في الغلاف الديني الذي يتم اقحامه على المشهد بطريقة تفرض صعوبات ومعضلات يصعب التعامل معها وتفكيكها، بل وتدفع الأطراف صوب مزيد من التصعيد بالاستناد إلى الرؤى الدينية المتعلقة بنبوءات نهاية الزمان.
في مقابلة مع ALL ISRAEL NEWS، قالت “ميشيل باخمان” – العضوة السابقة بالكونجرس والتي ترأست عدد من الوفود الإيفانجيليكية للمنطقة – إن الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل من شأنه أن يؤدي إلى عواقب كارثية على الجمهورية الإسلامية. موضحة أن “أغلبية الأمريكيين يؤمنون بإله الكتاب المقدس”، “صلواتنا تدعم استمرار الدولة اليهودية وسلامة وأمن جميع الإسرائيليين والعودة الفورية للرهائن”. مشيرة إلى أن “أي هجوم إيراني ضد إسرائيل سيؤدي على الفور إلى قيام العملاق الأمريكي بالرد لمساعدة حليفنا الإسرائيلي”. مضيفة أن إيران تحتاج إلى إدراك كون “غالبية أعضاء الكونجرس الأمريكي والشعب الأمريكي يدعمون إسرائيل. وأي هجوم ضد إسرائيل سيقابل برد شامل ستندم عليه إيران”.
وفي ذات السياق، قال القسيسين “داني هويل” وابنه “ستيفن هويل” إنه “لا يمكنك أن تكون مسيحيًا وتشاهد أمة إسرائيل تمر بما تمر به، ثم تجلس ولا تفعل أي شيء على الإطلاق”. أكد “ستيفين” أن الوقوف مع إسرائيل ينبع من كونها قضية كتابية”، فيما شدد والده “داني” قائلًا “نحن على حافة المجيء”. واتصالًا بذلك، يخطط المئات من القساوسة وقادة المجتمع المسيحي المرتبطين بمنظمة “المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل” CUFI لرحلة جوية طارئة إلى واشنطن للضغط على رئيس مجلس النواب “مايك جونسون” من أجل مزيد من الدعم المقدم لإسرائيل، وفقًا لصحيفة “واشنطن بوست“.
إدارة “بايدن” بين شقي الرحى
في ضوء مشهد التصعيد الجاري في المنطقة يتضح أن الإدارة الأمريكية تشهد مأزقًا حقيقيًا في عام الانتخابات الرئاسية. وتعود أسباب هذا المأزق إلى أن إدارة “بايدن” سعت منذ يومها الأول في الحكم إلى الانقضاض على إرث الرئيس السابق “دونالد ترامب” فيما يتعلق بالتعامل مع إيران، وانتهجت في سبيل ذلك سياسة أكثر مهادنة ارتكزت بشكل أساسي على إعادة تحفيز المسار الدبلوماسي والتوصل لاتفاق مع طهران. وهو الأمر الذي نجم عنه في النهاية اتهام بعض الرموز الجمهورية لإدارة “بايدن” بأنها كانت السبب في وقوع هجمات “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر الماضي.
ويأتي في مقدمتهم الرئيس السابق والمرشح الجمهوري “ترامب” الذي قال في حديثه، بتجمع حاشد بولاية بنسلفانيا، إن هجوم حماس في 7 أكتوبر والهجمات الجوية الإيرانية على إسرائيل “لم تكن لتحدث لو كنت في المنصب”، وانتقد ما قال إنه “ضعف” الرئيس “بايدن” في الخارج. كما تفاخر بسجله في هذا الملف، مؤكدًا أنه حارب من أجل إسرائيل “كما لم يفعل أي رئيس من قبل”، واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إلى من تل أبيب، كما دعم مسار اتفاقيات إبراهام التاريخية، التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات والبحرين.
واستنادًا إلى ذلك، يتضح أن إدارة “بايدن” تواجه مجموعة من الضغوط التي تدفعها صوب تبني مسارًا تصعيديًا، يأتي في مقدمتها محاولة أن تنفي عن نفسها التهمة الخاصة بكون سياستها هي السبب الرئيس في تعزيز دور طهران المزعزع للاستقرار بالمنطقة. فضلًا عن تعالي بعض الدعوات الداخلية التي تطالب برد أمريكي انتقامي داخل إيران، أو مساعدة إسرائيل على القيام بمثل هذه الضربة الانتقامية.
إلا أنه على النقيض من ذلك، تدرك الإدارة الأمريكية خطورة التصعيد وعدم الاستقرار بالمنطقة، كونه سيؤدي إلى عواقب وتداعيات مركبة لن تقف عند حدود المنطقة فقط، وإنما ستصل إلى الساحة الدولية، وهو ما سيفرض مزيد من التكاليف على واشنطن. واتصالًا بذلك، كشف تقرير لشبكة “ان بي سي” عن مخاوف لدى كبار المسؤولين الأمريكيين من أن إسرائيل قد تتصرف بشكل متهور في أعقاب الهجوم الإيراني دون النظر إلى التداعيات. وأضاف التقرير أن مخاوف البيت الأبيض تنبع من الطريقة التي أدارت بها إسرائيل عدوانها على غزة.
كما أفاد موقع “أكسيوس”، بأن الرئيس “بايدن”، أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي، خلال مكالمة هاتفية، أن واشنطن لن تدعم أي هجوم مضاد إسرائيلي ضد إيران، حسبما صرح مسؤول بالبيت الأبيض للموقع. وأضاف الموقع موضحًا أن “بايدن” وكبار مستشاريه يشعرون “بقلق بالغ” من أن الرد الإسرائيلي على الهجوم الإيراني سيؤدي إلى حرب إقليمية “ذات عواقب كارثية”.
مجمل القول، هناك إدراك أمريكي قوي لخطورة التصعيد في المنطقة، وبالتالي فمن المرجح أن تتجه واشنطن لتقديم أقصى دعم ممكن لإسرائيل مع العمل على الحصول على تعهدات إسرائيلية من شأنها تجنب المجازفات والتحركات الخطرة. وبالتوازي مع ذلك، ستسعى واشنطن لتحقيق “أقصى تضييق” على طهران بشكل مقارب لسياسة “أقصى ضغط” التي أطلقها “ترامب” من أجل تحجيم نشاطها المزعزع للاستقرار، وستقوم في سبيل ذلك بقيادة حملة عزلة دبلوماسية قوية من شأنها تضييق الخناق على إيران. لكن يظل التعامل الأمريكي مع المشهد مرتهن بتحركات طرفين المشهد الرئيسيين (إسرائيل وإيران)، ورغبتهما في الاتجاه نحو التهدئة أو القيام بمزيد من التصعيد.