اتسمت قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل خلال السنوات الماضية بما يعرف بـ”حرب الظل” (نمط من الممارسات المرتبطة بتفجيرات السيارات المفخخة، والاغتيالات، والهجمات الصاروخية بين الحين والآخر) وذلك باستخدام إيران لوكلائها في مواجهة إسرائيل وتنفيذ الأخيرة اغتيالات مستهدفة شخصيات إيرانية دون الدخول في مواجهات مباشرة مع طهران، لكن يبدو أن تحولًا حدث أمس السبت 13 أبريل حيث شنت إيران هجمات مباشرة على إسرائيل بواسطة أكثر من 300 صاروخ كروز وباليستي وطائرة بدون طيار، ردًا على هجوم إسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق في بداية شهر أبريل الجاري، والذي أسفر عنه مقتل جنرالين وخمسة ضباط إيرانيين منهم العميد “محمد رضا زاهدي” القائد للعمليات الخارجية بفيلق القدس في سوريا ولبنان، وهو شخصية رئيسية في تنسيق محور المقاومة الذي يدافع عن المصالح الإيرانية في المنطقة، وكذلك مقتل نائبه العميد “محمد هادي حاج رحيمي”.
توعدت طهران بالرد على الهجمات الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق، وذلك على خلفية الحرب الممتدة بين إسرائيل وحماس منذ 7 أكتوبر 2023، والتي نتج عنها مقتل أكثر من 1100 إسرائيلي، وأكثر من 33100 فلسطيني، بالإضافة إلى تدمير أكثر من 80 % من البنية التحتية في قطاع غزة. وعلى إثر الحرب في غزة استمرت الهجمات المتبادلة بين إسرائيل ووكلاء إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، ومنها الهجمات على القوات الأمريكية في العراق وسوريا، بالإضافة إلى تعطل أمن الملاحة في البحر الأحمر نتيجة ضربات الصواريخ والطائرات بدون طيار من جانب الحوثيين، بهدف ممارسة مزيد من الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ناهيك عن التخوفات الدولية والإقليمية من اشتعال الحدود الإسرائيلية-اللبنانية في سياق الحرب الدائرة.
أظهرت طهران خلال الأشهر الماضية عدم الرغبة في اتساع مدى الحرب إقليميًا، والحفاظ على مستوى منضبط من التصعيد، وكان ذلك واضحًا في سياق هجمات وكلائها على الجنود الأمريكيين في الأردن، والرد الأمريكي بهجمات جوية على سوريا والعراق، بما قاد إلى زيارة قائد فيلق القدس “إسماعيل قاآني” للعراق ووجه الفصائل بالتوقف عن استهداف القوات الأمريكية، وبعث ذلك برسائل إلى واشنطن برغبة إيرانية في عدم توسع الحرب إقليميًا. لكن مع ارتفاع وتيرة التصعيد الإسرائيلي باستفزاز إيران، وتوجيه هجمات على القنصلية الإيرانية في دمشق في 5 أبريل الجاري، عملت إيران على استعادة وضبط معادلة الردع الإقليمي، والرد على التهديد الإسرائيليلأمنها،فكان الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل أمس يوم 13 أبريل الجاري، بما عكس بعض الدلالات والخيارات المحتملة التي سيتم توضيحها على النحو الآتي:
أولًا- دلالة الهجمات:
يعكس الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل بعض الدلالات نذكرها على النحو الآتي:
1- حجم الهجوم: يكشف الهجوم الإيراني بالرغم من كثافة الصواريخ عن ضآلة التأثير ومحدودية الهدف، وبحسب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي “دانييل هاغاري” اعترضت الطائرات المقاتلة الإسرائيلية نحو 25 صاروخًا، بينما وصل عدد قليل من 120 صاروخًا باليستيًا المجال الجوي الإسرائيلي، بما تسبب في أضرار ضئيلة للبنية التحتية في قاعدة نيفاتي الجوية، وإصابة فتاة تبلغ من العمر عشر سنوات، فضلًا عن إصابة نحو 31 شخصًا أثناء توجههم إلى منطقة محمية عند إطلاق صفارات الإنذار.
وتشير بعض التقارير إلى أن الطائرات الإيرانية المرسلة كانت بطيئة الحركة ومصممة للاستخدام التكتيكي بما يعني رغبة إيرانية في ضربة محددة الأبعاد، بهدف تجنب مزيد من التصعيد من جانب إسرائيل، إذ كان هناك استعداد دفاعي جوي إسرائيلي، وفي الساعات التي سبقت الهجوم أغلقت الأردن وإسرائيل مجالهما الجوي أمام حركة المرور التجارية، وقامت الناقلات الأمريكية بتزويد الطائرات المقاتلة الأمريكية بالوقود في سماء العراق، بالإضافة إلى تشكيل تحالف من الجيوش الأمريكية والبريطانية والأردنية لصد الطائرات بدون طيار، والصواريخ الإيرانية قبل وصولها إلى المجال الجوي الإسرائيلي، مما أدى إلى نجاح الجيش الأمريكي في إسقاط عشرات الصواريخ والطائرات بدون طيار المتجهة إلى إسرائيل من إيران والعراق وسوريا واليمن، الأمر الذي يُفسر أن إيران حرصت على الرد على هجمات إسرائيل على القنصلية الإيرانية في دمشق حفظًا لماء الوجه، لكن دون الرغبة في التصعيد، والحرص على عدم تعقد مصالحها مع الولايات المتحدة.
2- إعادة توازن معادلة الردع: يُعد هذا الهجوم الإيراني الأول والمباشر من جانب طهران تجاه إسرائيل، وجاء الرد الإيراني بتوجيه هجمات إيرانية بنحو 300 طائرة بدون طيار وصاروخ، بهدف استعادة صورة ومكانة إيران كقوة إقليمية والحفاظ على سيادتها، خاصة أن خيار عدم الرد على هجوم إسرائيل على القنصلية الإيرانية في دمشق يُضعف الصورة الإيرانية أمام حلفائها وأعدائها، في ظل استمرار الهجمات الإسرائيلية على المسئولين الإيرانيين، والهيئات الدبلوماسية الإيرانية، فإن لم تقم إيران بالرد فإن ذلك يشكل سمة طبيعية ومعتادة في الصراع المتبادل مع إسرائيل، لذلك كان التحول اللافت في هذا السياق وهو الرد المباشر من جانب طهران وليس من وكلائها، ومحاولة طهران الحفاظ على صورة النظام الإيراني والتماسك الداخلي الإيراني في ظل تمسك الحرس الثوري الإيراني بضرورة الرد على الهجمات الإسرائيلية.
3- الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024: حرصت طهران خلال الفترة الماضية على مستوى منضبط من التصعيد مع الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن في ظل احتمالية فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024، يبدو أن إيران تتحسب لذلك، خاصة أن ترامب الرئيس الأكثر عداء لطهران، لذلك فإن الحفاظ على القوة الإيرانية والقدرة على ردع إسرائيل محدد هام في سياسة طهران الخارجية من الضروري التأكيد عليه في حال فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة في 2024.
4- كسب إسرائيل مزيدًا من الدعم الدولي: يخدم هذا الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل، رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، خاصة بضمان تحقيق أهدافه بالقضاء على وكلاء إيران في المنطقة، وربما توحيد جبهة نتنياهو الداخلية مرة أخرى حول مواجهة خطر إيران وحماس، بما يعزز بقاءه في السلطة، وكسب الخطاب الأمريكي الحالي لصالحه بالدعم المستمر لإسرائيل، حيث أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا دعمها لإسرائيل عقب الهجوم الإيراني.
كما تواصل الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مؤكدًا التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل، والاتجاه إلى عقد اجتماع بين قادة مجموعة السبع للتنسيق بشأن الرد الدبلوماسي على الهجوم الإيراني، وفي الوقت ذاته قام الجيش الأمريكي بصد عشرات الصواريخ، الأمر الذي يؤكد الدعم الثابت والراسخ للأمن الإسرائيلي في العقيدة الأمريكية، بالرغم من الخلافات الظاهرية في الفترة الماضية بين الدولتين حول استراتيجية إسرائيل تجاه الحرب في غزة، والموقف الأمريكي من رفض هجوم رفح.
ثانيًا- خيارات محتملة:
في سياق التصعيد الجاري بين إيران وإسرائيل على خلفية الحرب في غزة، تبدو هناك بعض الخيارات المطروحة للردّ الإسرائيلي على هذه الهجمات بما يقود إلى بعض الخيارات على النحو التالي:
1- اضطرابات وتوترات إقليمية: من المحتمل اتجاه إسرائيل إلى الرد على الهجمات الصاروخية الإيرانية، بما يقود إلى اضطرابات إقليمية مستمرة، وتظل كافة المسارات مفتوحة أمام إسرائيل سواء بالرد عبر لبنان، وهي الجبهة التي لن تهدأ في ظل امتلاك حزب الله ترسانة من الصواريخ الباليستية، وصواريخ كروز، والطائرات بدون طيار. وتعد جبهة لبنان من أكثر الأوراق خطورة في ظل الوضع الهش على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، والتي حاولت إيران تجنب اشتعالها خلال الفترة الماضية، وإبقاءها ورقة ضغط بهدف خفض التصعيد الإسرائيلي في غزة. أو الرد الإسرائيلي عبر الساحات الأخرى.
وسيحكم مسار عدم التصعيد اعتبارات عدة، منها الصورة والمكانة الأمريكية أمام العالم والتي اهتزت بسبب عدم ضبطها لمعادلة السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، والرغبة الأمريكية بعدم التصعيد في ظل انتخابات رئاسية قادمة يرغب بايدن في الفوز بها، لذلك قد يتجه رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” إلى مهاجمة أهداف إيرانية محدودة، وعدم توسع نطاق الاستهداف بهدف احتواء نطاق التصعيد بين الطرفين في حال ممارسة ضغوط أمريكية.
2- التصعيد إقليميًا: قد تتجه الأمور إلى التصعيد في ظل عدم تقديم أي من الأطراف تنازلات بشأن الحرب في غزة، وفي ظل الاستفزازات الإسرائيلية بين حين وآخر، لكن ربما تدفع التوجهات الإسرائيلية المتطرفة إلى رد عنيف باستهداف إيران مباشرة أو مواقع نووية لها بما يفاقم سيناريو عدم الاستقرار الإقليمي، خاصة في ظل دعم أمريكي مستمر لها، لكن يرتب سيناريو التصعيد إضعاف صورة ونفوذ بايدن في الانتخابات، واحتمالية تعرض القوات الأمريكية للخطر، خاصة في ضوء القواعد الأمريكية المنتشرة في المنطقة، بما يقود إلى اتساع نطاق الحرب إقليميًا، واحتمالية المواجهة المباشرة بين إيران والولايات المتحدة. بالإضافة إلى تصعيد أكبر من جانب وكلاء إيران تجاه إسرائيل والولايات المتحدة. لكن يظل هذا السيناريو مرهونًا بمستوى الرشادة من قبل القادة الدوليين، والحرص على عدم توسع نطاق التصعيد، والنجاح في إيقاف الحرب في غزة بمزيد من الضغوط الفعلية على إسرائيل. خاصة أن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة لا تزال معرضة للتهديد، وورقة ضغط تمتلكها دول المنطقة في مواجهة التهديدات الإقليمية والدولية، سواء من جانب إيران أو إسرائيل أو القوى الدولية، سيما وأن دول المنطقة في موضع تهديد مستمر، بما يدفعها إلى احتمالية الدفاع عن أمنها وحماية مجالها الجوي في سياق التصعيد الجاري.
3- احتمالية عرقلة مسار التهدئة في غزة: من شأن الهجوم الإيراني على إسرائيل أن يعرقل مسار التهدئة بشأن الحرب في غزة، وربما تعنت إسرائيل في مسار التهدئة، وتمسك نتنياهو بتنفيذ استراتيجيته في القضاء على حماس، والإفراج عن الرهائن، في ضوء تصريحات لزعيمة حزب العمل الإسرائيلي “ميراف ميخائيلي” تعبر عن ضرورة استغلال إسرائيل لهذا الهجوم الإيراني من أجل التوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين الذين يقدر عددهم بنحو 133.
ختامًا، على الرغم من التحول في شكل الاشتباك بين الطرفين، والنجاح الأمريكي في اعتراض بعض الصواريخ الإيرانية، بما قد يقود إلى عدم توسع الحرب واحتوائها، وأن الرد الإيراني جاء بهدف ضبط معادلة توازن الردع دون إثارة استفزاز إسرائيل أو الولايات المتحدة؛ لكن يظل الرد الإسرائيلي والموقف الأمريكي خلال الفترة القادمة عوامل حاكمة للمسار القادم.