شهدت المملكة الأردنية، منذ الـ7 من أكتوبر 2023، حراكًا احتجاجيًا مناهضًا للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لكن هذا الحراك بدأ يأخذ منحنى مختلفًا، خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة التي شهدت صدامات بين متظاهرين وقوات الأمن الأردنية قرب سفارة تل أبيب في قلب عمان.
وتصدرت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن واجهة الأحداث لاعتبارات عديدة، فبالإضافة إلى دورها في قيادة وتنسيق الحراك، أبدت الجماعة استجابةً لدعوات حركة حماس بتصعيد الحراك الاحتجاجي التي أطلقها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الخارج خالد مشعل، في كلمة مسجلة له بُثت في فاعلية نسائية بالعاصمة عمان أواخر مارس الماضي، والناطق العسكري باسم كتائب القسام، الجناح العسكري لحماس، “أبو عبيدة” الذي أعاد نشر مقتطف من خطاب القائد العام للقسام دعا فيه للزحف نحو الحدود مع الأراضي المحتلة والمشاركة في معركة “طوفان الأقصى”.
وشكل التصعيد الأخير خروجًا عن التفاهمات الضمنية غير المعلنة بين جماعة الإخوان الأردنية وحركة حماس الفلسطينية من جهة والحكومة الأردنية من جهة أخرى، وهو ما أزعج الحكومة التي لا تُريد أن يتم توظيف حراك الدعم للقضية الفلسطينية في تحقيق مكاسب سياسية على حساب المصالح الوطنية أو فرض أجندة سياسية محددة على المملكة، لا سيما أن لها وضعًا خاصًّا ينبع من موقعها الجغرافي القَلِق وطبيعتها الديموغرافية بما في ذلك تكوين الشعب الأردني والنسيج الاجتماعي الذي يُشكل ذوو الأصول الفلسطينية فيه أكثر من نصف عدد السكان.
وعلى ذات الصعيد، يلعب العامل الديموغرافي، بجانب عوامل تنظيمية وأيديولوجية أخرى، دورًا حاسمًا في طبيعة انخراط جماعة الإخوان الأردنية في الحراك الاحتجاجي والعمل السياسي في البلاد، فقرار الجماعة ذات التاريخ الطويل من الانشقاقات والانقسامات يتأثر بشكل مباشر بعملية التدافع الداخلي بين تياراتها الأربعة وهي: (تيار الصقور التنظيميين- التيار القطبي-، وتيار الحمائم، والتيار الإصلاحي الذي عُرف من ذي قبل بتيار الوسط، وتيار أو تنظيم الظل المقرب من حركة حماس الفلسطينية والذي عُرف أيضًا بتنظيم حماس داخل إخوان الأردن).
الديناميات الداخلية وترتيب الأولويات الإخوانية
وفي الحقيقة فإن هذا التدافع بين تيارات إخوان الأردن لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن الموقف من القضية الفلسطينية والعلاقة مع حركة حماس وهي القضايا الخلافية البارزة التي شغلت حيزًا معتبرًا من الجدال والصراع التنظيمي قبل سنوات وتحديدًا قبل انفصال تنظيم حركة حماس الفلسطينية عن تنظيم جماعة الإخوان الأردنية، عام 2010، بناءً على قرار أصدره المرشد العام لجماعة الإخوان في العالم محمد بديع، وأقره مجلس شورى الجماعة في الأردن.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن حركة حماس الفلسطينية نفسها نشأت كجزء من تنظيم الإخوان المسلمين في بلاد الشام، الذي أسس عام 1978 وقاده المراقب العام للإخوان في الأردن، قبل أن يقرر التنظيم العالمي للإخوان المسلمين المعروف إعلاميًا بالتنظيم الدولي إنشاء جهاز فلسطين، عام 1986، ضمن عملية التحول النوعي من العمل الخيري والدعوي والتربوي إلى العمل العسكري والجهادي، والتي تمخض عنها في نهاية المطاف تأسيس “حماس” عام 1987.
واتخذت الحركة الفلسطينية من المركز العام لجماعة الإخوان في الأردن مقرًا لمكتبها السياسي ومجلس شوراها- الذي تشكل فيما بعد، وزاد نفوذ “حماس” داخل إخوان الأردن عقب عودة مجموعة من كبار قادة حماس، في مقدمتهم خالد مشعل، من الكويت إلى الأردن بالتزامن مع حرب الخليج الثانية عام 1991، وبسبب الوافدين الجدد إلى التنظيم، آنذاك، حدثت عملية انزياح ديموغرافي في الجماعة لصالح ذوي الأصول الفلسطينية على حساب الشرق أردنيين.
وبدورها، عملت حماس، في فترة وجود المكتب السياسي لحماس في الأردن (1991: 1999) على تجنيد كوادر جماعة الإخوان الأردنية لصالحها مستغلةً تفاهمًا واتفاقًا غير مكتوب مع السلطات الأردنية -“اتفاق جنتلمان”- على العمل السياسي والإعلامي داخل المملكة، وهو ما أدى لتراجع حضور الجماعة داخل المجتمع الشرق أردني، وحدوث خلافات داخلية في إخوان الأردن بين تيار الوسط الذي عُرف أيضًا بتيار “الأردنة” وتنظيم الظل أو تنظيم حماس في إخوان الأردن، ثم جاء قرار الحكومة الأردنية بإخراج الحركة الفلسطينية من البلاد، عام 1999، ليثير موجة انقسامات ثانية في الجماعة على أساس الموقف من حركة حماس وأسفرت تلك الموجة عن إعادة تشكيل التيارات الداخلية للجماعة إذ تحالف الإصلاحيون والحمائم ليشكلوا معًا ما يُعرف بتيار البراغماتية الموصوف بـ”المعتدل”، وآثر الصقور القطبيون التحالف مع مؤيدي حماس أو تيار الظل.
وفي السنوات التالية، حدثت صراعات تنظيمية بين التيارين حول ترتيب أولويات العمل السياسي، فتيار الحمائم والوسط (الإصلاحيون) رأى ضرورة التركيز على القضايا الوطنية الأردنية والتهدئة مع الحكومة وعدم الانجرار في صراعات معها، فيما رأى تيار الصقور وحليفه تيار الظل التركيز على القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية للجماعة والتصعيد مع الحكومة الأردنية، وبفعل هذه التدافعات الداخلية التي جاءت في خضم لعبة قط وفأر سياسية بين الحكومة الأردنية والإخوان كسب تيار الصقور والظل زخمًا كبيرًا كان أبرز تجلياته اختيار أول مراقب عام للجماعة في الأردن من ذوي الأصول الفلسطينية وهو همام سعيد الذي شغل المنصب لفترتين متتاليتين بدءًا من عام 2008.
على أن فك الارتباط العضوي بين التنظيمين جماعة الإخوان في الأردن، وتنظيم حماس الفلسطيني، والذي ذكرناها سابقًا، أدى إلى مزيد من التنافس بين تيارات جماعة الإخوان في الأردن، فمع أن القرار نصّ على إنهاء ازدواجية التنظيم في البلدين والفصل بينهما، بما في ذلك إبقاء المكاتب التنظيمية الخارجية في الخليج تابعة للجماعة في الأردن وهو ما طالب به تيارا الحمائم والوسط وأيدهما فيه المرشد العام لجماعة الإخوان محمد بديع في قراره سالف الذكر، إلا أن هذا الفصل لم يؤدِ إلى قطع الصلات والتنسيق مع حركة حماس بالفعل؛ لأن تياري الصقور والظل دفعا في اتجاه الإبقاء عليها.
وبدورها، عملت حركة حماس سرًا على اختراق جماعة الإخوان الأردنية وتجنيد كوادرها الفاعلة من مؤيدي فكرة التماهي مع الحركة الفلسطينية، وضخت في سبيل ذلك أموالًا طائلة بحسب ما ذكره عضو مجلس الشورى وعضو المكتب التنفيذي لجماعة الإخوان سابقًا نائل مصالحة (تيار الحمائم) الذي انشق عن الجماعة، عام 2015، وكان من بين معلني المبادرة الأردنية للإصلاح “زمزم” التي عُدت بمثابة انشقاق هيكلي عن الجماعة.
ولم يكن انفصال مجموعة “زمزم” عن جماعة الإخوان في الأردن هو الانشقاق الوحيد الذي عانت منه، خلال العقد الماضي، بل تبعه انشقاق المراقب العام الأسبق عبد المجيد الذنيبات الذي أنشأ جمعية جماعة الإخوان التي تعد موازية ومنفصلة تمامًا عن الجماعة الأم، عام 2015، وكذلك انشقاق مجموعة من أبرز قادة الإخوان في الأردن ممن شغلوا عضوية ما عُرف بـ”لجنة الحكماء” وعلى رأسهم مراقب عام سابق آخر هو سالم الفلاحات ليشكلوا حزب الشراكة والإنقاذ الذي أخذ اسم مبادرة الشراكة والإنقاذ التي نشأت بمبادرة من تيار الوسط في الجماعة لتقريب وجهات النظر بين تياراتها.
ويلاحظ أن كل هذه الانشقاقات تقريبًا تمت ضمن تياري الحمائم والوسط، وشكل المنشقون من ذوي الأصول الشرق أردنية غالبية حالات الانشقاق، وهو ما أدى إلى حدوث خلل في التكوين التنظيمي المعروف للجماعة، وأدى إلى كسب تياري الصقور ومؤيدي حماس “تيار الظل” مساحات إضافية داخل الجماعة، بينما أعاد تيارا الوسط والحمائم تشكيل أنفسهما منضوين تحت اسم التيار المعتدل أو تيار الوسطية الذي يُعد المراقب العام الحالي عبد الحميد الذنيبات أبرز رموزه.
وأفضت التدافعات الديناميكية الداخلية التي حصلت في الجماعة وعمليات الانشقاق المتواصلة بالإضافة إلى استمرار النهج الحكومي (الرسمي) الرامي لإضعاف الجماعة والاستثمار في خلافاتها التنظيمية، إلى توزيع النفوذ والسيطرة داخل الحركة الإسلامية، وهو الاسم الذي فضلت الجماعة استخدامه منذ طرح وثيقتها السياسية في عام 2019 وتعني به جماعة الإخوان وذراعها السياسي حزب جبهة العمل الإسلامي، إلى إطلاق يد التيار المعتدل إلى حد ما في الجماعة، مع بقاء نفوذ غريمه “تيار الصقور” مقابل إطلاق يد تيار الصقور داخل الحزب الذي بدا في الفترة الأخيرة وكأنه يخرج من إطاره التقليدي كتابع للجماعة إلى فاعل أكثر نشاطًا منها.
غير أن التطورات التي شهدها الأردن، في أعقاب عملية طوفان الأقصى في الـ7 من أكتوبر 2023، منّت تيار الصقور المتحالف مع مؤيدي حماس أو ما عُرف بـ”تنظيم الظل” بإمكانية تحصيل المزيد من المكاسب التنظيمية وبالتالي زيادة سيطرته على الجماعة وذراعها السياسي، ولذا راج، مؤخرًا، الحديث عن إجراء انتخابات داخلية لاختيار أعضاء مؤسسات الجماعة القيادية بما في ذلك المكتب التنفيذي ومجلس الشورى والمراقب العام للجماعة في الأردن، قبيل الانتخابات النيابية المقررة في نوفمبر المقبل في المملكة.
ومن المؤكد أن السعي لعقد الانتخابات في هذا التوقيت مرتبط بإدراك مؤيدي حماس داخل إخوان الأردن أنهم سيجنون مكاسب من المواقف التي اتخذوها منذ الـ7 من أكتوبر، لكن هذه المكاسب ستكون على حساب تيار الوسطية أو ما يُسمى بالتيار المعتدل الذي سيتراجع، على الأرجح، في حال أجريت الانتخابات الداخلية. ولعل هذه التطورات تلفت النظر إلى أن تصاعد الحراك الاحتجاجي، في الأسابيع الأخيرة، قد يكون نوعًا من اللجوء لتكتيك الجماعة تقليدي في الجماعة وهو إشغال القواعد التنظيمية بالفاعليات والمهمات الحركية حتى ينصرفوا عن الخلافات الداخلية أو الصراعات ضد القيادة.
نمط العلاقة بين الحكومة والإخوان في الأردن
من ناحية أخرى، لا ينفصل التصعيد الأخير عن لعبة القط والفأر السياسية التي تتم بين الحكومة الأردنية والإخوان من آن لآخر، والتي تأتي بدافع وجود أزمة ثقة بين الطرفين وسعي كل منهما لجعل الكفة الأثقل من موازين القوى في صالحه، فالاحتجاجات فرصة مواتية من وجهة نظر البراجماتيين داخل الإخوان في الأردن من أجل إعادة صياغة العلاقة المتوترة مع الحكومة والحصول على مكاسب أكبر خاصةً مع اقتراب الموعد المقرر للانتخابات البرلمانية في المملكة.
ويبدو أن تلويح جماعة الإخوان وذراعها السياسي حزب جبهة العمل الإسلامي بمقاطعة الانتخابات واعتبارها أن الانشغال بالحرب في غزة من أولى أولويات الشأن الداخلي للمملكة بحسب تعبير الأمين العام للحزب مراد العضايلة، المحسوب على التيار المؤيد لحماس داخل إخوان الأردن، هدفه إرسال رسائل سياسية للحكومة تمهد لإبرام تفاهمات واتفاقات من أجل توسيع الهامش الممنوح للإخوان ومنحهم ضمانات كافية بشأن المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة التي تراها الجماعة فرصة مواتية لإحراز نصر سياسي بعد سنوات التراجع والانزواء.
وفي هذا السياق يمكن فهم التصريحات الصادرة عن قيادة الإخوان في الأردن بشأن المشاركة في الانتخابات البرلمانية فالجماعة تخشى أن يتم استهداف ذراعها السياسي أو تحجيمه في الانتخابات البرلمانية ولذا تتذرع بالقواعد الشعبية للجماعة وتبالغ في تقدير تأثيرها على قرار المشاركة بهدف الضغط على الحكومة، رغم أن التجارب السابقة تشير إلى أن موقف القواعد التنظيمية يتم توجيهه من قبل القيادة العليا للإخوان، فعلى سبيل المثال صرح مراد العضايلة، في أواخر مارس الماضي، أن المؤسسات الشورية في حزب جبهة العمل الإسلامي لم تتخذ قرارًا بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية أو عدمها، ملمحًا إلى قواعد الجماعة وبحكم الكثير من الانطباعات والممارسات السلطوية تميل إلى العزوف عن المشاركة في الانتخابات، وفق تعبيره، كما أن القيادي بالجماعة رامي العياصرة اعتبر أن المهمة الأصعب أمام قيادة حزب جبهة العمل الإسلامي ليس المشاركة في الانتخابات ولا كيفيتها ولا الحصة المفترضة بعد المشاركة، بل هي الطريقة التي يمكن إقناع قواعد الإخوان بجدوى الانتخابات، وفق تعبيره.
غير أن مسار التأزيم الذي تنتهجه جماعة الإخوان مؤخرًا عبر انتقاد إقرار قانون الانتخابات ووصفه بأنه خرق لمسار التحديث السياسي -الذي رسمته اللجنة الملكية برئاسة رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي برعاية ملكية- والتلويح باحتمالية عدم المشاركة فيها، فضلًا عن انتقاد التعاطي الرسمي مع المشاركين في الحراك الاحتجاجي والدعوات المتكررة لإلغاء الاتفاقيات الموقعة بين عمان وتل أبيب قد يأتي بنتائج عكسية على خلاف ما تؤمل جماعة الإخوان، فالحكومة الأردنية غيرت نبرتها بعد تصعيد الاحتجاجات، والمقربون منها دعوا علنًا قيادة الإخوان إلى التماهي مع الموقف الأردني الرسمي وليس التماهي مع الدعوات التي تأتي من خارج الحدود في إشارة لحركة حماس، معتبرين أن الحكومة والملك سيقدران هذا الموقف من الجماعة.
ويمكن فهم الرسائل الصادرة عن الدوائر المقربة من الحكومة الأردنية بأنها توطئة أو تمهيد يمكن البناء عليه للتفاهم بشأن الترتيبات المستقبلية بين الحكومة وجماعة الإخوان، بيد أنه لا يمكن الجزم بأن تلك التفاهمات ستكون موافقة لتطلعات جماعة الإخوان، خصوصًا أن الفترة الأخيرة شهدت نقضًا لبعض التفاهمات بين الطرفين وآخرها التعديل المفاجئ الذي أُدخل على قانون الانتخابات بشأن القوائم الانتخابية التي تحصل على أصوات تتجاوز نسبة الحسم، والذي اعتبرته الجماعة يستهدف تحجيم ذراعها السياسي حزب جبهة العمل الإسلامي، كما أسلفنا.
وختامًا، تبدو جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وكأنها تنخرط في مقامرة محسوبة المخاطر إلى حد كبير، فالجماعة تريد توظيف الزخم الذي حققته عملية طوفان الأقصى لتحقيق مكاسب سياسية والوصول إلى تفاهمات جديدة توسع الهامش الممنوح لها من قبل الحكومة الأردنية، غير أن هذا الانخراط الإخواني يُخفي في طياته استمرار التنافس والتدافع بين تيارات الجماعة وغلبة تيار الصقور والتيار المؤيد لحركة حماس والذي عُرف من قبل بـ”تيار الظل” على مقاليد الأمور داخل الإخوان في الأردن وهو الأمر الذي يُخل بالتكوين التنظيمي للجماعة من ناحية، ويزيد من التوجس الرسمي تجاهها من ناحية أخرى باعتبار أن هذا التيار المسيطر والمنحاز لحماس الفلسطينية له أجندة عبر وطنية قد تتناقض مع الثوابت الوطنية الأردنية، وهو ما يعني أن مسار العلاقة بين الحكومة والجماعة قد يشهد منحنيات صاعدة وهابطة تُحددها الأحداث والتطورات على الساحة المحلية والإقليمية في المستقبل القريب.