القدس الشرقية ليست كأى مدينة فلسطينية؛ فهى تمثل رمزية دقيقة ومركبة داخل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، بالنظر إلى أنها ظلت لحقب زمنية ممتدة تلعب دور «العاصمة» للشعب والمكون الفلسطينى، داخل ما كان يطلق عليه بلاد «الشام» أثناء عقود الاستعمار التى طالت، أو فى أشكال الحكم المستقل القصيرة نسبيا. إلى جانب اكتسابها لوضعية خاصة لها علاقة بما تضمه من الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، ما جعل الأمر بالغ الدقة حين زج بالمدينة فى أتون صراع «يهودي» على الأرض والسيادة، ورسم حدود الدولة التى بدأت حلما مراوغا، قبل أن تتشكل واقعا بعد حربين رئيسيتين هما حرب 1948 و1967. الحرب الأولى مكنت الحلم من الهبوط من مخيلة الآباء الإسرائيليين المؤسسين، إلى التلامس مع الأرض التى أشاعوا أنها بلا شعب، لكن المعضلة الحقيقية التى ظلت تواجه ذلك الحلم الاستيطانى منذ الحرب الأولى وصولا إلى الثانية، أن شعبا فلسطينيا كان حاضرا طوال الوقت، بل وواجه على ذات الأرض كل فصول المأساة التى صاحبت أكبر وأعقد عملية سرقة تمت فى التاريخ الحديث.
الحرب الثانية 1967 حملت فى طيات نتائجها، احتلالا إسرائيليا لمدينة القدس الشرقية الفلسطينية التى سقطت منذ هذا التاريخ فى فخ التحايل الإسرائيلى المنظم، الذى بدأ مبكرا فى محاصرتها وربط مصيرها بالشطر الغربى للمدينة، من أجل الاستحواذ على الاثنين لاحقا، بعد عقود شهدت خلالها عشرات القيود الصارمة بحق أصحاب الأرض الأصليين. فى بداية الاحتلال للقدس؛ قدر عدد سكانها بشطريها الشرقى والغربى بنحو (266.500 ألف نسمة)، مثل الفلسطينيون ما نسبته 26% منها فى حين بلغ اليهود نسبة 74% تقريبا. قدرت دائرة شئون المفاوضات فى منظمة التحرير الفلسطينية أنه منذ 1967، لم يسمح للفلسطينيين سوى باستخدام 12% فقط من مساحة المدينة، فى ظل عدة إجراءات مصادرة لأراضى المدينة لغايات الاستيطان طالت 43.5% من مساحتها، فى حين صنفت 41% من مساحة المدينة كـ«مناطق خضراء» تخضع لقيود مشددة وضعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، فيما يخص أعمال البناء والسكن للفلسطينيين. ورغم ذلك فى 2014 بحسب بيانات «مركز القدس لبحث السياسات» الإسرائيلى شبه الحكومى، بلغ عدد سكان المدينة بشطريها (850 ألف نسمة)، ارتفع فيها نسبة الفلسطينيين إلى 37% بينما تقلصت نسبة اليهود إلى 63%.
الخطة الاستيطانية الإسرائيلية لابتلاع القدس الشرقية، وصلت بعدد المستوطنين فى المستوطنات التى أقيمت على أراضى القدس الشرقية، إلى (220 ألف مستوطن). أشهر المستوطنات الكبيرة النبى يعقوب، وبسغات زئيف، وراموت، ورامات شلومو، وغيلو. إلى أن حكومات اليمين المتطرف الإسرائيلية عمدت مؤخرا إلى عدم الاكتفاء بهذه المجموعة الكبيرة التى نقلت فيها هذا العدد الضخم من اليهود، وعمدت إلى إقامة بؤر استيطانية جديدة تغلغلت داخل الأحياء الفلسطينية فى المدينة. أهمها ما جرى حديثا فى حى «الشيخ جراح» من إقامة مقر للحركة الاستيطانية «أمانا»، لتشرف على بناء 30 وحدة استيطانية بحى «الصوانة»، والخطة تشمل أيضا مجموعة بؤر ستطول «باب الساهرة» و«شلوان»، ومستوطنة بحى «رأس العامود». هذا دفع حركة «أمانا» إلى وضع يديها على عشرات المنازل الفلسطينية فى البلدة القديمة، يمكنها أن تتحايل فيها على القانون حتى وإن اضطرت إلى تزوير وثائق الملكية، وهى جريمة إسرائيلية اعتيادية لا تتورع عن ارتكابها المنظمات اليهودية خاصة المرتبط عملها بابتلاع الأراضى.
إلى جانب محورية مسألة «الديموغرافيا» (السكان) فى قضية إنشاء الدولة الإسرائيلية قسرا، وهو صراع محموم خاضه اليهود منذ تاريخ اطلاق الحلم عام 1897 إلا أن ما سار معه جنبا إلى جنب، هو ما يخص «سرقة» وانتزاع الأراضى من السكان الأصليين الذين كانت ملكيتهم لهذه الأرض، تتنوع بين أشكال عديدة بطبيعة هذا العصر القديم البسيط فى غالبية «أنماط» تلك الملكية، الذى لم يكن قد شهد بعد النظام المحكم والمنضبط لأشكال «التسجيل العقارى»، فضلا كما أسلفنا تعاقب سلطات الاستعمار وبعده الانتداب وكلاهما لا يتصور ولم يسجل بحق أى منهما، حرصهما على ضبط ملكيات أراض فى معظمها يسكنها قرويون فلسطينيون ظل سندهم الرئيسى فيها هو تعاقب الآباء والأجداد، واستقرار الأسر والعائلات الفلسطينية الكبيرة الشهيرة على الأراضى التى لم يعرفوا غيرها، وعلى امتداد هذا الخط «الاهتمام بالأرض» الذى بدأ مبكرا، تطورت وتنوعت أشكال استيلاء دولة الاحتلال الإسرائيلية منذ 1948 على عشرات آلاف الدونمات من أراضى الفلسطينيين، حتى باتت فى 2024 قضية «الاستيطان» هى الإشكالية الأكثر تعقيدا على طريق الوصول لتسوية سياسية لـ«المسألة الإسرائيلية»، بعد كل ما جرى من فصول للصراع الممتد، والذى أثبتت الوقائع والأحداث أن «عملية السرقة» الكاملة لن تمر، ولن يكتب لها استقرار من أى نوع فى المستقبل، حتى وان تفاوت ميزان القوى بين «الحلم الإسرائيلي» المدعوم بلا نهاية وبين «صاحب الحق» الفلسطينى الأصيل فى الحياة والعيش على أرضه.
«بن جوريون» ذكر فى اليوم التالى لزيارته إلى «لفتا» وهى قرية فلسطينية شهيرة بضواحى القدس، قامت العصابات الصهيونية حينها بطرد كامل سكانها منها، ما يمكن اعتباره جوهر المشروع الصهيونى أو «المسألة الإسرائيلية» بقوله: عندما تدخل المدينة عبر لفتا وروميما، وعبر محانيه يهودا، وشارع الملك جورج، ومئة شعاريم، لا تجد أى عرب. نسبة اليهود هناك صارت مائة بالمائة.ما حدث فى القدس وحيفا يمكن أن يحدث فى أجزاء واسعة من البلاد. إن ثابرنا، فمن المحتمل أن تشهد الأشهر الستة أو الثمانية القادمة تغييرات فى البلاد، كبيرة ولصالحنا. فضلا عن استيلائنا على الأرض، ستحصل بالتأكيد تغييرات كبيرة فى التركيبة الديمغرافية فى البلاد.