اتخذ التصعيد الإقليمي منحى جديدًا بشن إيران هجمات انتقامية طالت الأراضي الإسرائيلية للمرة الأولى لنتنقل المواجهة بين الجانبين من حرب الظل إلى المواجهة المباشرة، لكنها ذات طبيعة منضبطة ومنسقة لتجنب انزلاق المنطقة نحو مواجهة شاملة مفتوحة، ورغم الطابع الرمزي للضربة ومحدوديتها الزمنية إلا أنها أنتجت تداعيات اقتصادية مؤقتة على أداء بعض السلع الاستراتيجية والقطاعات الاقتصادية، كما أن تكلفتها الاقتصادية على إسرائيل تفوق تكلفتها السياسية والعسكرية بعدما نجحت الدفاعات الإسرائيلية بإسناد بريطاني فرنسي في صد معظم الهجمات.
ارتدادات فورية
في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي والإقليمي من هشاشة غير مسبوقة، ترتب على الضربة الإيرانية ضد إسرائيل عدد من التبعات الاقتصادية التي يُمكن عرضها على النحو الآتي:
• اضطراب السفر الجوي: كان قطاع الطيران والسفر الجوي من أبرز القطاعات المتأثرة جرّاء التصعيد الإيراني-الإسرائيلي بالشرق الأوسط، ليشهد بذلك أكبر اضطراب منذ الهجوم على مركز التجارة العالمي عام 2001، حيث أغلقت الأردن ولبنان والعراق مجالها الجوي مؤقتًا أثناء الهجوم الإيراني، بينما فرضت إيران وإسرائيل أيضًا قيودًا مؤقتة على تحليق شركات الطيران فوق أراضيها، كما حذرت عدة دول مثل ألمانيا وفرنسا والهند وبولندا والنمسا وإيطاليا مواطنيها من السفر إلى إيران وإسرائيل والشرق الأوسط.
بالإضافة إلى ذلك، اضطرت ما لا يقل عن اثنتي عشرة شركة طيران إلى إلغاء أو تعديل مسار رحلاتها خلال يومي الثالث عشر من أبريل والرابع عشر من أبريل 2024، بما في ذلك شركة “كانتاس”، و”لوفتهانزا” الألمانية، و”يونايتد إيرلاينز”، و”إير إنديا”.
وقد ساهم إعادة توجيه الرحلات الجوية بسبب التوترات الجيوسياسية إلى إطالة مسارات الرحلات وارتفاع النفقات لشركات الطيران مما قد يؤدي إلى زيادة في أسعار الرحلات الجوية عبر هذه المسارات، وهو الأمر الذي يفاقم التحديات الماثلة أمام قطاع الطيران في ظل استمرار الحرب الروسية- الأوكرانية، واستمرار الحرب في غزة مما يؤكد على العلاقة التشابكية بين التوترات الجيوسياسية وشبكة الطيران العالمية.
ورغم هذه الاضطرابات، إلا أن الأمور قد عادت لنصابها الصحيح حيث أعلنت كبرى شركات الطيران في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثل الاتحاد للطيران والخطوط الجوية القطرية وطيران الإمارات، استئناف عملياتها في المنطقة بعد إلغاء أو تغيير مسار بعض الرحلات من وإلى الأردن ولبنان والعراق.
• تذبذب أسعار النفط: عادة ما تتأثر أسعار النفط سريعًا استجابة للتوترات الجيوسياسية إلا أنه لا ينبغي تهويل تأثيرات التصعيد الإيراني- الإسرائيلي، حيث أغلقت العقود الآجلة لخام برنت يوم الجمعة الثاني عشر من أبريل 2024 على ارتفاع بنسبة 0.8% عند 90.45 دولار للبرميل وذلك عقب ارتفاعها خلال تعاملات اليوم إلى 92.18 دولار للبرميل لأول مرة في خمسة أشهر، فيما ارتفعت العقود الآجلة للخام الأمريكي عند الإغلاق بنسبة 0.75% ليسجل 85.66 دولار للبرميل، بعد أن لامس 87.67 دولار خلال تعاملات اليوم.
وسرعان ما تلاشت التداعيات الفورية على أسواق النفط لتعود إلى مستوياتها الطبيعية التي سجلتها قبل الهجوم الإيراني على إسرائيل حيث سجل كلٌ من خام برنت والخام الأمريكي انخفاضًا بحلول يوم الاثنين الموافق الخامس عشر من أبريل 2024 إلى 89.67 دولار للبرميل، و84.93 دولار للبرميل على الترتيب.
ويرجع التذبذب في أسعار النفط إلى تزايد مخاوف المستثمرين بشأن اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، وتهديد إمدادات النفط في المنطقة التي تهيمن على حصة كبيرة من إمدادات الخام، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن أسعار النفط تتأثر بعوامل أخرى بخلاف التطورات في الشرق الأوسط، كاستمرار الصراع في غزة، وتوقعات الطلب الصادرة عن الوكالات الدولية، وبيانات المخزونات الأمريكية إلى جانب قرارات منظمة “أوبك +” خاصة في ظل استمرار السعودية وروسيا في اتباع نهج خفض إنتاج النفط.
• زيادة الإقبال على الأصول الآمنة: ترتبط أسعار الذهب بعلاقة طردية مع تصاعد التوترات الجيوسياسية حيث يتهافت المستثمرون بطبيعة الحال على الملاذ الآمن من أجل التحوط ضد ضبابية الآفاق الاقتصادية، ومخاطر الضغوط التضخمية، وبناءً على ذلك، ارتفعت أسعار العقود الآجلة للذهب بنحو 1.4 دولار عند 2374.1 دولار للأوقية خلال يوم الجمعة الثاني عشر من أبريل 2024 محققة مكاسب أسبوعية قدرها 1.2%، ليشهد تراجعًا طفيفًا عقب ذلك خلال تداولات يوم الاثنين الخامس عشر من أبريل 2024 عند مستوى 2343 دولار للأوقية.
• الضغط على سلاسل التوريد العالمية: تضاف الضربة الإيرانية ضد إسرائيل إلى جملة التحديات التي تواجه التجارة العالمية وسلاسل الإمداد والتوريد التي كانت الأشد تأثرًا جرّاء جائحة كورونا، والحرب الروسية – الأوكرانية، وهجمات الحوثيين على السفن المارة بالبحر الأحمر، وجفاف قناة بنما.
ويأتي ذلك عقب أيام من إصدار منظمة التجارة العالمية تقريرًا حول اتجاهات التجارة خلال عام 2023 وتوقعات عام 2024، والذي أشارت فيه إلى انخفاض حجم التجارة العالمية خلال عام 2023 بنسبة 1.2% مع توقعات بأن تشهد انتعاشًا بسيطًا بنسبة 2.6% و3.3% خلال عامي 2024 و2025 على الترتيب، إلا إنها قد حذرت من تأثيرات النزاعات والتوترات الجيوسياسية وعدم اليقين الاقتصادي على استقرار حركة التجارة العالمية نظرًا لتزايد احتمالية عرقلة انتعاش التجارة مع ارتفاع تكلفة الشحن والنقل بمختلف أنواعه.
• صدمة جديدة للاقتصاد الإسرائيلي: كلف التصعيد الحالي بالشرق الأوسط الموازنة الإسرائيلية نحو 5 مليارات شيكل (1.35 مليار دولار) نتيجة اعتراض تل أبيب عشرات الصواريخ والمُسيرَّات الإيرانية، كما تأثرت البورصة الإسرائيلية جرّاء هذا التصعيد؛ حيث تراجع مؤشر “تل أبيب” الرئيسي إلى 1938.67 نقطة خلال تداولات الاثنين الخامس عشر من أبريل وذلك بعدما استطاع أن يتخطى مستوى 2000 نقطة أواخر مارس 2024، وذلك للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في غزة أكتوبر 2023، إلى جانب ذلك، تراجع الشيكل الإسرائيلي إلى 3.7 لكل دولار.
ويتزامن ذلك التأثير مع تفاقم التداعيات السلبية التي يشهدها الاقتصاد الإسرائيلي منذ أكتوبر 2023، كتباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 2% في نهاية عام 2023 انخفاضًا من 6.5% في عام 2022، وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.1% العام الماضي مقابل متوسط نمو قدره 1.2% في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فيما تشير توقعات البنك المركزي الإسرائيلي إلى أن الاقتصاد سيسجل نموًا بنسبة 2.3% و2.8% خلال عامي 2024 و2025 على الترتيب، مقارنة بنحو 2% المسجلة عام 2023.
إلى جانب تراجع الصادرات الإسرائيلية بنسبة 6% على أساس سنوي خلال عام 2023 إلى 156 مليار دولار بسبب استمرار الحرب في غزة، وعدم الاستقرار في الأسواق العالمية، وتقلب أسعار العملات، وانخفاض صادرات الخدمات بنسبة 3% في عام 2023 بسبب تفاقم آثار الحرب في غزة على قطاع السياحة، بالإضافة إلى ارتفاع ديون إسرائيل إلى المثلين خلال عام 2023 لتسجل 160 مليار شيكل من بينها 81 مليار شيكل منذ اندلاع الحرب في غزة. عطفًا على ذلك، خفضت وكالة “موديز” التصنيف الائتماني السيادي لإسرائيل لأول مرة على الإطلاق في فبراير 2024، فيما خفضت وكالة “ستاندرد آند بورز” في نهاية أكتوبر 2023 نظرتها المستقبلية للاقتصاد الإسرائيلي من مستقرة إلى سلبية، ولا تزال كبرى الشركات التكنولوجية تتخارج من البلاد، حيث أعلنت “سامسونج” في الثاني عشر من أبريل 2024 إغلاق عملياتها في إسرائيل بسبب استمرار الحرب على غزة.
• إلحاق الضرر بالاقتصاد الإيراني: شهدت العملة الإيرانية انهيارًا في السوق السوداء عقب التصعيد مع إسرائيل، حيث سجلت مستوى قياسيًا منخفضًا عند 705 آلاف ريال إيراني مقابل الدولار الأمريكي، مقابل سعر الصرف الرسمي عند 42 ألف ريال إيراني مقابل الدولار، الذي حددته الحكومة الإيرانية عام 2018.
ويضاف لذلك جملة من الأزمات التي تواجه الاقتصاد الإيراني بداية من ارتفاع التضخم وزيادة أسعار السلع الأساسية، وتدهور سوق العمل، وارتفاع معدلات البطالة، وعجز الميزان التجاري إلى جانب تضرر قطاع النفط إثر العقوبات الغربية المفروضة على البلاد، والتي من المحتمل أن تشتد الفترة المقبلة؛ حيث إنه من المقرر أن تفرض واشنطن المزيد من العقوبات على إيران في أعقاب هجومها على إسرائيل.
استنتاج ختامي
• تأتي الهجمات الإيرانية على إسرائيل بينما يعاني الاقتصاد العالمي من هشاشة واضحة المعالم نتيجة تراكم الأزمات والصراعات العالمية خلال الأعوام الأخيرة، ابتداءً من جائحة كورونا مرورًا بالحرب الأوكرانية وحتى حرب غزة، لتضيف متغيًرا جديدًا ضاغطًا على اقتصادات العالم.
• يُمكن اعتبار الضربة الإيرانية الأخيرة أزمة كاشفة لنقاط الضعف التي تعتري النظام الاقتصادي العالمي نتيجة العولمة والانفتاح التجاري وترابط سلاسل الإمداد والتوريد؛ بحيث إن وقوع أزمة في منطقة ما يُمكن أن يترتب عليه تداعيات سلبية واسعة النطاق في مناطق أخرى بعيدة من الناحية الجغرافية، وهو الأمر الذي يكشف تصدعات الترابط الاقتصادي بين دول العالم، وتقصير سلاسل التوريد.
• رغم تلاشي الانعكاسات المذكورة سلفًا سريعًا، إلا أنها من الممكن أن تحدث مجددًا وبصورة أكثر قوة حال قررت إسرائيل الرد على إيران، مما سينذر باتساع دائرة التوترات الجيوسياسية التي قد تخلف وراءها تداعيات أكثر سلبية تتمثل في ارتفاع أسعار النفط مجددًا وصعود أسعار الذهب وزيادة اضطرابات قطاع الشحن والسفر الجوي.