انجرفت إيران للحرب مع إسرائيل.. تلك هي النبوءة التي حذرت منها مصر مرارًا وتكرارًا ودعت لتوقف الهجوم الإسرائيلي على غزة، ومحذرة من أن لعدم وقف ذلك الهجوم عواقب وخيمة أهمها امتداد بؤرة الصراع خارجيًا لتطال مناطق جغرافية عالميًا، فكانت البداية بنزاع غير مباشر بين إيران وإسرائيل من خلال جماعات الحوثيين بمنطقة البحر الأحمر، والذي تضمن إطلاق مسيرات حوثية على إسرائيل عبر منطقة البحر الأحمر، وامتد للاعتداء على سفن الشحن الإسرائيلية والأمريكية العابرة لتلك المنطقة، ثم امتد للاعتداء على أي سفينة عابرة لتلك المنطقة ثم الاعتداء على البنية التحتية للاتصالات بمنطقة البحر الأحمر، وقد توعدت إسرائيل بالرد عدة مرات على تلك الهجمات الحوثية، ويمكن القول إن ذلك الرد جاء من خلال غارة إسرائيلية على قنصلية إيران في سوريا والذي اعتبرته إيران عملًا عدوانيًا واستهدافًا مباشرًا للسيادة الإيرانية. وعليه فقد شنت إيران في مساء يوم 13 أبريل 2024 هجومًا مباشرًا على إسرائيل للمرة الأولى منذ عقود. وتتمثل أهمية ذلك التصعيد في أنها المواجهة المباشرة الأولى بين دولتين بمنطقة الشرق الأوسط للمرة الأولى منذ عقود، وقد شمل ذلك الهجوم إطلاق صواريخ ومسيرات (طائرات دون طيار)، مما شكل تحولًا كبيرًا في نهج الحرب بالمنطقة، وحتى لو كانت التأثيرات الحالية محدودة فإن تلك الخطوة تعد بمثابة جرس إنذار لاحتمالية جر المنطقة بالكامل إلى نزاعات مسلحة.
قدرات إيران الكامنة
تمتلك إيران قدرات مهمة في مجال إنتاج الطاقة، خاصة في مجالات إنتاج النفط والغاز الطبيعي والتي تشكل مصدرًا رئيسيًا للدخل الوطني، كما أن لديها برنامجًا نوويًا متقدمًا يشمل توليد الطاقة النووية للكهرباء، حيث تعتبر إيران من أكبر دول العالم من حيث احتياطيات النفط والغاز الطبيعي. وفقًا للتقديرات الأخيرة، تقدر احتياطيات النفط الخام في إيران بنحو 159 مليار برميل، مما يجعلها في المرتبة الثالثة عالميًا بين الدول المنتجة للنفط، وتتيح تلك الاحتياطيات لإيران أن تظل لاعبًا رئيسيًا في سوق النفط العالمي، وتقدر احتياطيات الغاز الطبيعي في إيران بنحو 1,046 تريليون قدم مكعب (29.6 تريليون متر مكعب) أو ما يعادل 15.8% من إجمالي احتياطيات الغاز في العالم، مما يجعلها تحتل المرتبة الثانية عالميًا بعد روسيا (وفقًا لبيانات وزارة النفط الإيرانية، 2023). تتوزع الاحتياطيات النفطية في إيران على عدة مناطق، بما في ذلك منطقة خليج فارس والمناطق الغربية والشمالية للبلاد، وخاصة حقل “آزدان” و”جفير” التي تعد من أكبر حقول النفط في إيران، ويعتمد عليها الاقتصاد الإيراني بشكل كبير في صادراته من النفط، وتشكل هذه الصادرات جزءًا كبيرًا من إيرادات الحكومة الوطنية. ومع ذلك، فإن القطاع النفطي الإيراني يواجه تحديات عديدة بسبب العقوبات الدولية والتقلبات في أسعار النفط والتحديات التقنية والبيئية.
تخضع إيران لمجموعة من العقوبات المفروضة من قبل الدول الغربية، بشكل أساسي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك لأسباب متنوعة تشمل برنامجها النووي، ودعمها للجماعات المسلحة، وانتهاكات حقوق الإنسان. وتتنوع هذه العقوبات لتشمل العقوبات الاقتصادية المتمثلة في الحظر المصرفي والتجاري والذي يشمل تجميد الأصول الإيرانية لدى المؤسسات المالية الدولية، ومنع الشركات من التعامل مع إيران أو كياناتها، بما في ذلك حظر استيراد النفط والغاز، والقيود على الصادرات والتي تشمل حظر تصدير السلع والتكنولوجيا المتقدمة إلى إيران، خاصة تلك التي قد تُستخدم في برنامجها النووي أو الصناعات العسكرية، والعقوبات التي تخص التعاملات مع بعض الشركات والأفراد المتمثلة في حظر التعامل مع الشركات والأفراد المرتبطين بالحكومة الإيرانية أو برامجها النووية أو الصاروخية. أما عن العقوبات السياسية فتتمثل في منع المسئولين الإيرانيين من دخول الدول الغربية، ووقف المساعدات المالية التنموية المقدمة إلى طهران، وعزل إيران دبلوماسيًا من خلال تقليص العلاقات الدبلوماسية مع إيران.
وقد كانت آخر تلك الأحداث حينما فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات جديدة على طهران استهدفت 500 فرد وكيان مرتبطين بالأنشطة الإيرانية “الخبيثة والمزعزعة للاستقرار” في المنطقة، وذلك ردًا على هجوم صاروخي إيراني على إسرائيل، وقبل ذلك بيوم أعلنت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس عن فرض عقوبات جديدة على إيران تستهدف 3 كيانات إيرانية ضالعة في برنامجها للصواريخ البالستية، وقد كان قرار وزيرة الخارجية البريطانية لاحقًا لقرار الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على 4 مسئولين إيرانيين بسبب دورهم في قمع الاحتجاجات في إيران بتاريخ 8 أبريل 2024، تلك الأحداث تدفع أسواق الطاقة عالميًا للتعاطي مع التغير بها، إذ إن أي قرار يتعلق بإيران هو قرار من المفترض أنه يتعلق بأسعار النفط بالأساس، لكن هل ذلك الافتراض صحيح؟
النفط والحرب
للإجابة عن التساؤل السابق ربما علينا النظر إلى أداء سوق النفط عالميًا في الفترة التي سبقت العدوان الإسرائيلي على غزة، وفي الفترة التالية لها والتي شملت مناوشات عديدة مع الحوثيين ومناوشات متفرقة في منطقة البحر الأحمر، وأخيرا أداء أسواق النفط في ضوء الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل، فبالنظر إلى أسعار النفط في الفترة التي سبقت الحرب الإسرائيلية على غزة الفترة من بداية يوليو 2023 وحتى نهاية سبتمبر 2023 فقد ارتفعت أسعار النفط من خام برنت من مستوى 74 دولارًا للبرميل تقريبًا لتصل إلى 99.4 دولارًا للبرميل أي أنه ارتفاع بنسبة 28% (تم استخدام سعر برميل برنت كمؤشر لتغير أسعار النفط للتبسيط)، وتعتبر تلك الفترة هي فترة سابقة للهجوم الفلسطيني على إسرائيل، أو الهجوم الإسرائيلي على غزة، وقد بدأ الصراع بين إسرائيل وغزة في 7 أكتوبر 2023، وقد تسببت بداية الصراع والمخاوف من بداية ذلك الصراع في ارتفاع أسعار برميل برنت من 84 دولارًا بتاريخ 6 أكتوبر 2023 لتصل إلى 92.28 دولارًا للبرميل في 20 أكتوبر 2023، قبل أن تستكمل أسعار النفط مسارًا هبوطيًا آخر بدأ بتاريخ 20 أكتوبر 2023 من مستوى 92.22 دولارًا للبرميل لتصل إلى 73.15 دولارًا للبرميل في 12 ديسمبر 2023، أي أن أسعار النفط انخفضت بنسبة 21% تقريبًا في شهري نوفمبر وديسمبر (بعد بداية الحرب الإسرائيلية على غزة وبداية المناوشات بمنطقة البحر الأحمر)، ثم ارتدت أسعار البترول من مستوى سعري 72 دولارًا للبرميل تقريبًا لتبدأ مسارها في الارتفاع لتصل إلى مستوى 90.38 للبرميل بتاريخ 12 أبريل 2024 (ارتفاع بنسبة 26 % تقريبًا)، ومن المتوقع أن يستمر الارتفاع إلى منطقة 93 – 96 دولارًا للبرميل لتمثل تلك المنطقة منطقة مقاومة سعرية وتوجد احتمالات لارتداد سعر البرميل من ذلك المستوى، وعليه يمكن القول إن أسواق الطاقة العالمية لم تتأثر تقريبًا بالرد الإيراني على إسرائيل، وعلى الرغم من أن ذلك التعاطي لأسواق الطاقة العالمية ربما يبدو غير منطقي إلا أنه الواقع، بل ويمكن القول إن أسعار النفط لم تتأثر بالحرب الإسرائيلية على غزة من الأساس.
لكن لماذا لم تَتَعَاطَ أسواق النفط مع الأحداث الأخيرة؟
تختلف الإجابة على ذلك السؤال، ولن تخرج عن كونها افتراضات لتبرير سبب عدم التأثر، ويمثل الافتراض الأساسي في وجود قناعة لدى المتعاملين بأسواق النفط العالمية أن تلك الهجمات الإيرانية لن تخرج عن كونها هجمات لغرض الردع، وقد ثبت ذلك بالدليل الفعلي، إذ إن تلك الهجمات كانت محدودة للغاية ولم تسفر الهجمات عن أي ضحايا أو أضرار مادية كبيرة، وهو ما دفع إلى ردود فعل دولية محدودة نسبيًا، خاصة وأنه لم تعلن أي دولة عن فرض عقوبات جديدة على إيران، الأمر الذي خفف المخاوف بشأن تعطل الإمدادات النفطية الإيرانية، من جانب آخر فقد زادت الدول الأعضاء في تحالف أوبك+ (مثل المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة) من إنتاجها لتعويض أي انقطاع محتمل في الإمدادات من إيران، هذا فضلًا عن زيادة الولايات المتحدة الأمريكية استخدام احتياطاتها ومخزوناتها النفطية، الأمر الذي ساعد في استقرار الأسعار، فضلًا عن أن الوضع الاقتصادي العالمي الحالي يتسم بالتباطؤ، الأمر الذي قلل من الطلب على النفط.
وعليه، يمكن القول إن هناك عددًا من المحددات الرئيسية التي يمكن أن تكون سببًا في تحرك أسعار النفط العالمية، يتمثل أهمها في مدى ومدة حدوث أي اضطرابات في الإمدادات من إيران، خاصة إذا ما تم فرض عقوبات جديدة على إيران، أو إذا اختارت إيران خفض إنتاجها أو صادراتها بشكل كبير، وهو أمر مستبعد من الجانبين، فمن جانب الولايات المتحدة الأمريكية فإن هناك أهمية لاستقرار منطقة الشرق الأوسط وعدم الانجراف إلى المزيد من الصراعات، خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية على مشارف انتخابات رئاسية في العام الحالي، أما عن أوروبا فهي في أمسّ الحاجة لاستقرار أسعار الطاقة، خاصة وأن الحرب الروسية الأوكرانية ما زالت تُلقي بظلالها على الاقتصاد الأوروبي، أما عن الجانب الإيراني فهو يعتمد على الإيرادات من صادرات النفط لتمويل حوالي 90 % من المصروفات بموازنتها. وعليه فقد اتفقت تلك الأسباب على استقرار أسعار النفط. عامل آخر يؤثر على أسعار النفط وهو يتمثل في التطورات الجيوسياسية بالمنطقة، حيث إن أي تصعيد في التوترات بين إيران وإسرائيل هو تصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعليه فمن المتوقع أن يؤدي إلى مزيد من الاضطرابات بالسوق، وسيكون له تأثير كبير على الأسعار، وقد دعت الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد في الصراع مع طهران وتهدئة الأوضاع بالمنطقة. لكن على الرغم مما سبقت الإشارة إليه، فمن المتوقع أن يكون لأية تصعيد بين إيران وإسرائيل من الجانب الإسرائيلي بالتحديد أثر كبير على أسواق النفط العالمية وبشكل كبير، أما عن الوضع حاليًا فقد ارتفعت المخاطر بسوق النفط العالمي نتيجة لذلك الهجوم الإيراني على إسرائيل، وعليه فمن المتوقع أن يكون لتلك المخاطر تأثيرات لكنها ستظل محدودة في الوقت الحالي على الأسعار، ومن المرجح أن يتصاعد أثرها في المستقبل في حال زيادة تلك المخاطر نتيجة لتحرك أحد الجانبين.