منذ اللحظة الأولى للإعلان عن شن إيران هجومًا على إسرائيل، ردًا على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، والذي أسفر عن مقتل عدد من القيادات العسكرية الإيرانية واللبنانية التابعة لحزب الله؛ أبرزهم القيادي البارز في الحرس الثوري الإيراني العميد محمد رضا زاهدي و القائد بفيلق القدس العميد محمد هادي حاجي رحيمي، وثارت حالتا من القلق والمخاوف إقليميًا ودوليًا من تداعيات هذه الضربة في ضوء ما أسفرت عنه من خسائر طفيفة، كما ثار تساؤل بشأن الموقف الإسرائيلي من الضربة الإيرانية وهل سيُقابله ردٌ بهجوم مضاد أم أن هناك خيارات أُخرى بديلة للرد. ومن ثَمّ، تهدف الدراسة للإجابة عن تساؤل رئيسي مفاداه؛ ما تأثير الضربات الإيرانية على الداخل الإسرائيلي في خضم ما تواجهه الحكومة الإسرائيلية من تحديات؟، تسعى الدراسة لللإجابة عليه من خلال تناول موقف الداخل الإسرائيلي بمكوناته المتعددة من حكومة إسرائيلية وقوى معارضة ورأي عام من الضربة الإيرانية والرد الإسرائيلي المضاد.
انطلاقًا مما سبق، تهدف الدراسة إلى مناقشة مستوى التصعيد الإيراني على الداخل الإسرائيلي، بالإضافة إلى تناول اتجاهات الداخل الإسرائيلي ورؤيته المتباينة للضربة الإيرانية وخيارات الرد الإسرائيلي، وذلك على النحو التالي:
أولًا: تصعيد محدود.. الضربات الإيرانية داخل الأراضي الإسرائيلية
لأول مرة منذ قيام الجمهورية الإيرانية في العام 1979، شنت طهران مساء السبت 13 أبريل 2024، وتحديدًا في الساعة العاشرة مساءً، هجومًا هو الأول من نوعه بين إسرائيل وإيران أطلق عليه اسم” الوعد الصادق”، ضم أكثر من 300 طائرة غير مأهولة وصواريخ باليستية وكروز باتجاه إسرائيل، مكونة من حوالي 170 طائرة غير مأهولة وأكثر من 30 صاروخ كروز وأكثر من 120 صاروخًا باليستيًا، أطلقت من عدة مناطق إيرانية، ككرمنشاه ودوكوهه في غرب إيران، ومن مواقع شمال وشمال غرب إيران، وتحديدًا أصفهان وشيراز وكرمانشاه وقزوين وسربول ذهب وتبريز، في حين يُعد معسكر “أمير المؤمنين” جنوب غرب طهران، هو مركز عمليات الإطلاق. ولقد تم رصد بعض هذه الصواريخ والدرونز في أجواء بعض المدن العراقية كمدن ميسان والناصرية وذي قار وديالى والسليمانية وواسط والنجف، كما أطلق بعضها من اليمن ومن لبنان؛ حيث تم إطلاق أكثر من 55 صاروخًا من لبنان على إسرائيل في وقت مبكر من صباح يوم 14 أبريل.
ولقد أعلنت القيادة المركزية الأمريكية أنها دمرت أكثر من 80 مسيَّرة و6 صواريخ باليستية كانت موجهة لضرب إسرائيل من إيران واليمن. وأضافت في بيان نشرته عبر منصة «إكس» أن قواتها دمرت صاروخًا باليستيًا وسبع طائرات مسيَّرة في مناطق سيطرة الحوثيين باليمن قبل إطلاقها، مُضيفة: “قواتنا جاهزة ومستعدة لدعم دفاع إسرائيل في مواجهة الأعمال الخطرة التي تقوم بها إيران”.
ولقد استغرق وصول الصواريخ الإيرانية إلى المجال الجوي الإسرائيلي عدة ساعات، بينما تم اعتراض وتدمير الدرونز قبل دخولها المجال الجوي الإسرائيلي، وهو ما أتاح فرصة لتل أبيب للتأهب والاستعداد للتصدي لهذه الضربات، حيث قامت بفتح الملاجئ العامة في مدينة حيفا شمال إسرائيل وحظر التجمعات العامة لما يزيد عن ألف شخص، وغلق مجالها الجوي، ناهيك عن تفعيل منظومتها الدفاعية؛ حيث استخدمت تل أبيب نظامين أساسيين دفاعيين هما؛ القبة الحديدية والسهم 3، لإحباط الهجوم، ناهيك عما لعبته الأردن وبريطانيا وفرنسا وواشنطن من دور في اعتراض الدرونز والصواريخ، إما دعمًا لإسرائيل، أو رفضًا لانتهاك مجالها الجوي كالأردن.
خريطة: مراكز إطلاق الضربات الإيرانية و أهدافها ومواقع اعتراضها
وبالفعل تمكنت تل أبيب بدعم من حلفائها من اعتراض نحو 99% من الضربات الإيرانية وإسقاطها قبل وصولها إلى إسرائيل، وأن العدد القليل من الصواريخ التي تمكنت من الوصول إلى الأراضي الإسرائيلية، والتي كانت تستهدف المثلث الرابط بين القواعد الجوية الإسرائيلية في النقب “رامون – نيفاتيم – حتسريم”، خاصة قاعدتي رامون ونيفاتيم، لاعتبارات تتعلق بتمركز أسراب من مقاتلات “إف-35″ الإسرائيلية المرجح استخدامها في ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق، وكذلك لاعتبارات تتعلق بالتطور العملياتي بالحرب في غزة. ولقد كشفت الأقمار الصناعية تعرض قاعدة “نيفاتيم” الجوية، لأضرار متوسطة، كما وردت أنباء عن تعرض قاعدة “رامون” الجوية في النقب، لعدد من الصواريخ لكن لم تُلحق بها أي أضرار، في ظل وجود ترجيحات بسقوط هذه الصواريخ في مناطق أخرى بالقرب من مدينة بئر السبع وفي النقب.
وفي المجمل، لم تُسفر الضربات الإيرانية التي أتت ردًا على ضربة يشتبه بأنها إسرائيلية تُعد هي الأولى من نوعها التي استهدفت مقرًا دبلوماسيًا إيرانيًا في دمشق (القنصلية الإيرانية) عبر مقاتلات “إف-35” الإسرائيلية، سوى عن أضرار طفيفة في قاعدة “نيفاتيم الجوية” العسكرية المتمركزة في صحراء النقب الجنوبية، كما أُصيب 12 شخصًا من بينهم فتاة تبلغ من العمر 7 سنوات إصابات طفيفة، وفقًا للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، الأدميرال دانييل هاغاري.
ثانيًا: انعكاسات الهجوم الإيراني على الداخل الإسرائيلي
كان وقع الضربات الإيرانية على الداخل الإسرائيلي بمكوناته المتعددة من قوى سياسية وحكومة ورأي عام إسرائيلي في خضم ما يواجهونه من تحديات معقدة ومتشابكة، ذات صلة بالحرب على غزة ومخاطر اتساع رقعة الصراع ليكون صراعًا إقليميًا ذا أبعاد دولية، وذا تأثير متباين، وهو ما يُمكن تناوله في ضوء ردود فعل الداخل الإسرائيلي على الضربة الإيرانية كالتالي:
1- موقف الحكومة الإسرائيلية من الضربة الإيرانية والرد الإسرائيلي المضاد:
قررت إسرائيل الرد بشكل واضح وحاسم على الهجوم الإيراني، حيث هناك إجماع أمني وسياسي وعسكري على توجيه ضربة مضادة لإيران، بينما يكمن الخلاف والانقسام داخل الأروقة السياسية والعسكرية والأمنية حول كيفية وموعد ونطاق ومستوى الرد الإسرائيلي، وهو ما كان مجلس الحرب يُناقشه في الاجتماع الخامس للمجلس منذ الهجوم الإيراني يوم 16 أبريل. وتهدف تل أبيب من خلال ردها المضاد للبعث برسالة واضحة وصريحة لطهران بأن تل أبيب لن تسمح لإيران بخلق معادلة ردع جديدة في المنطقة، وأن تل أبيب لن تتأنى أو تتراجع في توجيه أي ضربة لعدوها وستُقاتله في أي وقت، مثلما صرح وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالانت”.
في هذا السياق، وعلى الرغم من الاتفاق على ضرورة الرد الإسرائيلي على الضربة، فلقد انقسم الموقف الرسمي الإسرائيلي من توجيه ضربة إسرائيلية مضادة لطهران إلى تيارين؛ أولهما: التيار المتشدد الذي يدعو لتنفيذ ضربة قوية لطهران تستعيد بموجبها عنصر الردع الإسرائيلي وتستعرض من خلاها تل أبيب قدراتها العسكرية وهو ما يُمثله الائتلاف اليميني المتشدد في حكومة نتنياهو وعدد من الوزراء، حيث يُؤيد وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي ميكي زوهار من حزب الليكود ” الرد على الهجوم الإيراني بطريقة قوية”، مضيفًا أن “الرد الضعيف على هذا العدوان غير المسبوق هو استمرار للمفهوم الذي عفا عليه الزمن، منطق العقلانية والتعقل في مواجهة إرهابيين متوحشين”.
في حين دعى وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير إلى توجيه ضربة ساحقة وفورية لطهران من أجل الحفاظ على عنصر الردع في الشرق الأوسط، بعدما اختفى مفهوم الاحتواء عقب هجوم 7 أكتوبر “طوفان الأقصى”، وهو التصريح الذي أعاد ترديده وزير المالية القومي بتسلئيل سموتريتش، مؤكدًا أن الآن هو الوقت المناسب لـ«استعادة الردع الإسرائيلي»، والذي سيتشكل على أساسه الشرق الأوسط.
كما دعى سموتريتش إلى تخلي تل أبيب عن الخطوط الحمراء، لضمان عدم تعرض تل أبيب لخطر وجودي، وهو ما يحمل دعوات ضمنية بتوجيه ضربات نوعية على غرار استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، بل وقد تفوق حدتها عبر توجيه ضربات لتمركزات عسكرية إيرانية، ربما تتجاوز الإشارة وكلاء طهران في الإقليم، لتشمل الأراضي الإيرانية، بالإضافة إلى تكثيف عمليات الاغتيال لقادة إيرانيين عسكريين، كسبيل لتقويض القدرات العسكرية الإيرانية، والتسبب في أضرار اقتصادية بالغة تعظم من حجم التحديات الداخلية الإيرانية، والتي من شأنها أن تؤدي إلى تأليب الشارع الإيراني على الحكومة الإيرانية، بل والنظام الإيراني، مما يكشف عن اعتماد تل أبيب على سياسة تُسمى “التآكل من الداخل”. فليس من الغريب أن يخرج سموتريتش بمثل هذه التصريحات وهو أحد أوجه اليمين المتطرف الذي يُعد سببًا رئيسيًا لحالة الانقسام في الداخل الإسرائيلي وما آلت إليه الأوضاع فيما يتعلق بالحرب على غزة والتصعيد القائم في الإقليم.
أما بالنسبة لثاني التيارات العاكسة للموقف داخل الحكومة الإسرائيلية من الضربة الإيرانية، فهي تُمثل نهجًا متوازنًا وأكثر اعتدالًا، ينادي بتنفيذ ضربة/ هجوم مضاد إسرائيلي لكن دون التسبب في وقوع خسائر فادحة، تجنبًا لدفع الوضع إلى مزيد من التصعيد، وهو التيار الذي يُمثله عضو مجلس الوزراء الحربي بيني غانتس ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتزي هاليفي.
فلقد أوضح مسئولان إسرائيليان أن عضو مجلس الحرب بيني غانتس، يدعم القيام برد أسرع على الهجوم الإيراني، لرؤيته بأن كلما تأخر تل أبيب في الرد، بات من الصعب على إسرائيل حشد الدعم الدولي لها، بينما حذر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت من أن التصعيد لم ينتهِ بعد وأنه على تل أبيب أن تكون على أهبة الاستعداد، في حين صرح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتزي هاليفي يوم 15 أبريل ومن قلب قاعدة نيفاتيم الجوية التي تعرضت لأضرار جرّاء الهجوم الإيراني، قائلًا: “إطلاق هذا العدد الكبير من الصواريخ وصواريخ كروز والطائرات بدون طيار على الأراضي الإسرائيلية سيقابل برد”، دون ذكر أي تفاصيل. أما بالنسبة لموقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فلقد حرص نتنياهو على تسويق الضربة الإيرانية وتمكن تل أبيب من اعتراضها على أنه انتصار لتل أبيب وتأكيد على قوة وفعالية منظومتها الدفاعية.
يأتي انقسام الموقف الرسمي الإسرائيلي حول كيفية وموعد ونطاق ومستوى الرد/ الهجوم الإسرائيلي المضاد، في أول تصعيد معلن بين تل أبيب وطهران، في ظل ما تتعرض له تل أبيب من ضغوط دولية من أجل ضبط النفس لتجنب تصعيد الوضع في المنطقة، وبالتالي تعرض إسرائيل لعزلة دولية، إلى جانب ما يفرضه الجناح اليميني المتطرف الإسرائيلي من ضغوط على نتنياهو لتنفيذ ضربة قوية رادعة لطهران، إلى جانب مخاوف صناع القرار الإسرائيلي من أن الهجوم الإسرائيلي المضاد قد يُسفر عن تصعيد من قبل حزب الله اللبناني، لا سيما أن هناك مؤشرات على تصعيد على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية خلال الأيام القليلة الماضية.
2- المعارضة الإسرائيلية: على الرغم من الاتفاق بين النخبة والمعارضة في إسرائيل بأن طهران هي العدو الرئيسي، وأن هناك ضرورة للوقوف ضد الإرهاب والتطرف والنظام المتعصب في إيران والانتقاد الصريح لأداء حكومة نتنياهو، فلقد حاولت القوى المعارضة توظيف الضربات الإيرانية وفقًا لرؤيتها السياسية ومقولاتها؛ حيث حاول زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد التأكيد على صحة موقف التيار المعارض من الحكومة الإسرائيلية ورؤيته بأن حكومة نتنياهو هي السبب إلى ما آلت إليه الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في إسرائيل وفي المنطقة، وأن الحل يكمن في الدعوة لإجراء انتخابات إسرائيلية مبكرة. كما حرص لابيد على التركيز على انتقاد الإدارة الأمريكية لحكومة نتنياهو وأن اختلاف الرؤى بين إدارة نتيناهو وإدارة بايدن يُعد أحد إخفاقات حكومة نتيناهو، في محاولة لكسب مزيد من الدعم الشعبي وتقوية الجبهة الداخلية المعارضة لحكومة نتنياهو، وذلك بقوله: “التقيت بقيادات الإدارة الأمريكية، وهم مصدومون من هذه الحكومة، من انعدام المسئولية لديها، من انعدام المهنية من الإدارة الفاشلة ومن نكران الجميل”. كما اتهم لابيد في تصريح له يوم 15 أبريل حكومة نتنياهو بالتسبب في تقويض “الردع الإسرائيلي”، مُضيفًا “أن نتنياهو جلب “أكوامًا من الدمار” إلى إسرائيل، داعيًا إلى إجراء انتخابات مبكرة.
بينما أكدت زعيمة حزب العمل المعارض، ميراف ميخائيلي، بأن على إسرائيل أن تستغل التعاطف الذي اكتسبته من الهجوم الإيراني من أجل التوصل إلى اتفاق مع حماس لإعادة 133 شخصًا تحتجزهم كرهائن، مُشيرة إلى أن التعاون الأمني الدفاعي المشترك لصد الهجوم الإيراني أثبت مدى أهمية التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة ودول المنطقة للدفاع عن أمن إسرائيل، وأن الداعين في الوقت الحالي لتنفيذ هجوم إسرائيلي ساحق، لا يدركون أنه لا يوجد شيء اسمه إسرائيل وحدها في مواجهة هذه التهديدات، في إشارة ضمنية إلى أن الحديث عن هجوم إسرائيلي مضاد يشترط التنسيق مع واشنطن وباقي حلفائها، والذي بدونه لا يُمكن اتخاذ مثل هذه الخطوة التي قد تُفضي إلى تصعيد الوضع في الإقليم.
3- الرأي العام الإسرائيلي ما بين الرد والرد المشروط: ينقسم موقف الرأي العام الإسرائيلي تجاه الضربة الإيرانية وسيناريوهات الهجوم الإسرائيلي المضاد للحفاظ على عنصر الردع الاستراتيجي الإسرائيلي، إلى ثلاثة تيارات؛ أولها: تيار يُشيد بكفاءة منظومة الدفاع الإسرائيلية في التصدي للهجوم الإيراني وإحباطه وعدم تسببه بأي خسائر فادحة، داعيًا إلى الرد على الهجوم الإيراني، وهو المنظور الذي تبنته عدد من الصحف الإسرائيلية وسعت من خلاله لتفخيم القدرات الدفاعية الإسرائيلية، كصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية التي أشادت بأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي؛ باعتبارها السبب الرئيسي لإفشال الهجوم الإيراني استنادًا إلى معلومات استخباراتية دقيقة وقدرات غير عادية لطياري سلاح الجو وأنظمة الدفاع النشطة بجميع مكوناتها، وأن ما حققته المنظومة الدفاعية الإسرائيلية يُعد إنجازًا تاريخيًا بمواجهتها أكبر وابل من الصواريخ والطائرات غير المأهولة تواجهه أي دولة.
كما نقلت الصحيفة على لسان المحلل العسكري رون بن يشاري قوله: إنه بموجب الهجوم الإيراني حصلت تل أبيب على فرصة لاستعادة شرعيتها السياسية على الساحة الدولية التي تلاشت طوال الحرب على غزة، وأنه إذا لم ترد تل أبيب على الهجوم الإيراني، فإن طهران وحلفاءها، والدول المستعدة لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، قد تعتبر ذلك ضعفًا. بل وذهبت الصحيفة إلى القول إن لإسرائيل مصلحة في تهديد بقاء النظام الإيراني من أجل كشف ضعفه للعالم، ولكن هناك عامل مهم لا يقل أهمية وربما أكثر أهمية لا يُمكن تجاوزه يتمثل في الطلب الحازم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا، لامتناع تل أبيب عن الرد غير المتناسب الذي يمكن أن يعرض الاستقرار في المنطقة للخطر، وقد يُسفر عن حرب إقليمية ستخدم أيضًا رئيس حركة حماس في غزة “يحيى السنوار”. لذا تذهب الصحيفة وفقًا لرؤية بن يشاري، للقول: “لإسرائيل مصلحة في الاستجابة لطلب الغرب والعودة إلى التركيز على الحرب في غزة وفي الشمال، وترك التعامل الأساسي مع إيران لفرصة أخرى”.
علاوة على ذلك، أفادت صحيفة “يسرائيل هيوم“، نقلًا عن تحليل لمراسلها السياسي آرئيل كاهانا أن “الحرب الفاشلة التي شنتها إيران الليلة ضد إسرائيل توفر شرعية دولية نادرة للرد العسكري، وأن الإجراء الأكثر أهمية يتلخص في توجيه أقوى ضربة ممكنة للبرنامج النووي الإيراني، والذي قد يُقابله رد إيراني مضاد يتمثل في تصعيد حزب الله”.
أما بالنسبة للتيار الثاني فهو التيار الحذر: الذي يرى أن الخيار الأمثل لتل أبيب هو عدم الرد على الهجوم الإيراني تجنبًا لتصعيد ذي تداعيات خطرة وكارثية على تل أبيب، في ظل خوض القوات الإسرائيلية حربًا ضروسًا على ثلاث جبهات؛ هم قطاع غزة وشمال إسرائيل حيث التصعيد مع حزب الله، إلى جانب الحرب الموازية في الضفة الغربية، ومن ثَمّ فإن القدرات العسكرية والقوة البشرية في حال انهاك واستنزاف منذ نحو 6 أشهر، وأن تحويل الحرب الباردة الإسرائيلية الإيرانية إلى حرب معلنة باستمرار الضربات والضربات المضادة سيُشتت القوات الإسرائيلية ويقوض من قدرات تل أبيب العسكرية.
في هذا السياق، يتبنى غالبية المجتمع الإسرائيلي هذا المنظور؛ حيث أظهر استطلاع رأي لجامعة عبرية في الولايات المتحدة تم إجراؤه خلال الفترة (14- 15 ) أبريل 2024 عبر الإنترنت والهاتف على عينة مكونة من 1466 رجلًا وامرأة إسرائيليين، أن هناك نحو 74% من الإسرائيليين يعارضون توجيه ضربة مضادة لإيران إذا أضرت بالتحالفات الأمنية، مع ضرورة مراعاة المطالب السياسية والعسكرية لحلفاء تل أبيب، انطلاقًا من أن الدعم الأمريكي لتل أبيب في إحباط الهجوم الإيراني تُلزم إسرائيل بتنسيق الإجراءات المستقبلية مع واشنطن وباقي شركاء تل أبيب. كما ذهبت صحيفة “هآرتس” العبرية على لسان المحلل العسكري عاموس هرئيل للقول إن على تل أبيب الاستجابة إلى الضغوط الأمريكية لعدم توجيه ضربة مضادة لطهران، وأنه في حالة عدم استجابة نتنياهو لطلب الرئيس الأمريكي جو بايدن، فسيطلق حزب الله العنان وينضم إلى الحرب، وهو السيناريو الذي يسعى إليه يحيى السنوار منذ 7 أكتوبر.
أما بالنسبة لثالث التيارات: والذي يعكس ما يمكن وصفه بالصوت الخافت في الداخل الإسرائيلي، الذي عبرت عنه صحيفة إسرائيل اليوم والذي أشار إلى أن فشل الهجوم الإيراني في تحقيق أهدافه لا يعني فقط هزيمة تل أبيب وإنما يعني كذلك انتصارًا لإسرائيل، وأن قدرة تل أبيب على إنكار فعالية الجهود الشاملة التي تبذلها طهران لإلحاق الهزيمة بتل أبيب يُعيد مفهومًا منسيًا إلى حد ما ولكنه ذو صلة بالسياسة الدفاعية، ألا وهو “الردع بالإنكار”، والذي يعني أن تل أبيب لديها القدرة على ردع طهران وإحجامها عن تنفيذ عمليات مماثلة لضربة 14 أبريل، عبر التسويق والتأكيد على أن أي هجوم محتمل من قبل العدو لن يُكتب له النجاح، على غرار الضربة الإيرانية التي أخفقت في تحقيق أهدافها.
بل ذهب هذا المنظور للقول إن طهران لم تكن تدرك أن ضرباتها في 14 أبريل ستكون سببًا لمهاجمتها، والاستخفاف بقدراتها العسكرية لهذه الدرجة على العكس ما تروج له، ما قد يدفع إيران في المستقبل إلى تعديل حساباتها، بينما لا تزال تحتفظ تل أبيب -في المستقبل- بحقها في الرد على الضربات الإيرانية. كما أكدت الصحيفة على حتمية الرد الإسرائيلي، ولكن ليس من الشرط أن يكون الرد فوريًا وعينيًا، بل قد يكون تشكيل تل أبيب تحالفًا إقليميًا لاحتواء طهران بنمط من أنماط الرد الانتقامي ذا التأثير الأقوى من توجيه ضربة إسرائيلية مضادة.
نهاية القول، هناك حالة من الشد والجذب في الداخل الإسرائيلي بمكوناته المتعددة بشأن دلالات الضربة الإيرانية والخيارات الإسرائيلية المتعددة للرد، وما الخيار الإسرائيلي الأمثل لاستعادة تل أبيب عنصر الردع وتجنب تصعيد إقليمي غير محسوب التبعات والمخاطر. ففي حين هناك تصميم إسرائيلي رسمي على تنفيذ ضربة مضادة لطهران، ولكن يكمن الخلاف حول كيفية الرد/ الضربة المضادة وموعده ونطاقه، يتبنى بعضهم خيار عدم الرد طالما أن الضربة الإيرانية أخفقت في تحقيق أهدافها، بينما ذهب تيار ثالث لتبني ما يُمكن وصفه بالرد غير العيني/ غير العسكري الذي يكمن فحواه في تجنب توجيه ضربة عسكرية، وتفضيل خيار تشكيل تحالف إقليمي ضد طهران من رحم التنسيق الدفاع المشترك بين تل أبيب وحلفائها للتصدي للضربة الإيرانية والذي يكون تأثيره أقوى من توجيه ضربة عسكرية.