تمهيد:
دخل قانون المواطنة الهندي حيز التنفيذ في مارس الماضي بعد أن كانت الحكومة الهندية قد أقرت تعديلاته في عام 2019 بعد احتجاجات دامية على خلفية ما أثير في وقتها من أنه قانون تمييزي ضد الأقلية المسلمة في البلاد والتي تصل لحوالي 200 مليون نسمة مُشكِّلة بذلك أقلية ضخمة نسبيًا بالنسبة لتعداد السكان.
وفي مضمون التعديل فهو يسمح بمنح الجنسية الهندية للاجئين من ثلاث دول ذات أغلبية مسلمة وهي أفغانستان وباكستان وبنجلاديش ويستثني المهاجرين المسلمين من هذه القائمة بدعوى أن الهند سوف تمنح جنسيتها للأقليات الدينية اللاجئة من هذه الدول الإسلامية والتي هي بطبيعة الحال أقليات غير مسلمة، ويسمح فقط للهندوس والبارسيين والسيخ والبوذيين والجانيين والمسيحيين الذين دخلوا الهند من هذه الدول الثلاث بالتقدم للحصول على الجنسية. والتفسيرات على اختلافها في هذا الإطار لا تستطيع أن تتجاهل التوقيت الذي دخل فيه القانون حيز التنفيذ ودلالاته السياسية.
أولًا: توقيت صدور قانون الجنسية
دخل تعديل القانون حيز النفيذ قبل أسابيع قليلة من إجراء الهند لانتخاباتها التشريعية التي يختار فيها حوالي 900 مليون ممن يحق لهم الانتخاب 543 نائبًا في البرلمان الهندي، وعلى الرغم من أن أغلب الترجيحات تشير إلى احتمالية فوز رئيس الوزراء الحالي ” ناريندرا مودي” بولاية ثالثة إلا أن هذا لا يمنع أن ” مودي” الذي وصفه الكثيرون ممن أجروا حوارات معه بأنه يتسم بكل سمات ” الفاشية الكلاسيكية” يريد أن يقلل هامش المعارضة في البرلمان إلى الحد الأدنى أو على الأقل عدم تمكين قوى المعارضة من أن تحوز على مقاعد أكثر من التي حازت عليها منذ عقد من الزمن في 2014.
وفي دولة مثل الهند، تشكل الطائفة عاملًا بالغ الأهمية وبالغ التأثير على المجريات السياسية مما يرفع الهند من قائمة الديمقراطيات العملية ويضعها في خانة الديمقراطيات الشكلية، وفي السياق نفسه -لا تزال الطائفة توظف بشكل كبير في الدعاية الانتخابية حتى في أكبر الولايات الهندية التي يميل فيها المواطنون للتصويت ككتلة واحدة تتحرك من منطلقات طائفية ” دينية”، ومن هنا كان الحرص على إدخال قانون الجنسية حيز التنفيذ قبيل الانتخابات للتأكد من الحفاظ على أصوات الكتلة الهندوسية خاصة وأن القانون متهم بالتمييز ضد المسلمين مما يمهد الطريق أمام ” ناريندرا مودي” لولاية ثالثة ” سهلة”.
وبهذه الطريقة يضاعف رئيس الوزراء الحالي فرصته في الفوز؛ نظرًا لأن الخطاب القومي الهندوسي يجذب الملايين من المواطنين الذين ينتمون إلى هذه الطائفة مع حفاظه على خطاب شعبوي يخاطب الطبقة الوسطى، بل إن أجندة رئيس الوزراء الحالي والتي تتضمن خططًا تنموية تتسم بالرفاهية تستطيع أن تحجز له حصة من تصويت أثرياء الهند.
ومما تقدم يتضح أن الناخبين الهنود وصانع السياسة الهندي على حد سواء لم يعد لديهم نفس الاهتمام بقيم الديمقراطية والدليل على ذلك أن حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي والذي ينتمي إلى يمين الوسط بقي في السلطة وعلى رأسه مودي لمدة عقد متجاوزًا حدود كل الفترات السابقة لاحتفاظ حزب يميني بالسلطة، ولكن هذا لا ينفي في الوقت نفسه أن الهند وإن كانت أقل ديمقراطية في عهد ناريندرا مودي إلا أنها أصبحت أكثر قوة على المستويين الداخلي والخارجي، فداخليًا حققت الهند طفرة في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية مع حفاظها على الهيكل الديمقراطي في البلاد والذي ينعكس في وجود تحالف كبير معارض يضم حوالي 20 حزبًا تحت مسمى التحالف الوطني التنموي الشامل، وخارجيًا أصبحت رقمًا لا يمكن تجاوزه في محيطيها الإقليمي والدولي حيث يُعد الغرب نيودلهي حجر زاوية في مواجهة النفوذ الصيني وهو مصدر دعاية انتخابية كبير لمودي، حيث أصبحت السياسة الخارجية في الهند منذ سنوات عاملًا حافزًا وموجهًا للناخب الهندي. كما يتمتع ناريندرا مودي بمؤهلات أخرى تضمن له الفوز بولاية ثالثة، ومنها أنه نجح بفعالية في تصوير نفسه كحاكم يتمتع بالرجاحة الاقتصادية مع دعم الفئات الأكثر احتياجًا خاصة أنه يحظى بدعم كبير في الولايات الفقيرة والأكثر اكتظاظًا بالسكان ويستند في ذلك لأنه جاء من قاعدة الهرم الطبقي حسب العقيدة الهندوسية.
وعلى الرغم من أنه قد تم إقرار تعديلات قانون المواطنة في عام 2019 إلا أن لدخوله حيز التنفيذ خلال العام الجاري له أبعاد مغايرة، فخلال عام 2019 شهدت بعض الولايات الهندية تظاهرات ضد القانون ولكن خلال العام الجاري بدا أن الحكومة قد استعدت بشكل أفضل واستعانت بقيادات إسلامية لتوضيح أبعاد نفاذ القانون وأنه قد جاء بشكل أساسي لمنح الجنسية للمهاجرين وليس لنزع الجنسية من المسلمين المقيمين.
ثانيًا: العلاقة بين قانون الجنسية والهندوتفا وقيم المواطنة في الهند
نظر “وينايك دامودار ساوركر” “للهندوتفا “في كتابه الشهير ” هندوتفا” من هو الهندوسي؟ والذي تم نشره في عام 1923 وهذا الكتاب يُعد بمثابة الدستور لمفاهيم الأصولية الهندوسية ويعتبر ” ساوركر ” الهندوسية فكرة شاملة تجمع الهنود الذين فرقتهم اللغة والعرق والدين تحت هوية أممية واحدة ” هندوسية بالطبع”، وحسب هذا التنظير اشترط المؤلف الاقتناع بالعقيدة الهندوسية والانتماء لها باعتبارها الهوية القومية للبلاد، ولذلك تم النظر لأتباع الديانات الأخرى داخل الهند باعتبارهم مهددين للوحدة الوطنية.
وفي عام 1940 نظر للهندوتفا معلمها الثاني “غولوالكر” في كتابه ” نحن، تعريف وطنيتنا” والذي أشار فيه إلى “أن الثقافة الهندوسية عماد الحضارة الهندية، وأنها يجب أن تكون أساس أي قومية هندية، أما الأقليات الدينية فليست سوى جماعات دخيلة، لا يحق لها أن تعيش في الهند إلا إذا تخلت عن “هويتها الأجنبية”.
وعلى الرغم من أن جذور الهندوتفا قديمة للغاية إلا أن زعماء هنودًا آخرين مثل المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو عندما ترأسوا حزب المؤتمر ذا الأفكار العلمانية قد أجادوا التعامل معها بمنظور وسطي، ولكن منذ وصول مودي للسلطة في 2014 نشأ ما يمكن وصفه بتعاقد جديد مع الهندوتفا خاصة أن ناريندرا مودي كان عضوًا في جماعة السانغ المتطرفة التي أصبحت حزب بهاراتيا جاناتا فيما بعد الذراع السياسي لها.
وتستند الهندوتفا في جوهرها الاجتماعي على أوضاع طبقية تتكون من هرم تقبع فيه الأغلبية الفقيرة في قاعدة الهرم بينما تتصدر الطبقات الغنية قمة الهرم، ومن هنا تتعارض الهندوتفا في جوهرها الاجتماعي مع عقيدة المسلمين الذين ينفرون من تبني الهندوتفا حتى في شكلها الاجتماعي.
ولكن على أي حال فإن البديل لبهاراتيا جانات وهو حزب المؤتمر الهندي الذي يتبنى أفكارًا ” علمانية” وينتمي ليسار الوسط إنما يتعامل بشكل أكثر انفتاحًا مع الأقلية المسلمة في البلاد بغرض الحصول على تصويتهم في الانتخابات، ولم ينجح هذا الاتجاه تحت قيادة غاندي ونهرو في القضاء على النظام الطبقي الهندوسي في البلاد والذي عاد بشكل أكثر قوة منذ تولي أنديرا غاندي السلطة، حيث ازدهر تنظيم السانغ المتطرف المنتمي للحركة الأصولية الهندوسية قبل أن ينجح في الوصول إلى السلطة تحت لواء بهاراتيا جاناتا. وكان تقنين جماعة السانغ عن طريق الذراع السياسي لها بمثابة السُّلمة الأولى في العبث بمفاهيم المواطنة في الهند، حيث تم إرساء قواعد جديدة للانتماء في الهند مع حالة لفظ لحزب المؤتمر الذي ينظر له من الأغلبية الهندوسية باعتباره يحابي الأقلية المسلمة.
وحسبما تقدم ينتج عن دخول التعديل الأخير حيز التنفيذ آثار قانونية تتعلق بأوضاع المهاجرين المسلمين ” غير الشرعيين” في ولايات مثل ولاية ” آسام الشمالية” فوفقًا للتعديل الجديد لن يتم منح هؤلاء الجنسية مما يعني أن وجودهم سيُعد غير قانوني مع تقنين أوضاع المهاجرين من ديانات أخرى.
ثالثًا: انتقادات دولية للقانون
على الرغم من أن القانون وجد ليمنح الجنسية للمضطهدين دينيًا في دول ذات أغلبية إسلامية إلا أنه استثنى المهاجرين إلى الهند من دول أخرى مثل بوروما وسريلانكا، وفي هذا السياق فقد أعربت الحكومة الأمريكية عن قلقها بشأن قانون المواطنة المثير للجدل على أساس الدين في الهند.
كما أقدمت منظمتا هيومان رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية على انتقاد القانون وقالتا: إنه ينطوي على تمييز ضد المسلمين كما قال متحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان: “كما قلنا في عام 2019، نشعر بالقلق من أن قانون المواطنة (المعدل) ينطوي على تمييز أساسي في طبيعته وينتهك التزامات الهند الدولية في مجال حقوق الإنسان”. خاصة أن الحكومة الهندية قد منحت تسهيلات استثنائية للمهاجرين من الدول الثلاث تضمنت أنه يمكن الآن لأي هندوسي أو سيخي أو بوذي أو بارسي أو مسيحي من باكستان وبنغلاديش وأفغانستان، من الذين دخلوا الهند قبل 31 ديسمبر 2014، أن يطلبوا الجنسية الهندية دون إبراز جواز سفر ساري المفعول لهذه البُلدان أو تأشيرة صالحة من الهند، وفقًا لقواعد قانون المواطنة المعدل لعام 2019. وتنص القواعد المعدلة كذلك على أن “أي وثيقة” تظهر أن أحد الوالدين أو الأجداد أو حتى أجداد أجداد مقدم الطلب كان من إحدى هذه البلدان ستكون كافية لإثبات جنسيته. وبدلًا من التأشيرة، ستكون الشهادة الصادرة عن عضو منتخب في هيئة محلية كافية. وينظر القانون المعدل إلى أن المهاجرين من هذه الدول تعرضوا للاضطهاد باعتبارهم أقليات بغض النظر عن الدين.
وعلى أي حال فقد ردت السفارة الهندية في واشنطن حينما أشارت إلى أن عملية التقدم العادية للحصول على الجنسية الهندية تظل متاحة للجميع، بغض النظر عن الجنسية أو المجتمع أو العقيدة، وأن قانون تعديل المواطنة كان مخصصًا “للأشخاص “عديمي الجنسية “من هذه المجتمعات المضطهدة الموجودين بالفعل في الهند. كما أن القانون يراعي حقوق الإنسان في تعديلاته بالنظر لأن القانون القديم والذي كان قد أقر قبل 64 عامًا الحظر على المهاجرين غير الشرعيين بالحصول على الجنسية الهندية دونما استثناءات.
وبناءً على السياقات السابقة، فإنه ليس من الممكن تجاهل أن التعديلات التي أدخلت على قانون المواطنة سوف تسهم في فوز ناريندار مودي بولاية ثالثة حسب أغلب الترجيحات حتى وإن كان هذا التعديل يجعل الهند أقل ديمقراطية ويغير من قيم المواطنة بسبب جدلية موادّه، والتي تتجاهل وجود العديد من المسلمين المهاجرين من الدول الثلاث التي شملها التعديل أو من دول أخرى ذات أغلبية غير مسلمة من منحهم الجنسية الهندية، وهو ما يتعارض مع جوهر الدستور الهندي الذي ينص على أن العقيدة ليست شرطًا للمواطنة. ومن هنا، فقد نجح ناريندرا مودي بالفعل في توظيف التوقيت لصالحه وأحدث حالة من الاستقطاب ضمنت له تصويت الناخب الهندوسي، إلا أنه لا ضمانات حقيقية تحول دون انفجار حالة العنف الطائفي بعد انتهاء العملية الانتخابية.