يقع الأردن في قلب معادلة التفاعلات الجيوسياسية بالشرق الأوسط، بحيث يجد نفسه عرضة للمخاطر السياسية والأمنية المتعلقة بالاضطرابات الإقليمية، لذلك شكَّل تجدد دورات الصراع بالمنطقة ارتباطًا بالمواجهة الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة التي أخذت تتسع دوائرها الإقليمية حتى بلغت ذروتها بالهجمات الإيرانية الإسرائيلية المتبادلة، تهديدًا كبيرًا لاستقرار الأردن، وأعاد قضية الأمن الإقليمي إلى رأس أجندة التحركات الدبلوماسية الخارجية، ودفع البلاد للسير على حبل مشدود داخليًا وخارجيًا محاولةً تحقيق التوازن بين تأييد حقوق الفلسطينيين واستيعاب الشارع المتأجج والحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
محاولات اختراقية
يخشى الأردن من محاولات طهران تحريك المكونات الداخلية وتوظيف موقعه الجيوسياسي لتمديد مشروعها الإقليمي داخل أراضيه، إذ تُدرك عمَّان أبعاده ومخاطره، فالملك عبد الله الثاني هو الذي طور مصطلح “الهلال الشيعي” لوصف المشروع التوسعي الإقليمي الإيراني الذي طال دول الجوار الجغرافي ولم يفلت منه سوى المملكة. ويُمكن استعراض أهم محاولات التغلغل الإيراني داخل الأردن كالتالي:
• عدوى المليشيات المسلحة: تطمح طهران في تحقيق التكامل المليشياوي على طول خط الإمداد اللوجيستي الممتد من إيران حتى ساحل المتوسط والمار عبر العراق وسوريا ولبنان فيما عدا الأردن. ورغم أن الشيعة الأردنيين يمثلون أقلية عددية لا تتجاوز 2% ولا يرتبطون أيديولوجيًا أو تنظيميًا بإيران، كما تغيب أي مجموعات مليشياوية مُسلحة أو جماعات تعرف نفسها بالانتماء لمحور المقاومة، إلا أن المملكة تخشى استغلال طهران ومليشياتها للعناصر الإخوانية أو خلايا نائمة تابعة لحماس وحركة الجهاد الإسلامي للعمل كنواة لتنظيمات أيديولوجية مُسلحة تأخذ من الأراضي الأردنية منصة للانطلاق بعملياتها للخارج. ودعمت تلك المخاوف تصريحات المسئول الأمني بمليشيا حزب الله العراقية أبو علي العسكري باستعداد المقاومة الإسلامية بالعراق لتدريب 12 ألف مقاتل أردني وتسليحهم بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة والقاذفات ضد الدروع والصواريخ التكتيكية والذخائر والمتفجرات تحت مسمى المقاومة الإسلامية بالأردن. ورغم ضرورة التعاطي الجاد مع التهديدات الأمنية بغض النظر عن مستواها ومصدرها، إلا أنه لا يُمكن القول –حتى الآن– إنها تعبر عن توجه استراتيجي إيراني رسمي مُعلن، فالتصريح المذكور مصدره قيادي ميداني لإحدى المليشيات العراقية، ولم يَرِد على ألسنة المسئولين الرسميين الإيرانيين أو قيادات الحرس الثوري البارزين، ما يجعله حتى الآن محصورًا ضمن مساحات التقديرات الفردية لطبيعة التحركات الميدانية التي تتمتع بها المليشيات الإيرانية.
• استباحة المجال الجوي الأردني: تعددت شواهد استخدام إيران ومليشياتها المجال الجوي الأردني لتنفيذ عمليات عسكرية عدائية ضد قوات ومصالح وأراضي أطراف إقليمية ودولية تعتبرها مُعادية، لعل أبرزها تنفيذ طائرات مُسيرة إيرانية تُشغلها المليشيات العراقية هجومًا استهدف البرج 22 الأمريكي في أقصى الشمال الشرقي الأردني متسببًا في مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة حوالي 40 آخرين خلال يناير 2024، واستخدام المليشيات المجال الجوي الأردني لاستهداف إسرائيل بواسطة الطائرات المُسيرة، أما أحدث هذه الشواهد فكان وقوع الأردن على مسارات عبور الطائرات المُسيرة الإيرانية المهاجمة لإسرائيل ردًا على استهداف مبنى القنصلية الإيرانية بدمشق مطلع أبريل الجاري، ما يعني استباحة الأراضي الأردنية وتحويلها لرقعة شطرنج تحرك عليها الأطراف الإقليمية بيادقها وساحة حرب لتصفية الحسابات، وبالتالي انتقاص سيادة الدولة، وتعريض أمنها للخطر، وجعلها عُرضة لانتشار العناصر المُسلحة، ووقوعها في مرمى النيران الإقليمية، ويُفسر هذا التدابير الأمنية التي اتخذها الجيش الأردني بإغلاق المجال الجوي وصد المُسيرات الإيرانية.
• محاصرة الأردن بالبؤر المليشياوية: تزحف المليشيات باتجاه المثلث الحدودي الأردني العراقي السوري لتنتقل معها جغرافيا المواجهة العسكرية الأمريكية الإسرائيلية ضد المجموعات الإيرانية إلى الحدود الشرقية للمملكة، بمعنى تطويق الأردن ببؤر مضطربة، عادةً ما يُصاحبها رخاوة أمنية حدودية تسهّل انتقال التهديدات الأمنية العابرة للحدود، وفي مقدمتها تنفيذ هجمات لمهربي المخدرات والأسلحة بواسطة أساليب أكثر تقدمًا تشمل الطائرات المسيرة وبتكتيكات جديدة تتضمن قيام المهربين بتنسيق عمليات متزامنة ومنسقة عبر مساحة واسعة تتجاوز 100 كم، فضلًا عن احتمال انتقال العناصر الإرهابية مع استمرار نشاط داعش بالمنطقة، ما يُضعف الجبهة الأمنية الأردنية.
• تحريك الشارع الأردني: تتكرر موجات الاحتجاجات الأردنية المناهضة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بين الفنية والأخرى، ورغم احتفاظ المتظاهرين بمسافة آمنة تبتعد عن التطرق للمسائل السياسية الداخلية وتقصر موضوع الاحتجاجات على تأييد الفلسطينيين، إلا أن دعوات قادة حماس الأخيرة للأردنيين باستمرار التظاهر بالتزامن مع زيارة لوفد الحركة إلى طهران برئاسة رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، ولقائهم المرشد الإيراني وعدد من المسئولين الإيرانيين؛ يُشير إلى مباركة إيرانية لتحركات الشارع الأردني، ما أقلق عمَّان خشية توظيف طهران المشاعر الشعبية المتأججة لتهديد المعادلة السياسية المستقرة بالأردن، وتحويل موضوع الاحتجاجات من تأييد الفلسطينيين إلى انتقاد السياسات الحكومية، والانحراف بالمظاهرات عن الطابع السلمي إلى العدواني.
وتتضاعف مخاوف الأردن عند الأخذ في الاعتبار عوامل مهمة، أولها، التأييد القبائلي والعشائري للاحتجاجات، بل والتخطيط لها، وتنظيمها، وإعلان الدعم لحماس، بينما تعمل القبائل الأردنية الرئيسية كعامل استقرار رئيسي للنظام السياسي، وتُعتبر جزءًا من الأجهزة السياسية والأمنية. وثانيها، انقلاب الميزان الديموغرافي لصالح السكان الأردنيين من أصول فلسطينية الذين يشكلون أكثر من نصف عدد السكان تقريبًا. وثالثها، التداعيات المحتملة لاستمرار اضطراب الشارع الأردني على مضاعفة الضغوط على الاقتصاد الذي يعاني أزمات هيكلية، ويعتمد بدرجة كبيرة على المساعدات الخارجية، وكذلك الانعكاسات على إرهاق الأجهزة الأمنية وتشتيت جهودها بينما يُحاط الأردن بالتهديدات على مختلف الجبهات الاستراتيجية فيما عدا الجنوبية، المرتبطة بمخاطر انتشار البؤر المليشياوية والحدود السائلة، ما يتطلب تكثيف الجهود الأمنية لمجابهتها. ورابعها، وزن جماعة الإخوان وجناحها السياسي حزب “جبهة العمل الإسلامي” داخل المعادلة السياسية الأردنية، واحتمالية تحقيقها مكاسب سياسية خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة نتيجة تصاعد المشاعر المؤيدة لحماس مقابل اتهامات بضعف موقف الحكومة الأردنية تجاه إسرائيل.
عوامل محفزة
يأتي اتجاه إيران للضغط على الساحة الأردنية ارتباطًا بمستهدفات تتصل بسياستها الإقليمية ضد الخصوم المتصورين وعلاقتها الثنائية مع الأردن، والتي تتمثل في الآتي:
• إحكام تطويق إسرائيل: نجحت إيران عبر مليشياتها في محاوطة إسرائيل بالأنظمة المُعادية التي تُشكل تهديدات أمنية على صعيد الجبهتين الاستراتيجيتين الشمالية والشمالية الشرقية (حزب الله اللبناني، والمليشيات الشيعية جنوب سوريا وبالقرب من الجولان) والجنوبية (الحوثيين باليمن)، إلى جانب تهديد المقاومة على صعيد جبهة غزة الجنوبية. وبتمديد نفوذها داخل الأردن ونشر مليشيات مُسلحة موالية تكون قد أحكمت حلقة تطويقها بإضافة الجبهة الشرقية بأكملها، لتصبح إسرائيل في مرمى نيران الجماعات الإيرانية فيما عدا قطاعها الحدودي الغربي. ويرتبط تكثيف محاولات فتح جبهة الأردن خلال المرحلة الحالية بمحاولة التخفيف على جبهتي غزة ولبنان، وتشتيت المجهود الحربي الإسرائيلي، واستغلال نقاط الهشاشة العسكرية لدى الخصم لإحداث اختراق عسكري. إذ ركزت تل أبيب أجهزة الاستشعار والرادار إلى مناطق الشمال والشمال الشرقي لتقديرها بأن منطقة الحدود الأردنية منخفضة المخاطر مقارنة بالجبهات الأخرى، كما أن وعورة التضاريس على طول الحدود بين الأردن وإيلات تُعقّد عملية اكتشاف الطائرات بدون طيار، وتوفر غطاء للأجهزة التي تقترب من مسافة بعيدة على ارتفاعات منخفضة.
• تهديد الخاصرة الشمالية لمنطقة الخليج: إن الموقع الجغرافي للأردن على حدود المملكة العربية السعودية يجعل منه البوابة الشمالية لمنطقة الخليج، أي يُمثل عمقها الاستراتيجي وأحد العوامل المرتبطة بأمنها القومي نظرًا للتفاعل والتشابك بين الديناميكيات الإقليمية والأمن القومي. وعليه، من شأن وجود أردن مضطرب سياسيًا أو يُعاني فوضى أمنية أن يحمل تهديدًا للمشهد الأمني الإقليمي الأوسع، وبالأخص للأمن القومي الخليجي، مع تصاعد احتمالات انتقال التهديدات عبر الحدود، على غرار سهولة تهريب الأسلحة والمخدرات والعناصر المُسلحة والإرهابية.
• إضعاف أحد الحلفاء العرب للولايات المتحدة: لطالما اعتبرت طهران الأردن حليفًا متقدمًا لواشنطن في المنطقة يُهدد مليشياتها في سوريا والعراق، وقاعدة أمامية للقوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها بما في ذلك القوات البريطانية، إذ يستضيف الأردن حوالي 3000 جندي أمريكي، ويتعاون البلدان في تبادل المعلومات الاستخبارية بشأن أنشطة الوكلاء الإيرانيين والجماعات الإرهابية. وتتضاعف أهمية الحليف الأردني كركيزة للحضور الأمريكي في المنطقة، ولا سيَّما في ظل المباحثات الجارية حاليًا بشأن إعادة تعريف مهمات وطبيعة انتشار القوات الأمريكية داخل العراق وربما سوريا لاحقًا. وعليه، فإن إضعاف الأردن وإغراقه بالمشكلات الداخلية وتحويله لساحة للانتقام الإقليمي يؤدي للإخلال بمعادلة التوازن القائمة في إقليم المشرق العربي، ويُفقد الولايات المتحدة إحدى أوراقها الإقليمية، ويؤثر في قدرتها على ضبط الصراع الإقليمي، ويُعزز البيئة المُعادية للوجود الأمريكي في الشرق الأوسط.
• التأثير على القرار السياسي الأردني: يرتبط الأردن بعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة وإسرائيل مقابل علاقات فاترة ومتوترة مع إيران، وتسعى الأخيرة لقلب هذه المعادلة من خلال امتلاك أوراق ضاغطة على الحكومة الأردنية لحملها على التحرك ضمن مسارات مُحددة منها: تحسين العلاقات المتوترة مع طهران، والسماح بتنفيذ مشروعات دينية وثقافية داخل المملكة لطالما اقترحتها الحكومة الإيرانية وعارضتها نظيرتها الأردنية خشية تداعياتها الطائفية مثل بناء حسينيات للشيعة وفتح باب السياحة الدينية. إضافة إلى الضغط على إسرائيل من خلال قطع خط إمدادها بالبضائع المار عبر الأراضي الأردنية، وإضعاف النفوذ الأمريكي بالأردن وتحييد تهديده المحتمل ضد المصالح الإيرانية عن طريق ضمان ألا يستهدف التعاون الاستخباراتي والمعلوماتي الأردني الأمريكي نشاط المليشيات الشيعية بالمنطقة.
• تخفيف الضغط على شبكة مليشياتها التقليدية: وَقَعَت المليشيات الإيرانية التقليدية في سوريا والعراق واليمن ولبنان في دائرة الاستهداف الأمريكي والإسرائيلي المباشر، بعدما حولت الأخيرة استراتيجيتها من محاربة “رأس الأخطبوط” إلى “أذرعه”، مُكبدة إيران وأذرعها المليشياوية مئات العناصر والمستشارين العسكريين والضباط، إلى جانب تدمير شحنات أسلحة ومُعدات ومخازن ذخيرة ومستودعات ومراكز قيادة وسيطرة. وعليه، فإن انتقال المواجهات إلى مسارح أخرى سوف يُخفف الضغط على الساحات التقليدية، ويُشتت الجهود الإقليمية والدولية للمواجهة.
ختامًا، يجد الأردن نفسه تحت وطأة الضغوط الإقليميةالتي تُشكل تهديدًا على أمنه واستقراره السياسي، لكن ليس أمامه سوى مواصلة سياسة التوازن بين متطلبات تهدئة الشارع والحفاظ على علاقاته الاستراتيجية مع الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، وتعزيز مستوى التعاون والتنسيق الأمني معهما، وغيرهما من الأطراف العربية التي تشاركه التصورات ذاتها تجاه التهديدات الإقليمية.