أكدت الأزمات الأمنية المتنامية التي تشهدها مناطق الغرب الليبي والعاصمة طرابلس، ولا سيما الاشتباكات التي تتجدد بين الحين والآخر بين المليشيات المنتشرة في مناطق سيطرة حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، على بعض الفرضيات المهمة المرتبطة بجدلية ومعضلة استمرار مسلسل التأزم الليبي وإعادة تدوير الأزمات، وعلى رأس هذه الفرضيات تحول الملف المليشياوي إلى معضلة مستعصية على الحل، جنبًا إلى جنب مع فقدان السيطرة على هذه المجموعات المسلحة غير النظامية، وفي المقابل تطرح هذه الأزمات تساؤلات مرتبطة بأبعاد تجدد هذه الأزمات المرتبطة بالانتشار المليشياوي في الغرب الليبي، وتداعياتها على المسار السياسي الليبي ككل، خصوصًا مع ما تُنذر به من احتمالية تفجر الأوضاع الأمنية بالبلاد.
اضطرابات أمنية متنامية في الغرب الليبي
شهدت الأشهر الأخيرة تناميًا في وتيرة الاضطرابات الأمنية التي شهدتها منطقة الغرب الليبي والعاصمة طرابلس، على وقع الانتشار المليشياوي الكبير الذي تعيشه، ويمكن إجمال بعض مظاهر هذه الاضطرابات، وذلك على النحو التالي:
– اندلعت اشتباكات مسلحة بين عدد من المليشيات في العاصمة طرابلس ثاني أيام عيد الفطر؛ ما خلف حالة من الهلع بين السكان، وجرت الاشتباكات في مناطق طريق المطار وجزيرة المدار، قرب امتداد شارع الجرابة المعروف بالعاصمة طرابلس، بين عناصر تتبع “جهاز دعم الاستقرار” الذي يترأسه عبد الغني الككلي، وأخرى تتبع “القضائية” التابع لـ”جهاز الردع”، وعلى وقع هذه الاشتباكات دعا جهاز الإسعاف والطوارئ كافة المواطنين إلى توخي الحذر والابتعاد عن أماكن التوتر، وعدم الخروج من منازلهم إلا للضرورة القصوى حفاظًا على سلامتهم.
– في صبيحة يوم 1 أبريل حدث هجوم استهدف منزل “عبد الحميد الدبيبة” رئيس الحكومة منتهية الولاية في حي الأندلس بمدينة طرابلس، والتي تُعد المقر الرئيس للحكومة منتهية الولاية بقيادة “الدبيبة”، كما إن حي الأندلس يُعد من أكثر الأحياء تأمينًا في طرابلس، وذلك في ضوء المواقع والهياكل المؤسسية المهمة التي يحويها، جنبًا إلى جنب مع كونه مقرًا لإقامة عائلة “الدبيبة”، وجاء هذا الاستهداف بعد ساعات من إصدار “الدبيبة” قرارًا بتعين قائد اللواء 444 قتال محمود حمزة، مديرًا جديدًا لإدارة الاستخبارات العسكرية، ويشير هذا التطور لرفض مجموعة من المليشيات لبعض القرارات التي يتخذها “الدبيبة”.
– جاءت عملية استهداف منزل “الدبيبة” بالتزامن مع عملية استهداف أخرى لمكتب مستشار رئيس حكومة الوحدة الوطنية إبراهيم الدبيبة المجاور لبيته في منطقة حي الأندلس وسط العاصمة طرابلس، ويبدو أن العملية تمت عبر قذائف صاروخية موجهة يمكن أن يتم إطلاقها من طائرات مُسيَّرة، على اعتبار استحالة تنفيذ هجوم منظم تقليدي على هذه المناطق شديدة التأمين، مما يُرجح كون الاستهداف تم بأنماط غير تقليدية عبر الطائرات المُسيَّرة.
– في 19 مارس الماضي توقفت حركة سير الأفراد والسيارات تمامًا في منفذ رأس جدير الحدودي بين ليبيا وتونس، بعد “فوضى أمنية” عارمة شهدها المعبر في الجانب الليبي، وبدأت الأحداث حينما دخلت قوة تابعة لما يسمى بـ”إدارة إنفاذ القانون” إلى المعبر بتكليف من عماد الطرابلسي وزير الداخلية في الحكومة منقضية الولاية، للسيطرة عليه ثم تطور الأمر سريعًا بدخولها في “اشتباك محدود” مع مليشيات أخرى أمازيغية تهيمن على المرفق الحيوي.
– في فبراير الماضي تم اغتيال مجموعة من العناصر التابعة لجهاز دعم الاستقرار برئاسة غنيوة الككلي، وهو الحادث الذي تم بمنطقة “أبو سليم”، بالتزامن مع احتفال حكومة “الدبيبة” بذكرى 13 فبراير، وأيضًا في 9 فبراير الماضي كشف فيصل الفيتوري رئيس الائتلاف “الليبي – الأمريكي” وهو إحدى جماعات الضغط الليبية بواشنطن، عن حدوث محاولة اغتيال فاشلة لرئيس جهاز الردع عبد الرءوف كاره، مشيرًا إلى أن من دبر هذه العملية هو عبد الحميد الدبيبة، بمساعدة وزير داخليته عماد الطرابلسي، وبدعم من غنيوة الككلي، وذكرت بعض الدوائر الليبية حينها أن “تدبير عملية الاغتيال جاء كرد على تعاون كاره مع رئيس مصرف ليبيا المركزي، ورفضه العديد من إجراءات حكومة الدبيبة”.
خريطة الانتشار المليشياوي في غرب ليبيا
باتت المليشيات المسلحة غير النظامية، بفعل العديد من العوامل، أحد الفاعلين الرئيسيين في المشهد السياسي والأمني في منطقة غرب ليبيا، ويمكن القول إن خريطة هذه المليشيات تتنوع بين مليشيات منتشرة على بعض النطاقات الجغرافية، وأخرى موجودة بناءً على أسس قبلية وعرقية، وثالثة موجودة على وقع أفكار وبنى أيديولوجية متشددة. وفي هذا السياق يمكن تناول أبرز هذه المليشيات وذلك على النحو التالي:
1- مليشيات مصراتة: تملك مدينة مصراتة عشرات المليشيات المختلفة والتي يتوزع ولاؤها بين عدد من المسئولين، وتعد مليشيات مصراتة أكبر قوة في مدن الغرب الليبي، حيث تمتلك أكثر من 17 ألف مقاتل وآلاف العربات المسلحة ومئات الدبابات وعشرات الطائرات العسكرية، إضافة إلى مخازن للأسلحة، وتمتد منطقة نفوذ هذه المليشيات من مدينة السدادة شرقي مصراتة بحوالي 80 كيلو مترًا إلى مدخل العاصمة طرابلس، وتحديدًا مدينة القرابللي، ومن أبرز هذه المليشيات: مليشيات المرابطين، و166، والصمود، وحطين، وكتيبة المرسي، والصمود، و”مليشيات لواء المحجوب”، و”مليشيات القوة الثالثة”، و”مليشيات شريخان”، و”مليشيات طاجين”.
2- مجموعة الردع الخاص: تشكلت مليشيات الردع الخاص عام 2012 في طرابلس، وتعد الأكثر تسليحًا وعتادًا، وألحقت حكومة الوفاق السابقة هذه المليشيات بوزارة الداخلية ولاحقًا بالمجلس الرئاسي، وقوامها نحو 1500 مسلح، وتنشط شرقي العاصمة، ويقود هذه المليشيات عبد الرءوف كاره والذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع العديد من التنظيمات المسلحة الخارجية، وتتخذ هذه المليشيات من قاعدة معيتيقة مقرًا لها، فضلًا عن الانتشار في بعض مناطق طرابلس، كذلك تشرف “الردع الخاص” على سجن يقبع فيه بقايا رموز نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، أشهرهم عبد الله السنوسي مدير الاستخبارات السابق، وتورطت في تهريب السلاح والعناصر الإرهابية، وفق العديد من التقارير.
3- مليشيا دعم الاستقرار: تعد مليشيا “دعم الاستقرار” واحدة من أهم المليشيات الموجودة في منطقة غرب ليبيا، ويقود هذه المليشيا عبد الغني الككلي المعروف بـ”غنيوة”، وتفرض هذه المليشيا سيطرتها على أماكن متعددة من طرابلس، ووسعت مناطق نفوذها على حساب مليشيات أخرى كان لها صيت واسع، وعلى رأسها مليشيات “النواصي”، حتى أن قائدها عبد الغني الككلي، كان حاضرًا على طاولة اجتماعات رعتها الأمم المتحدة، للبحث في ملف تفكيك المليشيات ولجم تفلت السلاح، وأُنشِئت “دعم الاستقرار” بموجب قرار حكومي في يناير عام 2021، في خضم صراع رئيس حكومة الوفاق فايز السراج حينها مع وزير داخليته فتحي باشاغا، الذي كان مدعومًا بقوة من مليشيات مدينة مصراتة قبل أن تنقلب عليه رفضًا للقائه قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، ولعبت مليشيا “دعم الاستقرار” أدوارًا محورية في الفترات الأخيرة، كإحدى الأذرع العسكرية المهمة لـ “الدبيبة”، سواءً على مستوى دعم فرض بعض القرارات السياسية، أو مواجهة الخصوم، أو وأد أي تحركات احتجاجية ضد “الدبيبة”.
4- مليشيات “الأجهزة الأمنية”: تلجأ حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية إلى إطلاق لفظ “الأجهزة الأمنية” على بعض الهياكل والمليشيات المسلحة، في إشارة إلى «جهاز قوة الردع»، و«جهاز الأمن العام»، و«الشرطة القضائية»، و«جهاز دعم الاستقرار»، و«اللواء 444 قتال»، و«اللواء 111»، بالإضافة إلى «قوة دعم المديريات».
5- لواء النواصي: وهي تشكيلات مسلحة معروفة بـ”القوة الثامنة” وتضم إرهابيين غالبيتهم من الجماعة الليبية المقاتلة، تتبع وزارة الداخلية التابعة لحكومة الوحدة منتهية الولاية، وتلعب دورًا في تأمين مقارها وكانت تحرس مقر إقامة السراج خلال رئاسته للحكومة، ويقودها مصطفى قدور وهو ابن عم حافظ قدور المحافظ السابق للبنك المركزي الليبي.
6- كتيبة ثوار طرابلس: وهي مليشيات تتبع أيضًا وزارة الداخلية بحكومة الوحدة منتهية الولاية، وتتألف من نحو 1500 مسلح، وتركز على المواقع الحيوية شرقي طرابلس ووسطها، وبالإضافة لذلك تشهد هذه المنطقة انتشار عدد من المليشيات الأخرى منها أبوسليم، والقوة المتحركة جنزور، وفرسان جنزور، ومليشيا المدينة القديمة.
7- مليشيا الأمازيغ: وهي عبارة عن جماعات مسلحة ليس لها نفوذ خارج مناطقها، وقليلة العدد والعتاد كالتي توجد في الجبل الغربي، وأكبرها في مدن نالوت وجادو، بالإضافة لمدينة زوارة الساحلية القريبة من حدود تونس، ولم تدخل تحالفات حتى الآن، وأسلحتها خفيفة، وتطلق على نفسها “القوة الوطنية المتحركة”.
8- مليشيات الزاوية: وتقبع هذه المليشيات في مدينة الزاوية وشكلت تحالفًا كبيرًا بين مجموعات مسلحة أطلقوا عليه اسم “البحث الجنائي”، ضم مليشيا غرفة الثوار، والنصر، والفار، والأبح، والسلوقي والبيدجا، بالإضافة إلى مليشيا مدينة صبراتة بقيادة أحمد الدباشي.
9- مليشيات الإخوان المسلمين: وهي مجموعات مسلحة تتبع بشكل رئيسي تنظيم الإخوان في ليبيا، على غرار قوات فجر ليبيا، ومجلس شورى المجاهدين، وتتبع هذه المليشيات بشكل رئيسي حزب العدالة والبناء الإخواني في ليبيا، ويعد المفتي السابق الصادق الغرياني المرشد الروحي لها.
أبرز المليشيات في الغرب الليبي | حيثيات رئيسية |
مليشيات مصراتة | مجموعات تضم أكثر من 17 ألف مقاتل |
مجموعة الردع الخاص | قوامها نحو 1500 مقاتل |
مليشيات دعم الاستقرار | يقودها عبد الغني الككلي |
مجموعات “الأجهزة الأمنية” | المجموعات التي تم إلحاقها ببعض الأجهزة الأمنية |
لواء النواصي | يقودها مصطفى قدور وتتبع وزارة الداخلية بالحكومة منتهية الولاية |
كتيبة ثوار طرابلس | تتألف من نحو 1500 مقاتل |
مليشيات الأمازيغ | يتركز وجودها قرب حدود تونس |
مليشيات الزاوية | تحالف بين مجموعات مسلحة في مدينة الزاوية |
مليشيات الإخوان المسلمين | تتبع حزب العدالة والبناء الإخواني وشخصيات إخوانية أخرى |
لماذا تتجدد الاشتباكات المليشياوية في الغرب؟
لا يمكن مناقشة تجدد الأزمات الأمنية في الغرب الليبي بين الحين والآخر، دونما النظر إلى تنامي وطأة انتشار ونفوذ المليشيات في هذه المنطقة، بالإضافة إلى تنامي مصالحها السياسية والاقتصادية، والحسابات الخاصة بها، باعتبارها تحولت إلى طرف رئيسي فاعل في مشهد الغرب الليبي، ويمكن تناول أبرز أسباب تجدد الاشتباكات المليشياوية والأزمات الأمنية في الغرب الليبي، وذلك على النحو التالي:
1- صراع النفوذ بين المليشيات الغربية: يرتبط تجدد الاشتباكات التي تشهدها مناطق الغرب الليبي وطرابلس بين الحين والآخر في أحد أبعاده، بطبيعة العلاقات التنافسية بين المجموعات المسلحة المنتشرة في مناطق الغرب الليبي، ولعل الاشتباكات التي حدثت في أبريل 2021 بين “لواء النواصي” و”مجموعة الردع الخاص” تكشف عن هذا الاعتبار المهم، حيث اتهمت قوات “النواصي” مجموعة “الردع الخاص” بالسعي للسيطرة على كامل المناطق في طرابلس، واتهمت المجموعة بأنها “مليشيات فوق القانون” وأنها “حزب الله في ليبيا”.
وفي يونيو وأغسطس 2022 شهدت منطقة الشبيكة بمدينة العجيلات، غربي ليبيا، اشتباكات كبيرة عندما هاجمت مليشيا تابعة لمحمد بحرون، الملقّب بـ”الفار”، والمطلوب على ذمة قضايا إرهاب، تمركزات مليشيا عمار بلكور، للقبض على عدد من أفراد الأخيرة، ويعود الصراع بين المجموعتين إلى الخلافات حول مناطق النفوذ، حيث تسعى المجموعات المسلحة بمدينة الزاوية إلى مدّ سيطرتها إلى أماكن أخرى، ودخلت قبل ذلك في اشتباكات مع مليشيات في ورشفانة ومناطق أخرى بالغرب الليبي.
وفي ذات السياق كانت الاشتباكات المتجددة في الأشهر الأخيرة بين “قوات الردع الخاص” ومليشيات “دعم الاستقرار” و”اللواء 444 قتال”، ترتبط بصراع النفوذ والقوة بين هذه التشكيلات المسلحة، حيث يوجد حالة تنافسية بين هذه المليشيات تدفع باتجاه تجدد الاشتباكات بين الحين والآخر، خصوصًا مع سعي كل مجموعة إلى زيادة حجم المربع الأمني الذي تسيطر عليه على حساب المجموعات الأخرى.
2- إشكاليات محاولة “شرعنة” نشاط المليشيات: يتمثل الإشكال الأكبر في أزمة مليشيات الغرب الليبي، في سعي الحكومات المتعاقبة في هذا النطاق الجغرافي إلى تبني العديد من التحركات الإجرائية لشرعنة عمل ونشاط هذه المجموعات المسلحة، وهو ما تجسد بشكل واضح في إصدار رئيس حكومة الوفاق السابقة فايز السراج قرارًا بتبعية مليشيا “الردع الخاص” للمجلس الرئاسي، وكذا إلحاق مليشيا “دعم الاستقرار” بالمجلس الرئاسي، وإلحاق مجموعة “اللواء 444 قتال” بوزارة الدفاع، وهو الأمر الذي أفضى إلى العديد من الإشكالات؛ أولها: عدم وجود أي سلطة مركزية على عمل هذه المجموعات المسلحة بما يخلق حالة من الفوضى الأمنية، وثانيها: جعل مسئولية تأمين مناطق الغرب وخصوصًا العاصمة طرابلس مسئولية هذه المليشيات، وثالثها: ما مثلته هذه القرارات من ضوء أخضر بالنسبة لهذه المجموعات بأن تسعى لمحاولة توسيع رقعة وجودها، ورابعها: أن هذه القرارات تنسف مبدأ احتكار الدولة للسلاح، وفي المقابل تجعل من الوجود المليشياوي أمرًا واقعًا، وخامسها: أنه بموجب هذه القرارات بات يوجد دعم واضح من الحكومة منتهية الولاية لهذه المجموعات خصوصًا على مستوى توفير ميزانيات خاصة بها ودعم لوجستي كبير.
3- عدم القدرة على السيطرة على المليشيات: كشفت الاشتباكات المتكررة والمتجددة في مناطق الغرب الليبي والعاصمة طرابلس، عن بعض الفرضيات المهمة، وعلى رأسها تنامي وطأة ونفوذ المجموعات المسلحة المنتشرة في الغرب الليبي، جنبًا إلى جنب مع عدم قدرة حكومة الوحدة منتهية الولاية على السيطرة على هذه المليشيات، بما يعزز من حالة الانفلات الأمني في الغرب، وعدم القدرة على فرض السيطرة على هذه المناطق، وليس من قبيل المبالغة القول إن توازنات القوة في الغرب الليبي باتت في صالح هذه المليشيات في مواجهة الأجهزة الأمنية التي يُفترض أنها تتبع الحكومة منتهية الولاية.
4- سعي المليشيات للحفاظ على مصالحها الاقتصادية: اعتمدت المجموعات المسلحة غير النظامية المنتشرة في مختلف مناطق الغرب الليبي في إطار تعزيز نفوذها على بناء شبكة من المصالح الاقتصادية التي تضمن تعزيز قوتها التنظيمية وتخدم أهداف تعزيز نفوذها على كافة المستويات، خصوصًا تلك الأنشطة التي تتقاطع والجريمة المنظمة على غرار الاتجار بالبشر، تهريب الوقود، بالإضافة إلى شبكات معقدة وواسعة من الأعمال والتجارة، حتى أن العديد من التقارير الدولية تتحدث عن أن معبر رأس جدير الذي يربط تونس بليبيا، يتم إدارته من الناحية الليبية من قبل مجموعات مسلحة غير نظامية، وهو الأمر الذي تستفيد منه هذه المجموعات في الحصول على موارد مالية كبيرة، من خلال سياسة فرض الإتاوات والضرائب على المسافرين، أو من خلال عمليات التهريب التي تتم من خلال المعبر، وفي سبيل الحفاظ على هذه الموارد الاقتصادية، وفي إطار التنافس عليها، تتجدد الاشتباكات بين الحين والآخر بين العديد من المكونات المسلحة في منطقة الغرب الليبي.
5- الخلافات بين حكومة “الدبيبة” والمليشيات: برزت العديد من المؤشرات في الآونة الأخيرة والتي عبرت بشكل واضح عن وجود تباينات وخلافات كبيرة بين الحكومة منتهية الولاية بقيادة “الدبيبة” وبين المجموعات المليشياوية المنتشرة في الغرب الليبي، ومن هذه المؤشرات ما أُثير عن رفض بعض المليشيات لقرار بتعين قائد اللواء 444 قتال محمود حمزة كمدير للاستخبارات العسكرية، وحديث تقارير عن رفض رئيس جهاز الردع عبد الرءوف كاره للعديد من قرارات “الدبيبة”، ومؤخرًا إعلان عماد الطرابلسي، وزير الداخلية المكلف بحكومة الوحدة منتهية الولاية، عن التوجه نحو “إخلاء العاصمة بالكامل من جميع التشكيلات المسلحة”، ما عبّر جليًّا عن وصول الخلافات بين الجانبين إلى ذروتها.
ويبدو أن هذه الخلافات بين حكومة “الدبيبة” من جانب وهذه المجموعات من جانب آخر، تُفضي إلى حالة من الفوضى والاضطراب الأمني في الغرب الليبي، وهو الأمر الذي يتجسد بشكل واضح في الاشتباكات المتكررة بين هذه المليشيات، وكذا استهداف بعض الفاعلين السياسيين في الغرب وعودة “سياسة الاغتيالات” إلى الواجهة مرة أخرى، وحتى وإن تبنت حكومة “الدبيبة” مؤخرًا توجهًا يقوم على ترحيل هذه المجموعات عن طرابلس، إلا أن الواقع العملي يؤكد صعوبة ذلك، وذلك في ضوء تنامي نفوذ هذه المجموعات سياسيًا وأمنيًا، وصراع الأجندات والمصالح داخل الغرب الليبي، واستقواء بعض الأطراف بهذه المجموعات المسلحة.
ختامًا، يمكن القول إن الاشتباكات المتجددة التي تشهدها مناطق الغرب الليبي والعاصمة طرابلس، تعبر بشكل واضح عن صراع مليشياوي كبير، يرتبط بشكل رئيسي بمعركة تعزيز النفوذ والإطار التنافسي الذي يحكم علاقات هذه المجموعات بعضها ببعض، لكن أخطر ما في هذه التطورات يرتبط بتداعياتها على الحالة الأمنية في الغرب الليبي، وكذا انعكاساتها على مسار تسوية الأزمة الليبية، إذ إن هذه الأوضاع تعطل هذا المسار، وكذا تعيق أي مقترحات خاصة بتوحيد المؤسسات الأمنية الليبية، فضلًا عما تفرضه من تحديات أمنية على دول الجوار.