شهدت التجارة العالمية خلال عام 2023 أول انكماش منذ انتشار جائحة كورونا عام 2020 نتيجة لتتابع الأزمات الاقتصادية التي ألقت بظلالها على سلاسل الإمداد والتوريد وقطاع الشحن العالمي، ووفقًا لأحدث تقارير منظمة التجارة العالمية، فإن أحجام التجارة قد تراجعت بنسبة 1.2% خلال عام 2023 مقارنة بتوقعات المنظمة الصادرة في أكتوبر بحدوث نمو قدره 0.8%.
عوامل مُفسرة
تراجعت التجارة السلعية العالمية بنسبة 5% خلال عام 2023 إلى 24.01 تريليون دولار، مقابل ارتفاع قيمة التجارة العالمية للخدمات بنسبة 9% إلى 7.54 تريليون دولار مع توقعات بمواصلة النمو خلال عام 2024 خصوصًا في قطاعي السياحة والنقل تزامنًا مع دورة الألعاب الأولمبية في باريس وبطولة أمم أوروبا لكرة القدم. ومن ناحية أخرى، بلغت الصادرات العالمية من الخدمات المقدمة رقميًا نحو 4.25 تريليون دولار في عام 2023، بزيادة تبلغ 9% على أساس سنوي. ويوضح الشكل التالي معدلات نمو التجارة العالمية منذ 2018 حتى 2025.
الشكل 1- معدل نمو التجارة العالمية (%)
يتبين من الشكل أعلاه أن التجارة العالمية شهدت انكماشًا بنسبة 1.2% عام 2023 مقابل 5% عام 2020، ويُمكن تفسير تراجع حجم التجارة السلعية بالعوامل الآتية:
1. تراكم الأزمات العالمية: تعرض الاقتصاد العالمي لعدة صدمات متتالية في السنوات الأخيرة بالتزامن مع تصاعد التوترات الجيوسياسية في عدد من المناطق، مما ساهم في تشكيك بعض الحكومات حول العالم في فوائد الانفتاح التجاري والعولمة الاقتصادية ودفعها إلى اتخاذ خطوات حقيقية لدعم الإنتاج المحلي وإعادة تحويل التجارة نحو الدول الصديقة مع تحويل سلاسل التوريد إلى المحيط الإقليمي، وهو الأمر الذي أثر على أحجام التجارة العالمية في نهاية المطاف.
وتُعد أزمة الملاحة في البحر الأحمر أحدث الأزمات التي شهدها قطاع التجارة العالمي نظرًا لكونه طريق بحري محوري للتجارة الدولية، ولهذا، تزعزع استقرار التجارة العالمية نتيجة للهجمات الحوثية على السفن التجارية في البحر الأحمر وخليج عدن، التي بدأت في 19 نوفمبر 2023، في ظل انخفاض حركة الشحن في البحر الأحمر مع تحويل مسار السفن إلى رأس الرجاء الصالح مما أدى إلى تراجع متوسط عدد الرحلات الأسبوعية المارة بقناة السويس على أساس سنوي بأكثر من 45% خلال فبراير 2024، وتراجع حجم الشحنات عبر قناة السويس (بالأطنان) بنسبة 54% خلال نفس الشهر، إلى جانب تمديد وقت الرحلات إلى 25 يومًا، وارتفاع أسعار الشحن وأقساط التأمين، وتكدس الموانئ، وإغلاق بعض مصانع السيارات مؤقتًا بسبب تأخر الشحن.
2. ارتفاع تكلفة الشحن: يؤثر الارتفاع في تكلفة الشحن بشكل مباشر على أحجام التجارة العالمية، ومنذ أواخر عام 2023، شهدت تكلفة الشحن البحري ارتفاعات متتالية ليس فقط بسبب أزمة البحر الأحمر ولكن بسبب جفاف قناة بنما، واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية، والظواهر المناخية المتطرفة حيث يركز تقرير المخاطر العالمية لعام 2024 والصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي على أن المخاطر البيئية هي الخطر الأكبر الذي يواجه العالم على المدى الطويل (10 أعوام)، بما يؤثر على حركة الملاحة العالمية. وبناء على العوامل سالفة الذكر، شهدت أسعار الشحن من آسيا إلى أوروبا زيادة تبلغ 270% خلال فبراير 2024 مقارنة بفبراير 2023، فيما ارتفعت تكلفة الشحن من آسيا إلى أمريكا الشمالية بنسبة 240% خلال الفترة ذاتها.
3. الموجة التضخمية: شهد الاقتصاد العالمي موجة تضخمية حادة بداية من عام 2021 نتيجة التعافي السريع من تداعيات جائحة كورونا، لتفاقمها الحرب الأوكرانية وما خلفها من اضطرابات حادة في سلاسل الإمداد والتوريد، ورغم تراجع أسعار بعض السلع الأساسية مقارنة بالذروة التي بلغتها في النصف الثاني من عام 2022، إلا إنها لا تزال أعلى من المستويات المسجلة قبل جائحة كورونا. فعلى سبيل المثال، انخفضت أسعار الطاقة العالمية خلال أول شهرين من عام 2024 بنسبة 41% مقارنة بعام 2022، لكنها لا تزال أعلى بنسبة 30% مقارنة بعام 2019، وكذلك الحال بالنسبة لأسعار الموارد الغذائية والحبوب والأسمدة التي لا تزال أعلى من مستويات عام 2019 بنسبة 35%، و45%، و44% على الترتيب.
وكان لمعدلات التضخم المرتفعة بالغ التأثير على أنماط التجارة العالمية وتوزيعها الجغرافي، نظرًا لتأثيره على تراجع معدلات الاستهلاك الخاص بسبب تراجع الدخل الحقيقي، وتآكل القوة الشرائية للنقود، وتراجع سعر الصرف، وهي أمور تؤثر جميعها بالسلب على قيمة الواردات السلعية.
4. السياسة النقدية التشددية: قامت البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة منذ بداية عام 2022 برفع أسعار الفائدة لتخفيف الضغوط التضخمية التي أدت إلى تآكل الدخل وانخفاض استهلاك السلع، بما في ذلك السلع المستوردة، حيث ارتفعت أسعار الفائدة في الولايات المتحدة من 0.1% في فبراير 2022 إلى 5.4% في أغسطس 2023، وبالمثل، ارتفعت أسعار الفائدة في منطقة اليورو من 0% في يونيو 2022 إلى 4.5% في أكتوبر 2023، كما قامت البنوك المركزية في العديد من الاقتصادات النامية برفع أسعار الفائدة إلى أعلى مستوياتها منذ سنوات. ومن شأن ارتفاع أسعار الفائدة أن تؤثر سلبًا على أنشطة الأعمال التجارة وقدرتها على الإنفاق على الواردات.
5. تباين معدلات نمو التجارة إقليميًا: جاء الانكماش في التجارة العالمية بنسبة 1.2% في عام 2023 مدفوعًا في المقام الأول بأوروبا، حيث انخفض الطلب على الواردات بشكل حاد في أوروبا، وانخفض في أمريكا الشمالية، وظل ثابتا في آسيا، وزاد في الاقتصادات الرئيسية المصدرة للوقود، وأدى ضعف الطلب إلى انخفاض حجم الصادرات في أوروبا ومنع حدوث انتعاش أقوى في آسيا، في حين كانت الصورة في مناطق أخرى متباينة. وقاد انخفاض التصدير روسيا، التي انخفضت صادراتها بنسبة 28%، وكذلك الاقتصادات الآسيوية الموجهة نحو التصنيع، بما في ذلك الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ويُبين الشكل أدناه التباين الإقليمي الملحوظ في نمو التجارة.
الشكل 2- نسبة نمو الصادرات وفقًا للمناطق الجغرافية
يوضح الشكل أعلاه نسب التغير في الطلب على الصادرات وفقًا للمناطق الجغرافية؛ إذ ارتفعت في أمريكا الشمالية والجنوبية بنسبة 3.7%، و1.9% على الترتيب، فيما تراجعت في أوروبا ورابطة الدول المستقلة والشرق الأوسط بنسبة 2.6%، و6.2%، و1.6% على التوالي.
مخاطر مستقبلية
تتوقع منظمة التجارة العالمية نمو حجم التجارة السلعية العالمية بنسبة 2.6% خلال عام 2024، و3.3% خلال عام 2025، بدعم من تحسن البيئة التجارية العالمية، ومع نمو الصادرات الأفريقية بوتيرة أسرع من باقي القارات تبلغ 5.3% خلال عام 2024 مقارنة بنحو 3.1% خلال عام 2023، فيما ستشهد أمريكا الشمالية والشرق الأوسط وآسيا نموًا معتدلًا في الصادرات يتجاوز مستوى 3%، كما يُبين الشكل 2، فيما ستتخلف أوروبا عن الركب بنمو متواضع يصل إلى 1.7% في 2024. ورغم التوقعات الإيجابية للتجارة العالمية إلا أن هناك عدد من المخاوف تحيط بالمشهد الاقتصادي العالمي من الممكن أن تؤثر على تلك التوقعات، من أبرزها ما يلي:
1. استمرار التوترات الجيوسياسية: لا تزال الاضطرابات الجيوسياسية تهيمن على المشهد العالمي، سواء من ناحية استمرار الحرب الأوكرانية منذ فبراير 2022 وحتى اللحظة الراهنة، أو من ناحية استمرار الحرب في غزة وما صحبها من تصعيد هجمات الحوثيين في البحر الأحمر منذ نوفمبر 2023 أو الضربة الإيرانية ضد إسرائيل في أبريل 2024. وتنذر تلك التوترات بإمكانية توجيه ضربة جديدة للاقتصاد العالمي وتعيد إشعال الضغوط التضخمية من جديد وخاصة السلع الغذائية، والتي يُمكن اعتبارها ذات حساسية شديدة لأي اضطرابات جيوسياسية مما قد يقلل من احتمالية حدوث أي انتعاش في النشاط التجاري.
2. الحمائية الغذائية: عادةً ما يتزامن ظهور مفهوم “القومية الغذائية” مع الأزمات والكوارث الطبيعية التي تؤثر على إنتاج المحاصيل الزراعية وعلى مستويات أسعارها، مما يحفز الحكومات المختلفة حول العالم إلى الانغلاق على ذاتها، وإعطاء الأولوية لشعوبها دون أخذ انعكاسات تلك القرارات على الاقتصاد العالمي في الاعتبار، وقد تزايد هذا الاتجاه منذ بدء الحرب الأوكرانية التي أطلقت العنان لموجة جديدة من السياسات الحمائية الناتجة عبر إقامة حواجز تجارية لتقييد الصادرات الغذائية أو حظرها بشكل كامل. ومن شأن استمرار اتباع السياسات الحمائية أن تؤثر على أنماط التجارة العالمية.
3. تراجع احتمالية خفض الفائدة: بدأت إمكانية خفض الفائدة على المستوى العالمي في التلاشي، ولاسيما بعد تصريحات رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي “جيروم باول” مارس 2024 بأن التراجع المستمر في التضخم ليس مضمونًا، فيما توقع بنك “يو بي إس” رفع الفيدرالي للفائدة بدلًا من خفضها في ظل النمو القوي في الولايات المتحدة بالتزامن مع التضخم المستمر، فيما عدل بنك “جولدمان ساكس” توقعاته فيما يتعلق بقرار خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة من مارس إلى مايو، وذلك بعد تثبيتها للاجتماع الرابع على التوالي.
4. ارتفاع الدين العام العالمي: يعتبر تصاعد الدين العام وخدمة الدين بمثابة تهديد غير مباشر لانتعاش التجارة العالمية حيث إن نموه سيؤدي إلى تآكل أرصدة الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية لدى الدول وخاصة النامية، مما قد يقلل من قدرتها على تأمين احتياجاتها من الواردات.
وكان معهد التمويل الدولي قد أعلن أن مستويات الدين العالمية بلغت مستوى قياسيًا جديدًا قدره 313 تريليون دولار في عام 2023، مع وصول الاقتصادات النامية إلى ذروة جديدة فيما يتعلق بنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وخلال الربع الأخير من عام 2023 وحده ارتفع الدين العالمي بأكثر من 15 تريليون دولار على أساس سنوي.
ختامًا، يتبين من التحليل السابق أن ضبابية المشهد الاقتصادي العالمي تحيط بتوقعات منظمة التجارة العالمية خلال العام الحالي 2024 والمقبل 2025 مع تباينها تبعًا للمناطق الجغرافية، وذلك عقب انخفاض أحجام التجارة السلعية خلال 2023 بسبب التوترات الجيوسياسية المستمرة منذ سنوات، إلى جانب ارتفاع التضخم وتشدد السياسة النقدية، واضطرابات الملاحة في البحر الأحمر وما صاحبها من ارتفاع في تكلفة الشحن.