تعد صناعة السمعة من أقدم الصناعات التي عرفها البشر، وظهرت براعتهم في هذه الصناعة واعتمادهم عليها لدرجة وصلت إلى إسهامها المسجل تاريخيًا وتدوين أثرها على مجريات السياسة وحياة البشر في ملحمة فرجيل الشعرية، الإنيادة، التي خطها في القرن الأول قبل الميلاد، عبر أعمال الإلهة Pheme أو Fama، إلهة الشائعات والتقارير والنميمة. ثم جاء ويليام شكسبير قبل أكثر من 400 عام ليجسد الشائعة في شخصيته نصف الأسطورية Rumor بمسرحية هنري السادس بسطوته على الأحداث عبر التضليل واستخدام المعلومات ونشر التقارير المزيفة.
ومع التطور الذي واكب حياة البشر، بسطت Fama جناحيها ووصل صوت بوقها إلى كافة أرجاء المعمورة وتوغل في كل نواحي الحياة ليرفع من سمعة أشخاص وعلامات تجارية ويهبط بأخرى عبر ممارسات مهنية تعتمد على النظريات الأكاديمية تارة، ومن خلال حملات تشويه ودعاية سوداء مغرضة تارة أخرى.
ومع ميل الطبيعة الإنسانية للشك، تلعب الشائعة والتقارير المزيفة دورًا كبيرًا في صياغة الخيوط الأساسية للسمعة وخاصة في زمن انتشار الكلمة لحظيًا بين ملايين البشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تفوقت على وسائل الإعلام كروافد تقليدية لاستقاء المعلومات وترويج السمعة بين الجماهير المستهدفة.
واستنادًا إلى نظرية “حارس البوابة”، فإن مرحلة تحول المعلومة أو الحدث إلى خبر أو مادة للإخبار تعد بمثابة عملية حراسة يقوم على نقلها حارس، وقد يقوم هذا الحارس، بتعمد أو دون وعي، بحجب بعض التفاصيل أو نقل المعلومة بشكل مغاير أو مجتزأ، أو حتى مغلوط تبعًا لشخصيته وميوله وانتماءاته. وطالما تم اعتبار أهل الصحافة والإعلام حراسًا للبوابة قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وعلو درجة تأثيرها.
أما الآن فقد انتقلت سطوة “حارس البوابة” من أيدي فئة محددة تسيطر على وتيرة واتساع نطاق نشر المعلومات وقدرتها على التأثير إلى فضاءات فسيحة يلعب فيها العامة دورًا ملحوظًا واكتسب فيها “المؤثرون” و”الإنفلونسرز” أرضًا وشهرة وقيمة باتت تتحدد تبعًا لأذواق، وأخلاقيات، وميول المتابعين من مئات الملايين على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتراجع تأثير وسائل الإعلام التقليدية وتشاركت عرش “الإخبار” والسبق والتحليل المتعمق مع التجارب الحياتية للعامة وانطباعاتهم وخبراتهم وكلماتهم المحكومة بعدد محدد من الحروف وسط أزمات اقتصادية ضربت ثلة معتبرة من وسائل الإعلام التقليدية العالمية وجنوح الجماهير الى التعامل بشكل واضح الى التعامل مع الأخبار كالوجبات السريعة.
وفي هذا السياق، أصبحت صناعة السمعة ومهمة تشكيل الوعي الجمعي بيد كل من يمتلك حسابًا على وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأت وسائل الإعلام التقليدية في اللهاث خلف ما ينتشر من قصص وأحداث وتجارب وانطباعات العامة على هذه الوسائل من باب توفير منتج صحفي سريع يحظى بالمتابعة من ناحية وتقليل الجهد المبذول في صناعة الأخبار والتقارير من ناحية أخرى.
واكتسب الافتراضيون أرضيتهم عبر المنصات المختلفة، وذاع صيت كلماتهم التي أضفت الحالة الاقتصادية على بعضها مصداقية وخاصة مع عدم قدرة الإعلام التقليدي على تقديم محتوى مختلف جاذب ويحظى بالمتابعة وسط حالة من الضجر الجمعي والاستسلام للتشاؤم والميل لكل ما هو سلبي.
تزييف السمعة
ومع نهج واضح لخلق ونشر الشائعات، التي وصلت في الأشهر الثلاثة الأولى من 2024 إلى أكثر من 20 ألف شائعة و90 ألف شائعة في 2023، يتضح أن هناك سمتًا مميزًا لعملية صناعة السمعة في مصر. فمنذ 2014، اعتمد نهج الأطراف المعادية (داخليًا وخارجيًا) على تمهيد الأرض وترسيخ مفاهيم بعينها في أذهان العامة تصب في زعزعة الثقة، وخلق حالة من الاحتقان، ونشر الإحباط، والتشكيك في كثير من الإنجازات المهمة بالشكل الذي يسمح بالبناء على هذه الحالة بأقل مجهود وخاصة مع الأزمة الاقتصادية منذ عام 2022.
ومن بين هذه المفاهيم التي تحولت إلى ما يشبه حقائق ومسلمات في أنظار قطاعات وفئات مجتمعية مختلفة وباتت جزءًا لا يتجزأ من النقاشات العامة اليومية للمصريين، أن الحكومة عاجزة عن تحديد أولويات رشيدة للإنفاق، وأن هناك عدم جدوى للكثير من المشروعات التي تتم دون دراسات جدوى، وأن الديون تم استخدامها لتمويل مشروعات خاسرة.
ونجح النهج في إلصاق هذه السمعة بالحكومة المصرية وتحول الأمر برمته من رقعة النقاش العقلاني إلى محاولات مستميتة للإبقاء على هذه السمعة من جانب، ومحاولات أخرى أقل تأثيرًا لنفيها دون التفات كبير لعدة عوامل، يتعين وضعها في الاعتبار، على رأسها:
- أثر الضغوط الخارجية والأزمات الدولية والإقليمية شبه المستمرة منذ جائحة كورونا على الحالة الاقتصادية ومحاولات جذب الاستثمارات المباشرة وتوطين الصناعات.
- كلفة التنمية الشاملة والاستثمار في البنية التحتية لتحسين مؤشرات الدولة وجاذبيتها من ناحية، وخلق فرص العمل وتشغيل القطاعات المختلفة من ناحية أخرى.
- قدرة الاقتصاد المصري على مواجهتها تبعًا لمحددات عقلانية لقدرات الدولة وأولوياتها المختلفة.
- الأخطاء الاقتصادية التي من الوارد حدوثها في أي دولة تقوم بهذا الكم من المشروعات وبهذا التنوع في إطار تنمية شاملة تستهدف كافة القطاعات والمناطق الجغرافية بوتيرة مختلفة تبعًا للأولويات.
- فهم لحجم التحديات وتقدير واقعي للموارد التي تحد من قدرة الدولة على مواجهة كل الملفات في توقيت واحد وبالكفاءة والسرعة نفسيهما.
- استيعاب تشابك خيوط العديد من القضايا بما يؤثر على القرارات وتوقيت اتخاذها مع فهم الإرث الذي يكبل العمل الحكومي من بيروقراطية وتعقيدات إجرائية وقانونية.
- فهم لطبيعة عمل الدولة التي قد تستدعي في أحيان كثيرة عدم الكشف عن كل المعلومات المتعلقة بقضايا معينة درءًا لنتائج أو آثار سلبية وكما هو متعارف عليه، وخاصة فيما يتصل بالعلاقات الدولية.
وحتى يحدث تغيير حقيقي وجاد في محاولات تغيير هذه السمعة، يجب أن ينتهج الإعلام نهجًا أكثر عمقًا في معالجة أزمة الصورة الذهنية الناجمة عن هذه السمعة. ومع فهم كلفة هذا التغيير من موارد واستثمار ووقت وجهد، إلا أن الاتفاق على أبعاد هذا التغيير يبدو أولى الخطوات الحتمية الواجب اتخاذها. كما أن هناك ضرورة إلى التنسيق بشكل أكبر بين مختلف الأذرع الإعلامية، وتفاعلًا أكبر مع المواطنين فيما يتصل بالخدمات الجماهيرية، وترجمة التطورات الإيجابية بمعالجة أكثر عمقًا وإبداعًا
أخيرا، فإن تغيير الصورة الذهنية المرتبطة بسمعة ما يعد أكثر تعقيدًا من صناعة السمعة ذاتها وخاصة في أوقات الأزمات التي يتعين الاستعداد لها بشكل سابق ومن خلال آليات تستند في أساسها على السرعة، والمعلومات، والدقة، وتحديد الأدوار، والمواجهة المباشرة، وتحمل المسئولية.
كما أن صناعة السمعة هي استثمار طويل الأمد يتطلب وقتًا ومجهودًا وموارد، ويضع في الاعتبار التقلبات والأزمات المختلفة ويتوقعها ويعمل على تقليل آثارها، لكنه في النهاية استثمار الواعي الذي يعرف أن المصداقية هي أفضل عائد على الاستثمار وسط ضجيج من يرغبون في تحقيق مكاسب سريعة وخاصة لو كانت في عالم افتراضي.