عقب عقود من حرب الظل الدائرة بين إسرائيل وإيران، سرعان ما تطور الصراع بين البلدين إلى حرب معلنة ، إثر توجيه طهران أول هجوم عسكري مباشر على الأراضي الإسرائيلية في 14 أبريل 2024 من الأراضي الإيرانية، وبالتوازي مع توجيه ضربات من الساحات العراقية والسورية واليمنية واللبنانية، وذلك على وقع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والاستهدافات الإسرائيلية لقيادات عسكرية إيرانية في سوريا ولبنان، إلى جانب توجيه ضربات عسكرية لتدمير البنية التحتية لوكلاء طهران الإقليميين في لبنان وسوريا. وفي ضوء أن الهجوم الإيراني لم يُسفر عن خسائر فادحة لتل أبيب، إلى جانب تباين ردود الفعل والتفاعلات حول الضربة الإيرانية ما بين داعم ومنتقد، ثار تساؤل رئيسي مفاداه؛ كيف أثرت الضربة الإيرانية على تل أبيب على الصورة الذهنية لطهران؟، تسعى الدراسة للإجابة عليه من خلال تناول حدود الضربة الإيرانية وما حملته من دلالات، والتي بموجبها تناقش الدراسة انعكاسات الضربة على الصورة الذهنية لطهران.
انطلاقاً مما سبق، تهدف الدراسة لتناول تفاصيل الضربة الإيرانية وما حملته من دلالات، ثم مناقشة انعكاسات الضربة الإيرانية على الصورة الذهنية لطهران، وذلك من خلال تناول اتجاهات تفاعل المغردون على مواقع التواصل الاجتماعي مع الضربة الإيرانية، والقراءات المتباينة الغربية والإسرائيلية وكذلك الإيرانية للضربة الإيرانية، والتي هدفت من خلالها لإعادة رسم الصورة الذهنية لطهران في العقل الجمعي، وذلك على النحو التالي:
أولاً: الوعد الصادق.. دلالات الضربة الإيرانية على تل أبيب
عقب استهداف طائرات مجهولة – يُرجح أنها طائرات إسرائيلية، حيث اعتادت تل أبيب على تنفيذ ضربات عسكرية لتمركزات تابعة لوكلاء طهران في سوريا منذ العام 2011- القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من أبريل، مما اسفر عنها مقتل 7 قادة عسكريين من الحرس الثوري الإسلامي، أبرزهم محمد رضا زاهدي، ثاني أعلى رتبة عسكرية في فيلق القدس، ومساعده العميد محمد هادي حاجي رحيمي، إلى جانب 5 مستشارين عسكريين إيرانيين آخريين في تصعيد هو الأول من نوعه بين طهران وإيران، سادت حالتي من الترقب والقلق في الساحة الدولية حول حدود ومستوى الرد الإيراني على استهداف القنصلية الإيرانية ، إلى أن نفذت طهران أولى ضرباتها داخل الأراضي الإسرائيلية في 14 أبريل 2024 أُطلق عليها ” الوعد الصادق”.
ولقد نُفذت الضربة الإيرانية “الوعد الصادق” عبر إطلاق طهران أكثر من 300 صاروخ باليستي وكروز وطائرة غير مأهولة (درونز)، شملت نحو 170 طائرة غير مأهولة وأكثر من 30 صاروخ كروز وأكثر من 120 صاروخًا باليستيًا، أطلقت من عدة مناطق إيرانية، ككرمنشاه ودوكوهه في غرب إيران، ومن مواقع شمال وشمال غرب إيران، وتحديدًا أصفهان وشيراز وكرمانشاه وقزوين وسربول ذهب وتبريز، بينما يُعد معسكر “أمير المؤمنين” جنوب غرب طهران، هو مركز عمليات الإطلاق، كما ضمت مراكز الإطلاق الساحات العراقية والسورية واللبنانية واليمنية، تمكنت المنظومات الدفاعية الإسرائيلية وحلفاءها من اعتراض نحو 99% منها، حيث تم تدمير كافة الدرونز وغالبية الصواريخ قبل وصولها الأراضي الإسرائيلية وأن العدد القليل من الصواريخ التي تمكنت من اختراق المجال الجوى الإسرائيلي لم تُسفر سوى عن أضرار طفيفة.
فعلى نحو تفصيلي، تعرضت قاعدة “نيفاتيم” الجوية، لأضرار متوسطة، كما تعرضت قاعدة “رامون” الجوية في النقب، لعدد من الصواريخ لكن لم تُلحق بها أي أضرار، في ظل وجود ترجيحات بسقوط هذه الصواريخ في مناطق أخرى بالقرب من مدينة بئر السبع وفي النقب، كما أُصيب نحو 12 شخصًا من بينهم فتاة تبلغ من العمر 7 سنوات إصابات طفيفة، وفقًا للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، الأدميرال دانييل هاغاري. ومن ثم، يُمكن القول بأن الضربة الإيرانية كانت أقرب للحفاظ “على ماء الوجه” الإيراني، منها لردع تل أبيب عن تنفيذ ضربات مماثلة لاستهداف القنصلية الإيرانية وتصفية عدد من القادة العسكريين الإيرانيين، وهو يُستدل عليه كالتالي :
1- اخطار إيراني مسبق باستهداف الأراضي الإسرائيلية في ضربة محدودة النطاق: أفادت أنباء عدة بأن بعض الدول كانت على علم مُسبق بالضربة الإيرانية، بعدما أوضح مصدر دبلوماسي تركي أن طهران أبلغت تركيا مسبقا بعمليتها ضد إسرائيل، كما أبلغت واشنطن بأن الهجوم يأتي فقط رداً على ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق ولن يتجاوز هذا النطاق، وهو ما ردت عليه واشنطن قائلة :”أن الضربة يجب أن تكون ضمن حدود معينة”، مُضيفة على لسان مستشار اتصالات الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي أن “الولايات المتحدة لا تريد تصعيدا للأزمة في الشرق الأوسط، ولا تسعى إلى حرب أكثر اتساعا مع إيران”.
ومن ثم افتقدت الضربة الإيرانية إلى عنصر المفاجأة، ليس لبعد المسافاة بين تل أبيب ومراكز إطلاق الصواريخ والدرونز الإيرانية من الساحات الإيرانية و العراقية واللبنانية واليمنية، وإنما لعدة أسباب، منها؛ إعلان الحرس الثوري عن الخطة المركبة للضربة بكون المسيرات سوف تتبع بصواريخ باليستية في اللحظات الأخيرة، والتي يستغرق وصولها الأهداف الإسرائيلية عدة ساعات، وهو ما حدث بالفعل، وهو ما قابله حالة من الاستنفار الإسرائيلي على كافة المستويات؛ حيث قامت تل أبيب بفتح الملاجئ في مدينة حيفا شمال إسرائيل وحظر التجمعات العامة لما يزيد عن ألف شخص، وغلق مجالها الجوي، ناهيك عن تفعيل منظومتها الدفاعية، بالإضافة إلى الإعلان الأمريكي المسبق عن موعد الضربة في الليلة نفسها وعقد الرئيس الأمريكي جو بايدن اجتماع عاجل مع فريق الأمن القومي الأمريكي لبحث الأوضاع فى الشرق الأوسط وما لذلك من دلاله عن كون الاجتماع لمتابعة تفاصيل الضربة الإيرانية.
2- عدم وقوع أية خسائر مادية أو بشرية إسرائيلية إثر الضربة الإيرانية: يتضح من رصد نتائج الضربة الإيرانية وما سببته من خسائر مادية أو بشرية، مقارنةً بالضربة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق مثلما سبق الإشارة، يتضح أن الضربة الإيرانية لم تكن على المستوى المتوقع رداً على مقتل عدد من القادة العسكريين الإيرانيين واستهداف القنصلية الإيرانية في تصعيد هو الأول من نوعه في الصراع الإيراني الإسرائيلي، كما أنها لم تسفر عن خسائر تتسق مع اللهجة التصعيدية للقادة السياسيين والعسكريين الإيرانيين رداً على مقتل عسكريين إيرانيين واستهداف القنصلية الإيرانية؛ حيث قال المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي ” إن إسرائيل ستعاقب على الهجوم”، في حين قال الرئيس إبراهيم رئيسي إن الهجوم “لن يمر دون رد”، بينما علقت جماعة حزب الله اللبنانية المدعومة من إيران بأن الضربة ستقابل “بالعقاب والانتقام”.
ومن ثم، يتضح أن الضربة الإيرانية كانت تبعث برسائل سياسية أكثر من كونها ضربة عسكرية تهدف لإلحاق الجانب الإسرائيلي بخسائر تناظر في أقل التقديرات ما سببته الضربة الإسرائيلية للقنصلية الإيرانية من أضرار وخسائر، أولها؛ البعث برسالة لإسرائيل وحلفاءها بحدود وقدرات طهران العسكرية وما تمتلكه من إمكانيات للوصول إلى أبعد نقطة على الأراضي الإسرائيلية، مع استعراض أدواتها العسكرية، مثلما ورد في تعليق طهران على الضربة بالقول إنها “محدودة وبسيطة” لكنها أظهرت تنوع ترسانتها باستخدام نواقل هجومية متعددة، ناهيك عن أن الضربة جاءت لاحتواء الغضب الشعبي الإيراني، ولامتصاص أية محاولات من قبل المعارضة الإيرانية لتوظيف استهداف القنصلية الإيرانية ومقتل عدد من قادتها العسكريين، لإبراز ضعف النظام الإيراني، بالإضافة إلى تجنب طهران وضع تل أبيب أمام خيار الرد الواسع والوحشي للرد على الضربة الإيرانية.
وبالفعل وفي فجر يوم 19 أبريل، شنت إسرائيل- دون الإعلان عن مسؤوليتها عن الضربة- هجوما جويا محدود النطاق على الأراضي الإيرانية عبر صواريخ وطائرات غير مأهولة، استهدفت موقع بالقرب من مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية العسكرية، حيث يتمركز فيها نظام الرادار التابع لمنظومة صواريخ “إس-300” الدفاعية التي حصلت عليها إيران من روسيا، والتي لم تُسفر سوى عن خسائر طفيفة، بما يكشف عن أن الهدف الإسرائيلي من تنفيذ الهجوم يتمثل في البعث برسالة سياسية ضمنية لطهران مفاداها بأن تل أبيب قادرة على تنفيذ ضربات في قلب طهران ولمواقع حساسة وبدقة شديدة، وأنها لا تسعى نحو تصعيد الوضع، استجابة للضغوط الأمريكية والغربية. في المقابل، حاولت طهران توظيف عدم الإعلان الإسرائيلي عن تنفيذ الهجوم في تمرير روايتها القائلة بأن متسللين أرسلوا طائرات غير مأهولة صغيرة من داخل البلاد أسقطتها الدفاعات الجوية في أصفهان، في محاولة لامتصاص الغضب الداخلي الإيراني حول الهجوم، ولتجنب دخول منطقة الشرق الأوسط في سيناريو الرد والرد المضاد بين طهران وتل أبيب قد ينجم عنه انجراف المنطقة في حرب إقليمية.
ثانياً: انعكاسات الضربة الإيرانية على الصورة الذهنية لطهران
بمجرد الإعلان الإيراني عن اطلاق أولى طائراتها غير المأهولة وصواريخها الكروز والباليستية لاستهداف الأراضي الإسرائيلية، رداً على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق ومقتل قادة عسكريين إيرانيين، فرضت حالة من الترقب لشكل الضربة وما تسببه من أضرار وخسائر، وعلى إثرها انقسمت المواقف والرؤى لتيارات إما وفقاً لقراءتها الشخصية للضربة الإيرانية المنعكسة في اتجاهات التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي،أو وفقاً لمحاولات للقراءات المتباينة الغربية والإسرائيلية والإيرانية التي هدفت من خلالها إلى تثبيت أو إعادة صياغة الصورة الذهنية لطهران في العقل الجمعي، وهو ما يُمكن مناقشته كالتالي:
1- الموقف الشعبي من الضربة الإيرانية على مواقع التواصل الاجتماعي
سادت حالة من التباين بين مغردي مواقع التواصل الاجتماعي بشأن الضربة الإيرانية كأداة رئيسية لردع تل أبيب، ومدى نجاح طهران في فرض قواعد جديدة للاشتباك في منطقة الشرق الأوسط؛ فهناك من اشاد بالضربة، بينما اتجه البعض الآخر لوصفها بمسرحية هزلية تكشف عن فشل الضربة الإيرانية، وهو ما يُمكن تناوله على النحو التالي:
- تيار يُشيد بالضربة الإيرانية: اتجه مغردون على مواقع التواصل الاجتماعي لإشادة بالضربة الإيرانية ، حيث قال البعض أن “أي ضربة إيرانية لإسرائيل مهما كان حجمها صغيرا، فضررها النفسي كبير على الاحتلال الإسرائيلي، وفيها تخفيف لأعباء الحرب عن غزة”، مستدلين في ذلك بالقول بأنه عقب اغتيال الضباط الإيرانيين بدأت إسرائيل تسحب قواتها من غزة، استعدادا لأي مواجهة على الجبهة الشمالية مع لبنان وسوريا، انطلاقاً من النفوذ الإيراني بهما.
كما اضاف مغردوا هذا التيار بأنه بموجب الضربة الإيرانية تمكنت طهران من كسر حاجز مهم يحدث لأول مرة في المنطقة، في إشارة إلى تمكن طهران من تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة إثر الضربة الإيرانية، وأن طهران تعمل على ترسيخ معادلة جديدة في المنطقة عقب عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، بينما ربط البعض بين الضربة الإيرانية والحرب الإسرائيلية على غزة، قائلين: “نرحب بليلة يفرح فيها أيتام غزة ومشردوها ونازحوها، فهذه أعظم ليلة لا تنام فيها إسرائيل وتعقد فيها حكومتها اجتماعها من الملاجئ”. في حين علق البعض قائلاً: “سواء اتفقتم أو اختلفتم مع إيران وسياستها، فهذه ليلة سيكون لها ما بعدها، فالجميع يعلم أن الأمور عند حافة الهاوية، فهذه أول مواجهة ذات طابع إقليمي منذ عام 1973”.
بينما ذهب البعض للقول بأن الضربة الإيرانية التي جاءت رداً على الضربة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق، تهدف بالأساس لإحراج تل أبيب، على اعتبار أن لجوء إسرائيل للرد على الضربة الإيرانية سيسفر عن اندلاع حرب إقليمية، وإذا لم ترد فقد انهارت رواية الاحتلال من أن حربهم الوحشية في غزة قد حققت الردع بمنع أي هجوم جديد ضدها، مُشيرين إلى أن تل أبيب أمام خيارات صعبة.
ومن الجدير بالذكر، سخر البعض من أنصار هذا التيار من الهجوم الإسرائيلي للرد على الضربة الإيرانية، وما اسفر عنه من خسائر طفيفة، واصفين الدرونز التي تم استخدامها في الهجوم بثلاثة عصافير اسقطها صياديون في سماء طهران.
- تيار ينتقد الضربة الإيرانية
اعتبر بعض المغردين من أنصار هذا التيار أن طهران فشلت في ضربتها وعملياتها الانتقامية في إيذاء تل أبيب وردعها، كما فشلت في تحميل تل أبيب تكلفة باهظة ومؤلمة ثمنا لاعتداءاتها المتكررة باغتيال قيادات الحرس الثوري، وبالتالي فشلت إيران بفرض توازن الرعب، وأن هذا لن يمنع تل أبيب من الاستمرار باستهداف إيران وحلفائها في المنطقة انطلاقا من سوريا، وأن الضربة الإيرانية انتهت بالفعل قبل أن تبدأ. إضافة إلى ذلك، وصف آخرون الهجوم بالفشل والاختراق الكبير إذ تم الإعلان عنه قبل أن يبدأ، بالمقارنة بعملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس، وأن تنفيذها بسرية تامة منح الهجوم ثقل ووزن. بينما ذهب آخرون لاتهام طهران بأن الضربات الإيرانية على سوريا خلال السنوات الماضية كانت أعنف وأكثر جدية من الهجوم الإيراني على تل أبيب.
علاوة على ذلك، ذهب البعض للخروج بأقل المزايا الممكنة مما وصفه بالمسرحية الهزلية، في إشارة للضربة الإيرانية، والممثلة في التخفيف من الضغوط الواقعة على قطاع غزة خلال الساعات المحدودة لهذه الضربات، قائلاً: “ما يعنيهم من كل هذه المسرحيات الهزلية هو أن يكون ربما هناك فرصة لأهلنا في غزة أن يلتقطوا أنفاسهم ولو لأيام أو حتى ساعات بعد كل هذه الجرائم والمجازر التي ارتكبت بحقهم على مدار نصف عام؟”.
2- قراءات متباينة … الصورة الذهنية لطهران ما بين حفظ ماء الوجه والعدو الأبرز
بخلاف اتجاهات تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي للضربة الإيرانية، فلقد تباينت القراءات الغربية والإسرائيلية وكذلك الإيرانية للضربة، إما دفاعاً عن طهران، وقدراتها العسكرية، مع التأكيد على أن الضربة كانت لإحراج تل أبيب مثلما كانت بمثابة جرس إنذار أو استعراض لحدود قدراتها، وأن أبعد نقطة على الأراضي الإسرائيلية قد تكون هدف لطهران في حال حبذت تل أبيب وحلفاءها خيار التصعيد، أو إعادة رسم الصورة الذهنية لطهران في الأذهان بأنها العدو والخطر الرئيسي لتل أبيب وحلفاءها ولكافة دول منطقة الشرق الأوسط، أو للتأكيد على أن الهجوم الإيراني يأتي متسقاً مع الرد الإيراني المعهود أمام الممارسات الإسرائيلية الاستفزازية الممتدة منذ سنوات، أو للتأكيد بأنها ضربة من أجل حفظ ماء الوجة، وهو ما يُمكن مناقشته كالتالي:
- الضربة الإيرانية نجحت في فرض معادلة جديدة في الشرق الأوسط وإحراج تل أبيب
يذهب أنصار هذا التيار الداعم لطهران ولضربتها على إسرائيل، للتأكيد على قوة ومتانة القدرات العسكرية الإيرانية، وأن ما اطلقته طهران من تسريبات حول الضربة وموعدها، إلى جانب استخدام طائرات غير مأهولة قديمة يُمكن اعتراضها بسهولة، يعكس اخفاق المنظومة الدفاعية الإسرائيلية وحلفاءها، وأنها ليست بإنجاز يُحسب لها، وإنما طهران بعثت منذ البداية برسالة واضحة للجميع بأن الضربة ستكون محدودة، هدفت من خلالها لإحراج تل أبيب، كما أن الضربة لم تُكلف طهران سوى عشرات الملايين، بينما اضطر الإسرائيليون إلى إنفاق ما يزيد عن مليار دولار في محاولتهم صد وابل الطائرات غير المأهولة والصواريخ الإيرانية.
علاوة على الإعلان المسبق لطهران بموعد وخريطة الضربة الإيرانية، إلا أن تل أبيب اخفقت في صد عدد من الصوايخ التي اصابت أهدافها الإسرائيلية البالغ عددها نحو أكثر من 12 صاروخ باليستي من طراز قديم، ناهيك عن نجاح الضربة الإيرانية في زرع الخوف والقلق في نفوس المستوطنين ودفعهم إلى الفرار إلى الملاجئ، بالإضافة نجاح طهران في فرض معادلة جديدة في الشرق الأوسط. ومن ثم، تأتي مُحاولة تل أبيب وحلفاءها الغربيين لتصوير صد واعتراض الضربة الإيرانية على إنه إنجاز وتفوق للمنظومة الدفاعية الإسرائيلية في التصدي للهجوم الإيراني، بالتعاون مع حلفاءها في المنطقة، بهدف الحفاظ على صورتي المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، ونظام التسليح الإسرائيلي في أعين المجتمع الدولي باعتباره أحد أفضل أنظمة التسليح في العالم، إلى جانب إزالة أي مخاوف محتملة في نفوس المجتمع الإسرائيلي.
- طهران هي العدو الرئيسي لتل أبيب ولدول منطقة الشرق الأوسط
منذ اللحظة الأولى لانتهاء الضربة الإيرانية على تل أبيب، تصدرت روايتان على اللسان الغربي والإسرائيلي بشأن الضربة الإيران، اتفقا على محاولة الحفاظ على الصورة الذهنية في الذهن الغربي والإسرائيلي على أن طهران هي العدو الرئيسي لتل أبيب والغرب، وأنها المهدد الأبرز لبقاء الدولة الإسرائيلية وللمصالح الغربية. فأما بالنسبة للرواية الأولى، فذهب أنصارها للترويج بأن الهجوم الإيراني وتداعياته كانت أكبر بكثير مما هو معلن، وأن تل أبيب ضحية طهران، يهدف أنصار هذه الرواية من خلال الترويج لهذه المقولات لكسب التعاطف الدولي لتل أبيب، وتوحيد الجبهة الداخلية الإسرائيلية على هدف رئيسي يتمثل في أهمية الوقوف أمام الخطر الإيراني، وانتهاج كافة الآليات الممكنة للحفاظ على بقاء الدولة الإسرائيلية، وأن القيادة العسكرية والسياسية نجحت في الدفاع عن أمن إسرائيل وحماية المواطن الإسرائيلي.
أما فيما تتبناه الرواية الثانية من مقولات تتناقض إلى حد كبير مع الرواية الأولي فيما يتعلق بحجم الخسائر التي تكبدتها تل أبيب إثر الضربة الإيرانية، فركزت الرواية الثانية على ما حققته تل أبيب من إنجاز في ظل تنسيق دفاعي جوي مشترك مع شركاءها الدوليين والإقليميين في التصدي للضربة الإيرانية(الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الأردن)، مع التأكيد على وقوع طهران ضحية العدو الإيراني، لكن تل أبيب وبفضل تنسيقها مع حلفاءها تمكنت من التصدي للضربة الإيرانية، مع محاولة توظيف الضربة الإيرانية والتنسيق الدفاعي الجوي المشترك بين تل أبيب وحلفاءها على أنه بمثابة اتفاق دولي وإقليمي على أن طهران هي العدو الرئيسي المشترك، وأن الخيار الأمثل لاستعادة أمن الإقليم يتمثل في الوقوف بجانب تل أبيب لمواجهه هذا الخطر.
- الضربة الإيرانية بمثابة الرد المعهود من طهران على الاستفزازات الإسرائيلية
يذهب أنصار هذا التيار إلى القول بأن الضربة الإيرانية غير المسبوقة والمتعددة الجبهات على الأراضي الإسرائيلية تبدو وكأنها فشل تكتيكي مخطط مُسبقاً، على الرغم من ضخامة الضربة باعتبارها أول ضربة نوعية ضد إسرائيل منذ العام 1979، وذلك انطلاقاً من أن طهران كانت أمام خيار حتمية الرد على استهداف تل أبيب للقنصلية الإيرانية في دمشق ومقتل عدد من قادتها العسكريين، أبرزهم محمد رضا زاهدي في خضم ما يواجهه النظام الإيراني من ضغوط في الداخل الإيراني. ويُضيف أنصار هذا التيار، أن الرد الإيراني المحسوب الخسائر والأضرار، هو الرد المعهود من طهران على مدار تاريخ ممتد من الممارسات الاستفزازية الإسرائيلية ضد إيران كتوجيه ضربات عديدة على المواقع النووية الإيرانية، وتنفيذ عمليات اغتيال لعلماء داخل إيران، إلى جانب اتخاذ إجراءات ضد وكلاء إيران في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وأن هذا الرد لا يختلف في حقيقته عن الموقف الإيراني المحدود والضعيف على اغتيال الولايات المتحدة للجنرال الإيراني قاسم سليماني في العام 2020.
- ضربة إيرانية من أجل “حفظ ماء الوجه”
يري أنصار هذا التيار أن الضربة الإيرانية جاءت فقط من أجل حفظ ماء الوجه الإيراني ، انطلاقاً من أن الهجوم الإيراني جاء متأخرا ، أي بعد أكثر من 12 سنة من قصف إسرائيلي مستمر على مواقع إيرانية في سوريا، واستهدافها للعشرات من العلماء الإيرانيين والقيادات العسكرية الإيرانية، كما أن تل أبيب تلقت إنذار مبكر بموعد الضربة التي لم تُسفر سوى عن أضرار أو خسائر طفيفة، وهو ما جعل الضربة الإيرانية بمثابة مسرحية هزلية.
نهاية القول، تباينت ردود الفعل واختلفت الرؤى في تقييم الضربة الإيرانية على تل أبيب، وحجم الخسائر الفعلية والمكاسب الضمنية التي حققتها طهران من هذه الضربة، سواء من قبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أو من قبل التحليلات الإسرائيلية والغربية وكذلك الإيرانية، والتي حاولت من خلالها إما لإعادة رسم الصورة الذهنية لطهران في العقل الجمعي الغربي والإسرائيلي والإيراني،