المقدمة
يشهد العالم اليوم تحديات اقتصادية هائلة، حيث لا تزال آثار جائحة كوفيد-19 تلقي بظلالها على مختلف القطاعات، بينما تُلقي الحرب الروسية-الأوكرانية بعبئها على الاقتصاد العالمي؛ مما يخلق بيئة من عدم اليقين والتذبذب. ومع ذلك، تُظهر بعض الدول قدرة ملحوظة على الصمود والتعافي، ومصر مثالٌ بارزٌ على ذلك. فقد حققت مصر تقدمًا ملحوظًا في برنامجها مع صندوق النقد الدولي، مما يُعزز ثقة المستثمرين ويُبشر بمستقبل واعد. ونجحت مصر في احتواء جائحة كوفيد-19 من خلال اتباع نهج استباقي وفعال، مما حد من تأثيرها على الاقتصاد. ولا شك أن الحرب الروسية-الأوكرانية تُلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي، بما في ذلك مصر. ولكن أظهرت مصر التزامًا قويًا بالإصلاحات الهيكلية وتحقيق الاستقرار المالي؛ مما ساهم في تحقيق تقدم ملحوظ في برنامجها مع صندوق النقد الدولي. وتضمنت الإصلاحات التي تعهدت بها مصر خفض العجز المالي وتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي، وتعزيز دور القطاع الخاص، وجذب الاستثمار الأجنبي، وتحسين بيئة الأعمال. فمن خلال الإصلاحات الهيكلية المستمرة، والسياسات الاقتصادية الرشيدة، والتعاون الدولي الفعال، تستطيع مصر أن تُحقق مستقبلًا واعدًا يتميز بالاستقرار والنمو والازدهار.
إلى أين يتجه الاقتصاد العالمي؟
عصفت رياح التباطؤ الاقتصادي بالعالم خلال الفترة 2022 و2023، وكان لانخفاض معدلات التضخم العالمي أثر سلبي مباشر. إلا أن النشاط الاقتصادي لم يتأثر بهذا التباطؤ وظل نشطًا بوتيرة ثابتة متحديًا بذلك كافة التحذيرات بشأن الركود التضخمي العالمي وما قد ينتج عنه من انكماش للاقتصادات الكبرى. فقد ظل توظيف العمالة ومعدلات الدخل مستقرة مما يعكس تطورًا داعمًا للطلب -بما في ذلك الإنفاق الحكومي الذي فاق التوقعات بالإضافة إلى استهلاك الأسر للأصول- إلى جانب التوسع في جانب العرض وسط زخم غير متوقع في معدل المشاركة في القوى العاملة.
كما تعكس هذه المرونة الاقتصادية غير المتوقعة -بالرغم من الارتفاعات الكبيرة في أسعار الفائدة التي فرضتها البنوك المركزية في سبيل استعادة استقرار الأسعار- قدرة الأسر في الاقتصادات المتقدمة الكبرى على الاعتماد على المدخرات الضخمة التي تم تجميعها خلال فترة انتشار الجائحة. إضافة إلى ذلك، وكما يوضح الفصل الثاني من تقرير الاقتصاد العالمي، فإن التغييرات التي حدثت في أسواق الرهن العقاري والإسكان خلال العقد السابق لانخفاض أسعار الفائدة قد خففت من التأثير القريب الأجل لارتفاع أسعار الفائدة المعتمدة في سياسات البنوك المركزية. وحيث إن معدلات التضخم تتجه نحو المستويات المستهدفة، وتغيير البنوك المركزية في العديد من الاقتصادات سياساتها المالية نحو التيسير، يُتوقع أن يؤدي تشديد السياسات المالية الهادفة إلى كبح جماح الديون الحكومية المرتفعة، من خلال زيادة الضرائب وخفض الإنفاق الحكومي، إلى الإلقاء بثقله على معدلات النمو.
من المتوقع أن يستمر النمو العالمي، الذي يقدر بنسبة 3.2 في المائة في عام 2023، بالوتيرة نفسها في عامي 2024 و2025. وتُمثل هذه النسبة مراجعة بالزيادة عن نسبة التوقعات لعام 2024 بـ 0.1 نقطة مئوية الواردة في تحديث آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في يناير 2024، وبنسبة 0.3 نقطة مئوية مقارنة بتوقعات أكتوبر 2023. وتعد وتيرة التوسع منخفضة بالمعايير التاريخية، لأسباب تتعلق بالآثار قصيرة الأجل، مثل استمرار ارتفاع تكاليف الاقتراض وسحب الدعم المالي، وتأخر الأثر طويل الأجل لجائحة كوفيد -19 والصراع الروسي الأوكراني، وضعف معدل نمو الإنتاجية وتزايد التشرذم الجيوقتصادي.
ومن المتوقع أن ينخفض معدل التضخم العالمي العام من متوسط سنوي قدره 6.8 في المائة في عام 2023 إلى 5.9 في المائة في عام 2024 و4.5 في المائة في عام 2025، وستعود الاقتصادات المتقدمة إلى مستويات التضخم المستهدفة لديها قبل الاقتصادات ذات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.
وتعتبر أحدث توقعات للنمو العالمي بعد خمس سنوات من الآن -عند 3.1 في المائة- هي الأدنى منذ عقود. إضافة إلى ما سبق، فقد تباطأت وتيرة التقارب نحو مستويات معيشية أعلى للدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض، مما يعني استمرار التفاوتات الاقتصادية العالمية. وكما يوضح الفصل الثالث من التقرير، يعكس ضعف آفاق النمو على المدى المتوسط انخفاضًا في معدل نمو نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الناجم بشكل خاص عن الاحتكاكات الهيكلية المستمرة التي تمنع رأس المال والعمالة من الانتقال إلى الشركات الإنتاجية. ويشير الفصل الرابع إلى كيف ستؤثر الآفاق القاتمة للنمو في الصين والاقتصادات الكبيرة الصاعدة الأخرى؛ نظرًا لحصتها المتزايدة في الاقتصاد العالمي، على آفاق النمو بالنسبة للشركاء التجاريين.
باتت المخاطر التي تهدد الآفاق العالمية الآن متوازنة على نطاق واسع. إذ قد يتسبب ارتفاع الأسعار نتيجة تصاعد التوترات الجيوسياسية -بما في ذلك تلك الناجمة عن الحرب في أوكرانيا والصراع في غزة- إلى جانب استمرار التضخم الأساسي حيث لا تزال أسواق العمل تعاني من الضغوط، في رفع توقعات أسعار الفائدة وخفض أسعار الأصول. كما قد يؤدي التباين في معدلات مكافحة التضخم بين الاقتصادات الكبرى إلى تحركات في أسعار الصرف تضغط بدورها على القطاعات المالية. وقد يكون لارتفاع أسعار الفائدة تأثيرات تبريدية أكبر من المتصور مع إعادة تعيين الرهون العقارية ذات المعدلات الثابتة وتكافح الأسر مع ارتفاع الديون، مما يتسبب في ضغوط مالية.
كذلك قد يتكثف التشرذم الجيوقتصادي -مع ارتفاع الحواجز أمام تدفق السلع ورأس المال والأشخاص- مما ينتج عنه تباطؤ في جانب العرض. وعلى الجانب الإيجابي، قد تؤدي السياسة المالية الأكثر مرونة من اللازم والمفترضة في الإسقاطات إلى زيادة النشاط الاقتصادي على المدى القصير، على الرغم من المخاطرة بتعديل السياسات الأكثر تكلفة في وقت لاحق. وقد ينخفض التضخم بشكل أسرع من المتوقع وسط مكاسب أخرى في مشاركة القوى العاملة، مما يسمح للبنوك المركزية بتقديم خطط التيسير. وقد يحفز الذكاء الاصطناعي والإصلاحات الهيكلية الأقوى من المتوقع الإنتاجية.
مصر تحقق تقدمًا ملحوظًا في برنامجها مع صندوق النقد الدولي
أصدر صندوق النقد الدولي تقريرًا إيجابيًا عن أول مراجعتين لبرنامج تمويل مصر، مُشيرًا إلى التزام مصر بالإصلاحات الهيكلية وتحقيقها تقدمًا ملموسًا في الأهداف المرجوة. وتناولت مذكّرة السياسات الاقتصادية والمالية المرفقة بالتقرير، الصادرة في 19 مارس 2024، تعهدات مصر للصندوق وأبرز بنود السياسة الاقتصادية للفترة المقبلة. وتعد من أبرز المستجدات؛ أولًا: وفّت مصر بسبعة من أصل 15 شرطًا لإتمام المراجعتين الأولى والثانية، ممّا يُعبّر عن التزامها الصارم ببرنامج الإصلاح.
ثانيًا: حقّقت صفقات الطروحات الحكومية عائدات صافية بقيمة 2.4 مليار دولار، مع توقعات بجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية خلال الفترة المتبقية من السنة المالية. ثالثًا: توشك مصر على إتمام صفقتي جبل الزيت والزعفرانة، ممّا سيُدرّ عائدات إضافية تقدر بـ 639 مليون دولار. رابعًا: تستهدف مصر بيع أربعة أصول في قطاعي الطاقة والتصنيع خلال العام المالي المقبل، لجذب 3.6 مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية. خامسًا: من المتوقع صرف شريحة بقيمة 1.646 مليار دولار بحلول يونيو 2024، وشريحة أخرى بقيمة 1.228 مليار جنيه مصري بنهاية سبتمبر 2024، وشريحة ثالثة بالقيمة نفسها بنهاية ديسمبر 2024.
وأخيرًا، تتوقع مصر استلام 14 مليار دولار من صفقة رأس الحكمة بحلول 30 أبريل الجاري، مع تخصيص 12 مليار دولار لخفض الدين العام و6 مليارات لتسهيل تسوية المتأخرات من النقد الأجنبي. من المقرر بدء العمل في تطوير منطقة رأس الحكمة خلال عام 2025. كما يُظهر التقرير التزام مصر ببرنامجها مع صندوق النقد الدولي وإحرازها تقدمًا ملحوظًا في مسار الإصلاحات الهيكلية. وتُشير المؤشرات إلى استمرار التحسن في الاقتصاد المصري خلال الفترة القادمة، خاصةً مع استكمال مشاريع البنية التحتية وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية.
الطريق نحو الإصلاح
يشهد الاقتصاد المصري تحولًا مهمًا نحو الاستقرار المالي والنمو المستدام، مدعومًا بسياسة نقدية صارمة من قبل البنك المركزي المصري، والتزام حكومي بالإصلاحات الهيكلية. ويُعد التحول الدائم إلى سياسة سعر صرف مرن خطوة حاسمة نحو تعزيز استقرار الاقتصاد المصري. وتعهد البنك المركزي المصري بعدم فرض قيود على الصرف، أو ممارسات العملة المتعددة، أو قيود الاستيراد، أو إبرام اتفاقيات دفع ثنائية تتعارض مع اتفاقية صندوق النقد الدولي. كما شدد البنك المركزي المصري السياسة النقدية بشكل كبير لمكافحة التضخم وجذب الاستثمار الأجنبي. ويتضمن ذلك خفض سحب وزارة المالية على المكشوف لدى البنك المركزي، ووقف إقراض البنك المركزي للهيئات العامة الأخرى، مع استثناء وزارة المالية بشروط محددة.
ولم يتوقف دور المركزي على ذلك الحد، بل يلتزم البنك المركزي المصري بالحصول على 15 مليار دولار من عائدات صفقة رأس الحكمة لبناء احتياطي في مواجهة الصدمات المستقبلية. كما سيتم تقليل ضخ السيولة من مشتريات النقد الأجنبي وتحويل الودائع من النقد الأجنبي إلى العملة المحلية. ويهدف البنك المركزي إلى بلوغ صافي احتياطيات أجنبية 30.3 مليار دولار بحلول يونيو 2024، و29.6 مليار دولار بحلول ديسمبر 2024. تم الحصول على تأكيدات بأن 19 مليار دولار من الودائع الرسمية من الدول العربية لدى البنك المركزي المصري لن تُستحق إلا بعد استكمال تسهيل الصندوق الممدد لمدة أربع سنوات في سبتمبر 2026، مع عدم استخدامها لشراء الأسهم أو السندات.
المضي قدمًا في سياسة ملكية الدولة وبرنامج سحب الاستثمارات، مع تنفيذ الإصلاحات الرامية إلى تكافؤ الفرص وتحسين سهولة ممارسة الأعمال التجارية، سيساعد في نمو قوة القطاع الخاص على المدى المتوسط. تستهدف مصر تحقيق فائض أولي يُقدر بنحو 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي للعام المالي الجاري، مع خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 98% خلال السنة. مع التحول من النشاط الذي تقوده الدولة إلى زيادة مشاركة القطاع الخاص، تستهدف مصر زيادة النمو إلى أكثر من 5% على المدى المتوسط. يهدف ذلك إلى خفض احتياجات التمويل، عبر تحقيق فائض أولي أكثر طموحًا، واستخدام جزء كبير من عائدات برنامج سحب الاستثمارات، و12 مليار دولار من عائدات استثمار مشروع رأس الحكمة الأخير.
مصر تتجه نحو آفاق اقتصادية واعدة
تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى مُستقبل اقتصادي مُشرق لمصر خلال السنوات القادمة، مدعومًا ببرنامج الإصلاحات الهيكلية الجاري تنفيذه، واتفاق التمويل المُمدد مع الصندوق، وصفقة مشروع رأس الحكمة. ويُتوقع ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي لمصر إلى 32 تريليون جنيه مصري بحلول عام 2029، مقارنة بـ 18.5 تريليون جنيه متوقعة في العام المالي 2024-2025، مع تحقيق نسبة نمو سنوية تبلغ 5.6% خلال الفترة من 2028 إلى 2029، مقارنة بـ 4.4% في 2024-2025.
يُتوقع حصول مصر على 14 مليار دولار، قيمة الدفعة الثانية من صفقة رأس الحكمة، خلال شهر أبريل الجاري. وتُخصص وزارة المالية 12 مليار دولار من هذه الدفعة لخفض الدين العام، بينما يتم توجيه 6 مليارات دولار لتعزيز القطاع المصرفي وتسهيل تسوية المتأخرات من النقد الأجنبي. يُعد مشروع رأس الحكمة بمثابة محرك رئيسي للنمو الاقتصادي في مصر، حيث يُتوقع بدء العمل في تطويره خلال عام 2025. يُشير الصندوق إلى وجود فجوة تمويلية تبلغ نحو 28.5 مليار دولار، ويُشدد على أهمية استمرار مصر في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، وتحديدًا رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، وتعزيز كفاءة الإنفاق الحكومي، وجذب الاستثمار الأجنبي، وتحسين بيئة الأعمال.
يُشير الصندوق إلى بعض التحديات التي واجهتها مصر خلال الفترة الماضية، مثل العودة إلى سعر صرف ثابت في فبراير 2023، واستمرار الاستثمار في المشاريع الوطنية بوتيرة لا تتماشى مع استقرار الاقتصاد الكلي. ومع ذلك، يُثني الصندوق على توقيع اتفاق استثماري كبير مع شركة “أبو ظبي” القابضة لتطوير رأس الحكمة، مُؤكدًا على أن هذا الاتفاق يُحسّن الآفاق المالية على المدى القريب ويُتيح بيئة تمويل خارجية أكثر ملاءمة لمصر. تُقدم التوقعات الإيجابية لصندوق النقد الدولي والدعم المالي القوي من خلال صفقة رأس الحكمة فرصة ذهبية لمصر لتحقيق نمو اقتصادي مستدام وتحسين مستوى معيشة المواطنين من خلال الاستمرار في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية وخلق بيئة جاذبة للاستثمار.