أجرى وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” زيارة إلى الصين، خلال الفترة من 24 إلى 26 أبريل 2024، التقى خلالها مع الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، ووزير الخارجية “وانغ يي”، ووزير الأمن العام “وانغ شياوهونغ”، وأمين الحزب الشيوعي الصيني في شنغهاي “تشن جينينغ”. وبحسب بيان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، “ماثيو ميلر”، أجرى الجانبان مناقشات متعمقة وموضوعية وبناءة حول الأولويات الرئيسية في العلاقات الثنائية وحول مجموعة من القضايا الإقليمية والعالمية.
وتأتي الزيارة الثانية لـ “بلينكن” كوزير للخارجية إلى الصين، خلال أقل من عام واحد من زيارته الأولى، في إطار إصرار البلدين على مواصلة الحوار برغم اتساع نطاق التوترات والخلافات بين الجانبين حول العديد من القضايا بدءًا من قضايا التجارة والتكنولوجيا، وصولًا إلى الخلاف حول أزمة تايوان وبحر الصين الجنوبي والعلاقات الصينية الروسية. وفي هذا الإطار، شكلت قمة “وودسايد” التي انعقدت في نوفمبر 2023 بين الرئيسين الأمريكي والصيني، ومحادثتهما الهاتفية يوم الثاني من أبريل 2024، دفعة في مسار إبقاء الاتصالات رفيعة المستوى مفتوحة فيما بينهما، الأمر الذي انعكس في الاجتماعات المتتالية المنعقدة بين العديد من مسئولي الجانبين، كمجموعة اللقاءات التي جمعت مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” مع وزير الخارجية الصيني “وانغ يي”، والتي يُنظر إليها باعتبارها “أداة مهمة لإدارة المنافسة والتوترات بشكل مسئول بين الجانبين”، بالإضافة إلى لقاء بلينكن مع نظيره الصيني في فبراير 2024، بمدينة ميونخ الألمانية، علاوة على الزيارة التي أجرتها وزيرة الخزانة الأمريكية “جانيت يلين” إلى الصين، أوائل أبريل 2024.
ومنذ قمة وودسايد بين الرئيسين، استأنف الجانبان الاتصالات العسكرية المباشرة على مستويات متعددة، حيث اجتمع مسئولون دفاعيون من الولايات المتحدة والصين في البنتاغون في يناير2024. فيما عقدت قوات البلدين الجوية والبحرية محادثات تهدف إلى ضمان تفاعلات أكثر أمانًا، في أبريل 2024، أعقب ذلك تحدُّث وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” مع نظيره الصيني “دونج جون”، وكانت هذه المحادثة هي المرة الأولى التي يتحدث فيها “أوستن” مع أي نظير صيني، بشكل مطول، منذ نوفمبر 2022.
أجواء ما قبل الزيارة
برغم ما يبدو من ارتفاع وتيرة التنسيق الأمريكي – الصيني واهتمامهما باستمرار آلية الحوار، كشفت التحركات الأمريكية السابقة لزيارة بلينكن عما ستتضمنه هذه الزيارة من محاولات للضغط على الجانب الصيني في مجموعة من القضايا أهمها: الدعم الصيني المقدم إلى روسيا، والصادرات الصينية المهددة للوظائف الأمريكية، والموقف الراهن في تايوان وبحر الصين الجنوبي، وقضايا حقوق الإنسان.
- العلاقات الروسية الصينية: في تصريحه بالمؤتمر الصحفي المنعقد على هامش اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع، صرح بلينكن: “إننا نرى الصين تتقاسم الأدوات الآلية وأشباه الموصلات وغيرها من العناصر ذات الاستخدام المزدوج التي ساعدت روسيا على إعادة بناء قاعدتها الصناعية الدفاعية التي أدت العقوبات وضوابط التصدير إلى إضعافها”. مضيفًا أنه “عندما يتعلق الأمر بالقاعدة الصناعية الدفاعية الروسية، فإن المساهم الرئيسي في هذه اللحظة هو الصين”. فوفقًا لوجهة النظر الأمريكية، فإن ممارسة مثل هذا الضغط قد يؤتي بثمار مماثلة لتلك التي أسهمت في إقناع بكين في وقت سابق بالتراجع عن خططها لتزويد روسيا بالأسلحة مباشرة. ومع ذلك، فإنهم يدركون في الوقت نفسه مدى صعوبة إقناع الرئيس الصيني بالتوقف عن بيع السلع الصناعية ذات الاستخدام المزدوج إلى الشريك الروسي، حيث تؤكد بكين على حقها في إجراء التبادلات التجارية والاقتصادية الطبيعية مع روسيا دون تدخل أو تعطيل من جانب الدول الأخرى.
- الطاقة الصناعية الصينية الفائضة: تبرز قضايا التجارة الثنائية باعتبارها أحد الملفات التي تحمل تحذيرًا أمريكيًا أيضًا. ففي الأشهر الأخيرة، قامت واشنطن بتوسيع ضوابط التصدير على التقنيات الحيوية، إلى جانب فرض عقوبات على الشركات الصينية وحظرها من العمل في الولايات المتحدة.
كما اتهمت واشنطن بكين بالانخراط في “ممارسات اقتصادية وتجارية غير عادلة”، مثل استخدام الطاقة الصناعية الفائضة لإغراق الأسواق العالمية بالسلع الرخيصة، خاصة في الصناعات الخضراء الجديدة، وهو ما ترفضه الصين، مبررة ذلك بأن صناعاتها “أكثر قدرة على المنافسة”، وأن “إدارة بايدن عاجزة عن خلق المزيد من فرص العمل”، وأن على الولايات المتحدة “احترام مبادئ المنافسة العادلة، واحترام قواعد منظمة التجارة العالمية، والوقف الفوري لإجراءات الحماية التجارية التي تستهدف الصين”.
واتصالًا بذلك، فقد استبق الرئيس الأمريكي زيارة وزير خارجيته وأعلن عن دعوته الممثل التجاري للولايات المتحدة، يوم السابع عشر من أبريل 2024، لدراسة مضاعفة الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم الصيني ثلاث مرات عن مستواها الحالي التي فرضها سلفه دونالد ترامب سابقًا. وبحسب مسئول أمريكي، فإن معدل الرسوم الجمركية الأعلى المقترح سيتم تطبيقه على منتجات الصلب والألمنيوم بقيمة تزيد عن مليار دولار. وفي الوقت نفسه، تدرس إدارة “بايدن” إمكانية حظر السيارات الكهربائية صينية الصنع في السوق الأمريكية، بزعم أن السيارات لديها إمكانات “التجسس” وأن الحكومة الصينية تدعم تصنيعها.
واتصالًا بإشكالية التجسس، وافق الرئيس الأمريكي يوم الرابع والعشرين من أبريل 2024، قبل ساعات من اجتماع بلينكن مع الرئيس الصيني “شي جين بينج” ووزير الخارجية “وانغ يي”، على قانون يمنح تطبيق “Tik Tok” ما يقرب من تسعة أشهر لنقل ملكية التطبيق إلى شركة غير صينية أو مواجهة حظر وطني.
- ملف حقوق الإنسان: قبيل توجه بلينكن إلى الصين، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية، في الثاني والعشرين من أبريل 2024 تقرير حقوق الإنسان لعام 2023 حسب الدولة، والذي أشار إلى ما أسماه بـ “الانتهاكات الجسيمة المستمرة” لحقوق الإنسان في جمهورية الصين الشعبية، مع تسليط الضوء على “ممارسات الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية ضد أقلية الأويغور ذات الأغلبية المسلمة وأعضاء الأقليات العرقية والدينية الأخرى في إقليم شينجيانغ”، الأمر الذي وصفته الخارجية الصينية بكونها “ادعاءات تعكس أكاذيب سياسية وتحيزات أيديولوجية ومعايير مزدوجة”.
- المواجهة في منطقة المحيطين الهندي – الهادئ: وقع “بايدن” يوم الرابع والعشرين من أبريل أيضًا على قانون توفير مساعدات عسكرية أمريكية بمليارات الدولارات، تتضمن تقديم 61 مليار دولار مساعدات لأوكرانيا و26 مليار دولار لإسرائيل، بالإضافة إلى مليار دولار مساعدات إنسانية لغزة وثمانية مليارات دولار لمواجهة نفوذ الصين العسكري، عبر تقديم الدعم لتايوان والدول الحليفة بمنطقة المحيطين الهندي –الهادئ. وبحسب المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “وانغ وينبين”، فإن “تعزيز الولايات المتحدة وتايوان لعلاقاتهما العسكرية لن يجلب الأمن لتايوان”، وإنما في المقابل سيدفع هذا الأمر نحو زيادة التوترات وخطر اندلاع نزاع عبر المضيق.
واتصالًا بما تقدم، تزامنت زيارة بلينكن مع بدء التدريبات القتالية المشتركة بين الولايات المتحدة مع الفلبين، فيما يعرف باسم تدريب “باليكاتان”، والتي تتضمن تدريبات بحرية في بحر الصين الجنوبي، وأُعلن خلالها عن نشر نظام إطلاق الصواريخ البرية الجديد التابع للجيش الأمريكي في شمال الفلبين، بالقرب من المنشآت الصينية في بحر الصين الجنوبي والبر الرئيسي الصيني الجنوبي وعلى طول مضيق تايوان، وهو الأمر الذي رأته الصين بأنه “إذكاءٌ للمواجهة العسكرية”.
وفي المقابل، استبقت الصين زيارة بلينكن بإعلان البحرية الصينية عن إطلاق صاروخ بالستي من طراز JL-2 من غواصة نووية، فيما يبدو بأنه ردٌ على الحضور العسكري الأمريكي المتزايد بمنطقة المحيطين الهندي – الهادئ، وبحر الصين الجنوبي. ووفقًا لتقرير البنتاجون السنوي حول القوة العسكرية الصينية، لعام 2023، فإن JL-2، إذا تم تشغيله في منتصف المحيط الهادئ، فهو قادر على تهديد أهداف في النصف الغربي من الولايات المتحدة، وكذلك هاواي وألاسكا، ويمكنه تهديد أهداف على الساحل الشرقي للولايات المتحدة إذا تم نشره شرق هاواي.
نتائج الزيارة
نظرًا لحالة التوتر المسيطرة على مناخ العلاقات الأمريكية الصينية، والناتجة بشكل أساسي عن انخفاض مستويات الثقة بين الجانبين، لم يكن من المنتظر أن تحقق الزيارة أي اختراق في مسار علاقات البلدين الثنائية، إذ عمد كل طرف نحو التأكيد على ثوابت موقفه ومطالبه إزاء الطرف الآخر، وهو ما يمكن رؤيته على النحو التالي:
أولًا: استقبال فاتر: بينما يُنظر إلى توتر العلاقات المصاحب لزيارة بلينكن على أنه أقل حدة مقارنةً بزيارته السابقة التي أجراها في يونيو 2023، حين كانت العلاقات أكثر توترًا، على خلفية حادث منطاد التجسس الصيني الذي كُشِف عنه بالمجال الجوي الأمريكي في يناير 2023، حظي وزير الخارجية الأمريكي بمراسم استقبال باردة مماثلة لزيارته السابقة، حيث لوحظ غياب السجادة الحمراء وأي مسئول صيني كبير عن مراسم الاستقبال بمطار شنغهاي.
يعكس برود الاستقبال حالة التحفز الداخلي الصيني إزاء هذه الزيارة، لا سيما في ضوء التحركات والتصريحات الرسمية، والتي توازى معها تحليلات مفادها أن المهمة الأساسية لزيارة بلينكن إلى الصين تتمحور حول ممارسة المزيد من الضغط.
وبناءً عليه، قبل أيام من الزيارة، لفت تقرير نشرته صحيفة Global Times الصينية إلى أن بكين سترد بحزم ضد أي فعل من شأنه احتواء الصين أو الإضرار بمصالحها. وبحسب التقرير، “تشير الزيارات المتكررة الأخيرة التي قام بها بلينكن ومسئولون أمريكيون آخرون إلى بكين إلى أنه بدون الصين، سيكون من الصعب على الولايات المتحدة تحقيق خططها فيما يتعلق بالقضايا المحلية والإقليمية والعالمية.” مضيفًا أنه إذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى الحصول على المساعدة من الصين، فإنه يتعين عليها أن تقوم بذلك على أساس المساواة والاحترام المتبادل، أي أنه على الولايات المتحدة تصحيح موقفها والتخلي عن ممارسة أي ضغط إزاء الصين.
ثانيًا: الاهتمام بالعلاقات الشعبية: في محاولة لتهدئة حدة التوتر الراهن، حرص وزير الخارجية الأمريكي خلال زيارته إلى مدينتي شنغهاي وبكين على إبراز محورية البعد الشعبي والثقافي للعلاقات بين البلدين، حيث أمضى بلينكن اليوم الأول له في الصين في الحوار مع الطلاب الأمريكيين والصينيين في حرم جامعة نيويورك في شنغهاي والالتقاء بأصحاب الأعمال الأمريكيين، إلى جانب حضور مباراة كرة السلّة بين فريقين يضمّان في صفوفهما لاعبين أميركيين. وفي طريقه إلى المطار مغادرًا بكين، توقف بلينكن لدي متجر تسجيلات في منطقة الفنون بالعاصمة الصينية، واشترى ألبومًا لمغني الروك الصيني “دو وي” وأغنية “Midnights” للمغنية الأمريكية “تايلور سويفت”، مما يؤكد على الأولوية التي يوليها الجانبان للعلاقات التعليمية والثقافية والشعبية؛ وذلك نظرًا لدورها الرئيسي في إصلاح مسار العلاقات وتعزيز القدرة على إدارة الخلافات. فخلال لقائه مع الطلاب، أكد بلينكن أن التفاعلات بين الثقافات هي “أفضل طريقة للتأكد من أننا نبدأ بفهم بعضنا بعضًا”.
ثالثًا: التركيز على الاختلافات: برغم اتفاق الطرفين على أهمية الدبلوماسية النشطة المباشرة، على الأقل لتجنب سوء الفهم، والحسابات الخاطئة، وما حققاه بالفعل من تقدم في تعاونهما بمجالات مثل مكافحة المخدرات والذكاء الاصطناعي والتبادلات الشعبية، أظهرت البيانات الصحفية اللاحقة لاجتماعات بلينكن مع الرئيس الصيني ووزير الخارجية استمرار تناقض الرؤى واتساع الفجوة بين الجانبين. فعلى الرغم من غلبة اللغة الدبلوماسية خلال الاجتماع الذي جمع بين الرئيس الصيني ووزير الخارجية الأمريكي، إلا أنه تضمن أيضًا بعض الإشارات الضمنية التي عبر من خلالها الرئيس “شي جين بينغ” عن الموقف الراهن لعلاقات البلدين، حيث أكد على أنه “ينبغي للصين والولايات المتحدة أن تكونا شريكتين وليس متنافستين؛ أن يساعدان بعضهما على النجاح بدلًا من إيذاء بعضهما بعضًا؛ وأن يبحثا عن أرضية مشتركة واحتواء الخلافات بدلًا من الانخراط في منافسة شرسة، وتكريم القول بالأفعال بدلًا من قول شيء وفعل شيء آخر”، وأن بلاده ملتزمة بعدم التحالف وعلى الولايات المتحدة ألا تعمل على إنشاء كتل صغيرة.
فيما يبدو أن الاجتماع الذي جمع بين وزيري الخارجية الصيني والأمريكي، والذي استمر نحو خمس ساعات، كان أكثر صراحة ووضوحًا. من جانبه، أكد وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” أنه برغم الاستقرار الراهن بالعلاقات، تتزايد العوامل السلبية وتتراكم وتواجه كل أنواع الاختلالات، مضيفًا أن الولايات المتحدة قد تبنت “سلسلة لا نهاية لها من الإجراءات لقمع الاقتصاد والتجارة والعلوم والتكنولوجيا في الصين وأن هذه ليست منافسة عادلة وإنما احتواء يؤدي إلى خلق المخاطر”، مطالبًا بعدم تدخل الولايات المتحدة في شئون الصين الداخلية، وعدم إعاقة تنميتها، وعدم تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعتها بكين بشأن سيادتها وأمنها ومصالحها التنموية، بما في ذلك التوقف عن تشكيل مجموعات صغيرة بمنطقة المحيطين الهندي -الهادئ، والامتناع عن الضغط على دول المنطقة للانحياز إلى أحد الجانبين، والتوقف عن نشر صواريخ أرضية متوسطة المدى.
في المقابل، أفاد وزير الخارجية الأمريكي أنه قد أثار خلال اجتماعاته المخاوف بشأن العواقب الاقتصادية المحتملة للقدرة الصناعية الصينية الفائضة على الأسواق العالمية والأمريكية، وخاصة في عدد من الصناعات الرئيسية التي ستقود اقتصاد القرن الحادي والعشرين، مثل الألواح الشمسية، والمركبات الكهربائية، والبطاريات، والتي تنتج الصين وحدها أكثر من 100% من الطلب العالمي على هذه المنتجات، مما يؤدي إلى إغراق الأسواق، وتقويض المنافسة.
فيما أعاد بلينكن التأكيد على مخاوف الإدارة الأمريكية بشأن دعم الصين للقاعدة الصناعية الدفاعية الروسية، مطالبًا بوقف هذا الدعم، وإما سيكون على واشنطن اتخاذ المزيد من الإجراءات، في إشارة إلى احتمال فرض واشنطن عقوبات جديدة، تُضاف إلى العقوبات المفروضة حاليًا على أكثر من 100 كيان وفرد صيني، وذلك في حال استمرار الدعم.
وطرح بلينكن أيضًا خلال الاجتماع “الإجراءات الخطيرة التي اتخذتها بكين في بحر الصين الجنوبي، بما في ذلك ضد عمليات الصيانة الفلبينية الروتينية والعمليات البحرية بالقرب من منطقة “سكند توماس شول”، مؤكدًا أنه بينما ستواصل بلاده العمل على تهدئة التوترات، فإن التزاماتها الدفاعية تجاه الفلبين تظل صارمة.
وفيما يتعلق بالأزمات الإقليمية والعالمية، أعاد بلينكن الحديث بشأن أهمية استخدام بكين نفوذها “لثني إيران ووكلائها عن توسيع الصراع في الشرق الأوسط، والضغط على بيونغ يانغ لحملها على إنهاء سلوكها الخطير والدخول في حوار”. وفي شأن حقوق الإنسان، أثار بلينكن مخاوف واشنطن بشأن تآكل الحكم الذاتي في هونج كونج، وانتهاكات حقوق الإنسان في التبت وشينجيانج، وعدد من قضايا حقوق الإنسان الفردية.
مستقبل العلاقات الأمريكية الصينية
قبل توجه بلينكن إلى الصين، أصدر المسئولون من وزارة خارجية في كلا البلدين الأهداف المتوقعة منها. فعلى الجانب الأمريكي، صرح مسئول كبير بوزارة الخارجية أنه لدى “بلينكن” ثلاثة أهداف رئيسية وهي: “أولًا: إحراز تقدم في القضايا الرئيسية، ثانيًا: التعبير بشكل واضح ومباشر عن المخاوف بشأن القضايا الثنائية الإقليمية والعالمية؛ وثالثًا: إدارة المنافسة بشكل مسئول”. في المقابل، أوضحت إدارة شئون أمريكا الشمالية وأوقيانوسيا بوزارة الخارجية الصينية أن هناك خمسة أهداف رئيسية تركز عليها الصين خلال هذه الزيارة، تتضمن: إرساء التصور الصحيح، وتعزيز الحوار، وإدارة الخلافات بشكل فعال، وتعزيز التعاون متبادل المنفعة، والتحمل المشترك للمسئوليات كدول كبرى.
وبالنظر إلى ما انتهت إليه الزيارة، يتضح أن الهدف الرئيسي المتحقق منه هو فقط التأكيد على استمرار الاتصال والحوار متعدد المستويات، حتى وإن ظلت لغة الخلاف والمواجهة، وبالتبعية انخفاض مستوى الثقة المتبادل، هي الأمور المسيطرة على المشهد العام للعلاقات خلال الفترة المقبلة.
يعزز احتمالات الطرح السابق خصوصية العام الحالي بالنسبة لإدارة “بايدن”، خاصة مع اقتراب عقد انتخابات الرئاسة الأمريكية، في نوفمبر 2024، حيث يعد ملف العلاقات مع الصين ضمن الملفات ذات الأولوية على أجندة المرشحين الانتخابية؛ نظرًا لتأثيره المحتمل في تشكيل التوجهات التصويتية للناخبين.
فعلى الرغم من أن “احتواء الصين” يظل مبدأً مركزيًا في رؤيتي الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، إلا أن هناك قدرًا من الاختلاف في كيفية تطبيق هذا المبدأ. وبناءً عليه، تشير التحركات الأمريكية الأخيرة إلى رغبة الإدارة الحالية في تقديم صورة للرأي العام الأمريكي تؤكد على التزام إدارة “بايدن” ببذل كل ما هو ممكن لحماية الأمن القومي الأمريكي في مواجهة التحدي الصيني، عبر إبراز القدرة على التنافس، سواء في إطار علاقتيهما الثنائية، لا سيما في قطاعي الاقتصاد والتكنولوجيا، أو من خلال التحركات الأمريكية المكثفة في نطاق المجال الحيوي للصين بمنطقة المحيطين الهندي – الهادئ، وذلك دون التحول إلى شكل من أشكال الحرب الباردة، والتي قد تندلع في حال فوز “دونالد ترامب” في الانتخابات المقبلة.
في المقابل، ستستمر الصين في الدفاع عن سياستها التجارية والصناعية، إلى جانب تأكيد سيادتها الكاملة على بحر الصين الجنوبي وتايوان، وذلك بالتوازي مع تنفيذ خططها الهادفة نحو تعزيز حضورها البحري بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأيضًا في تعزيز الشراكات، وتحديدًا الاقتصادية ذات البعد التنموي، مع الدول المحايدة والتي لم تتخذ صفًا صريحًا إلى جانب الولايات المتحدة بهذه المنطقة.
كما ستواصل الصين تنفيذ سياسة تعزيز شراكاتها الثنائية مع دول الجنوب العالمي، لا سيما الاقتصادية منها، وتبني خطاب قريب من مواقفهم، وذلك بالتزامن مع تراجع ثقة هذه الدول في الشريك الأمريكي. يمكن التدليل في هذا الإطار إلى ما جاء ببيان إدارة شئون أمريكا الشمالية وأوقيانوسيا بوزارة الخارجية الصينية السابق للزيارة بخصوص القضية الفلسطينية، حيث أشار إلى أن “المجتمع الدولي يشعر بالاستياء الشديد وخيبة الأمل من استخدام الولايات المتحدة حق النقض الحصري في مجلس الأمن بشأن حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. إن حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة لا ينبغي أن يكون نتيجة للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، بل ينبغي أن يمنح فلسطين شروط تفاوض متساوية وأن يكون خطوة مهمة نحو حل الدولتين”.
وبالتوازي مع ما تقدم، ستمضي الصين أيضًا في طريق توثيق علاقاتها الثنائية مع الدول المتوافقة معها في المعارضة الصريحة للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، لا سيما روسيا وإيران وكوريا الشمالية، الذين -وفقًا للرؤية الأمريكية- في طريقهم نحو تشكيل محور جديد يتمثل الهدف منه مواجهة النفوذ الأمريكي العالمي.
وأخيرًا، قد تتجه الصين نحو تعزيز إطار التعاون الثلاثي الأمني الدفاعي الذي يجمعها مع روسيا وإيران، والذي ربما يمتد ليشمل أبعادًا اقتصادية، لكن دون تطويره إلى شكل من أشكال التحالف، وإنما ستحرص الصين على أن يظل هذا التعاون الثلاثي معبرًا عن تقارب براجماتي بين الدول الثلاث، يتمثل جوهره الرئيسي في معارضة واشنطن.