لا شك أن الحرب التي بدأت من غزة في السابع من أكتوبر الماضي قد أعادت طرح القضية الفلسطينية على الساحة الدولية وكشفت عن حقائق عديدة على الأرض في فلسطين والشرق الأوسط وحول العالم، وتتلخص أهم تلك الحقائق فيما يلي:
- ثبت أن التفوق العسكري الإسرائيلي لا يكفي لضمان أمن إسرائيل التي كانت تروج أنها يمكن أن تضمن أمن دول السلام الإبراهيمي العربية وتلك التي تطمح للانضمام لها. وأثبتت الحرب ان إسرائيل هي التي تحتاج شركاءها في السلام من العرب لضمان أمنها في غزة وفي مواجهة الهجمة الصاروخية الإيرانية المحدودة الأخيرة. وثبت لإسرائيل أن أمنها الحقيقي مستمد من السلام القائم بينها وبين جارتيها مصر والأردن.
- أن التغيرات الدولية منذ مطلع القرن الواحد والعشرين وأهمها ظهور أهمية الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي قضت على تأثيرات سيطرة اللوبي الإسرائيلي والجماعات المؤيدة له على وسائل الإعلام التقليدية وخاصة على عقول الشباب في كل انحاء العالم بما فيها الولايات المتحدة. ولهذا امتدت الاحتجاجات الشبابية في العالم الغربي ضد جرائم إسرائيل في غزة والدعم العسكري الأمريكي لها لأول مرة الي الجامعات الأمريكية.
- شهدت الجامعات الأمريكية صعود حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) التي تعمل على إنهاء الدعم الدولي لقمع إسرائيل للفلسطينيين والضغط على إسرائيل للامتثال للقانون الدولي. وبالمصادفة أيضا ففي الثمانينيات، كان سحب الاستثمارات من الجامعات الأمريكية في جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري، هو أحد أكثر الأدوات فعالية في المعركة التي أنهت الفصل العنصري في التسعينيات.
- أدت طبيعة المرحلة الانتقالية الراهنة من نظام دولي أحادي القطبية الي ظهور قوي دولية متعددة تتحدي السياسة الأمريكية وازدواج معاييرها تجاه نفس المبادئ عند تطبيقها على قضايا مثل الاحتلال الروسي لأراضي أوكرانية والاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع. وكانت جنوب إفريقيا هي التي قادت الحملة الدولية لإثبات أن الحرب الإسرائيلية على غزة هي جزء من سياسة اسرائيلية تهدف لإبادة جماعية للشعب الفلسطيني. وأصبح حكام إسرائيل مهددين بالملاحقة القانونية الدولية كمجرمي حرب.
- بقدر حاجة بعض الدول العربية وخاصة في السعودية للدعم الأمريكي للحفاظ على الاستقرار واستتباب الحكم لهم، تزايدت الحاجة الأمريكية للحيلولة دون دخول الصين بديلا في أسواق تلك الدول في المجالات التجارية والتكنولوجية بل والعسكرية والنووية أيضا.
- لأول مرة منذ نشأة إسرائيل يصبح للصوت العربي والمسلم في الولايات المتحدة تأثير مرجح لنتيجة الانتخابات الرئاسية المقبلة في عدد من الولايات المتأرجحة أو غير المحسومة لأي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري مما قد يحرم الرئيس بايدن من ولاية ثانية إذا ما استمرت سياسته الراهنة تجاه الحرب وما بعد الحرب دون تغيير.
وهكذا فرضت نتائج الحرب خلال الشهور السبعة المنصرمة قيودا على مستقبل التعامل العسكري الإسرائيلي في غزة بسبب القيود التي تفرضها علاقات السلام مع مصر ورد الفعل الدولي وتغير طبيعة النظام العالمي والاعتبارات السياسية الداخلية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
وتركزت أنظار العالم كله على منطقة رفح الفلسطينية خوفا من تنفيذ تهديدات حكومة نتانياهو باجتياحها عسكريا كما حدث في بقية مناطق غزة وأسفر عن مقتل وجرح عشرات الآلاف من المدنيين وتشريد ونزوح حوالي مليون ونصف فلسطيني ومواجهتهم خطر الموت جوعا بسبب منع الجيش الإسرائيلي دخول كميات كافية من المساعدات لإبقائهم على قيد الحياة. وخفقت القلوب خوفا من تكرر المأساة الفلسطينية مرة أخري في رفح وانعكاس آثارها المباشرة علي مصر أولا ثم علي بقية الإقليم عن طريق تصعيد الحرب لتتحول الي حرب إقليمية وربما دولية.
ولم يخفف من القلق الدولي قبول حماس للاقتراح الذي نقلته مصر لاتفاق إطاري لوقف إطلاق النار مقابل إطلاق سراح الأسري من الجانبين ودخول مزيد من المساعدات للقطاع وبدء الانسحاب العسكري الإسرائيلي وعودة النازحين الي مناطقهم الأصلية. فقد استمر القلق الدولي من حرص نتانياهو على استمرار الحرب لتأمين بقائه في الحكم عن طريق الحفاظ على تماسك ائتلافه اليميني المتطرف والذي يمكن أن ينحل إذا ما قبل نتانياهو ذلك الاتفاق الإطاري الذي قبلته حماس.
وأعتقد أن حكومة نتانياهو سوف تقبل في النهاية العناصر الرئيسية للإتفاق الإطاري تحت ضغوط كبيرة غير مرئية من إدارة بايدن وضغوط من الرأي العام الإسرائيلي وعائلات الرهائن. وربما يؤدي قبول الحكومة الإسرائيلية الي أزمة حكومية تنتهي بخروج بعض الأحزاب الدينية المتطرفة ولكن تسمح لنتانياهو بالاستمرار في الحكم حتي الانتخابات بتأييد برلماني في الكنيست من الأحزاب الأكثر اعتدالا، وهو ما قد يعطي نتانياهو حرية أكبر في قبول تنازلات قد تحقق له قبل الانتخابات انجازين تاريخيين هما الإفراج عن الأسري الإسرائيليين الباقين علي قيد الحياة وربما التوصل للمصالحة التاريخية مع السعودية كجزء من اتفاق ثلاثي مع الولايات المتحدة أيضا.
وبالطبع فإنني لا أفرط في التفاؤل بإمكانية تحقيق صفقة شاملة قبل الانتخابات الأمريكية تتضمن اعترافا أمريكيا بدولة فلسطينية تستند اليه مفاوضات تبدأ بعد انتهاء الحرب في غزة والتوصل لنظام أمني يمنع تكرار هجمة السابع من أكتوبر مقابل اتفاق من حيث المبدأ على تطبيع سعودي إسرائيلي متي وافقت إسرائيل على الإعلان الأمريكي وذلك كوسيلة لتمرير الاتفاق الأمني والنووي والتكنولوجي في الكونجرس الأمريكي وضمان انتقال العرش لولي العهد بتأييد أمريكي.
ومع ذلك أعتقد أن منع الاقتحام العسكري الإسرائيلي لرفح وقبول الطرفين للاتفاق الإطاري لوقف إطلاق النار وتبادل الأسري وتنفيذه على الأرض يفتح الطريق أمام الأطراف الفاعلة ومن بينها مصر لإقناع الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل ببقية عناصر الصفقة التي يجب أن تتبناها الولايات المتحدة والتي يمكن أن تحول هذا الاتفاق الإطاري الي حجر أساس لاتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني يقود الي حل الدولتين.
وأستند في تفاؤلي الحذر الي عناصر واردة في المقترح المصري للإتفاق الإطاري أهمها أن ضامني هذا الاتفاق هم الولايات المتحدة ومصر وقطر والأمم المتحدة، وبالتالي فإن هناك اشرافا دوليا على تنفيذ الاتفاق. كما أن نقل وتأمين وتوزيع المساعدات وإعادة إعمار غزة سوف يحتاج تعاونا دوليا يجب أن تقوم فيه مصر بدور محوري. وبالطبع سوف يمتد الدور الدولي الي مجال حفظ السلام وإجراءات الأمن المتبادلة والتي يمثل الاتفاق عليها المقدمة الضرورية للانسحاب الإسرائيلي من غزة. وقد مهد بعض قادة حماس لقبول مثل هذه الإجراءات بإعلانهم الاستعداد للتخلي عن السلاح والكفاح المسلح في إطار بناء دولة فلسطينية مستقلة.
وأري أنه يمكن للرئيس الأمريكي جو بايدن أن يصدر إعلانًا، مشابهًا لوعد بلفور لعام 1917 الذي وعد بمساعدة اليهود لإنشاء وطن قومي على جزء من أرض فلسطين، وأن يسمي ذلك الإعلان الأمريكي بتأييد إنشاء دولة فلسطينية “إعلان بايدن”، والذي يجب أن يوضح فيه خطة انتقالية مدتها عام واحد تنتهي بإطلاق مفاوضات لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة على أساس الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، مع ضمانات أمنية عادلة. وينبغي لهذا الإعلان الأمريكي أن يفتح الطريق أمام قبول فلسطين كدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، ويمكن للولايات المتحدة أيضاً أن تدفع بقرار ليتم تبنيه من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لهذا الغرض ولتأييد معايير التسوية النهائية الواردة في ذلك الإعلان.
ومن شأن هذه الخطة أن تخلق الأمل السياسي المفقود لدى الفلسطينيين وتحقق التطلعات الأمنية للشعب الإسرائيلي في ألا تتكرر هجمات مثل تلك التي وقعت في السابع من أكتوبر. ولا شك أن تحويل غزة إلى نموذج واعد للسلام الفلسطيني الإسرائيلي في المستقبل سيحقق أيضاً العديد من الأهداف الإستراتيجية الأخرى، إذ أن نتيجة كهذه ستساعد في منع حدوث فراغ سياسي وأمني في قطاع غزة بعد الانسحاب العسكري الإسرائيلي، ويفتح الباب الي تحول حركة حماس لحركة سياسية تنضم لمنظمة التحرير الفلسطينية وتلتزم باتفاقيات السلام التي وقعتها المنظمة.
ومن الممكن أن تشمل الفترة الانتقالية التي مدتها عام واحد إنهاء الحرب في غزة وإطلاق سراح جميع الرهائن وأسرى الحرب من الجانبين، ودعوة منظمة التحرير الفلسطينية (السلطة الفلسطينية) لتشكيل هيئة حكم في غزة، ونشر قوات حفظ سلام دولية. وأن تشرف هذه القوة على الانسحاب العسكري الإسرائيلي من غزة وتدمير جميع الأسلحة الثقيلة في القطاع، وأن تراقب جميع وارداته وصادراته، وأن يتم إطلاق حملة عالمية لإعادة بناء غزة وتحويلها إلى نموذج اقتصادي مزدهر للتعاون السلمي الإقليمي والدولي.
وسوف تؤدي تلك الترتيبات الي الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، ودعم اتفاقيات السلام الإسرائيلية مع مصر والأردن، والحفاظ على الاتفاقات “الإبراهيمية للسلام” والمساعي لتوسيع نطاقها الإقليمي، بما في ذلك إمكانية بدء مسيرة التطبيع الإسرائيلي مع المملكة العربية السعودية بعد أن تقبل إسرائيل حل الدولتين، مما يساهم بشكل كبير في تحقيق السلام المستقبلي بين إسرائيل والفلسطينيين، ليس في غزة فحسب، بل وأيضاً في الضفة الغربية والقدس أيضاً.





























