في ظاهرة نادرة الحدوث في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية، توجّه الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى ثلاثٍ من دول شرق إفريقيا (هي: جيبوتي، وإثيوبيا، وكينيا) في زيارة استغرقت أربعة أيام، جسّدت الاهتمام الفرنسي المتزايد بهذه المنطقة من القارة الإفريقية التي لم ترتبط تقليديًّا بالمصالح الفرنسية، سواء خلال الحقبة الاستعمارية أو خلال المراحل التالية على الاستقلال. ففي الثاني عشر من مارس 2019، توجه الرئيس الفرنسي إلى جيبوتي في زيارة قصيرة لم تتجاوز في مدتها 15 ساعة، قبل أن يتجه إلى إثيوبيا في اليوم ذاته، ليغادرها في اليوم التالي قاصدًا كينيا ليعود إلى فرنسا في الرابع عشر من مارس.
وعلى الرغم من العلاقات الوطيدة التي تجمع فرنسا بجيبوتي التي خضعت للاستعمار الفرنسي لعقود، وتستضيف أكبر قاعدة للقوات المسلحة الفرنسية خارج فرنسا، فقد جاءت زيارة “ماكرون” لجيبوتي في سياق اشتد فيه التنافس الدولي على سواحل الدولة المطلة على مضيق باب المندب، خاصة من جانب الصين التي افتتحت عام 2017 أولى قواعدها العسكرية الخارجية على الإطلاق في جيبوتي.
وتحمل زيارة “ماكرون” لإثيوبيا أهمية خاصة في ظل التغيرات الكبيرة التي تشهدها إثيوبيا منذ وصول “أبيي أحمد” للسلطة في مطلع أبريل 2018، وما أسفر عنه ذلك من تغيرات كبرى تجاوزت الداخل الإثيوبي، وتعددت أبعادها الأمنية والعسكرية والاقتصادية. وتعزز هذه الزيارة من اتجاه متصاعد للتقارب الفرنسي الإثيوبي، بدأ مع زيارة “أبيي أحمد” للعاصمة الفرنسية باريس في نهاية أكتوبر 2018، وهي الزيارة التي مثّلت نقطة تحول في تاريخ العلاقة بين الجانبين.
وتُعد زيارة “ماكرون” هي الأولى التي يقوم بها رئيس فرنسي لكينيا منذ استقلالها، حيث اعتُبرت كينيا لفترة طويلة حليفًا “حصريًّا” لبريطانيا والولايات المتحدة، وهو الأمر الذي جاءت زيارة “ماكرون” لتتجاوزه، خاصة مع التركيز الفرنسي على الجانب الاقتصادي.
توجهات “ماكرون” إزاء القارة الإفريقية
خلال حملته للانتخابات الرئاسية، أعلن “إيمانويل ماكرون” عن رغبته في منح علاقات بلاده بالدول الإفريقية اهتمامًا خاصًّا تحت العنوان العريض الذي أعلنه حاملًا اسم “الشراكة الكبرى” Great Partnership التي تقوم على تعزيز العلاقات الثنائية على المستوى القاري بين أوروبا وإفريقيا. كما شهدت الحملة إعلان “ماكرون” عن قائمة مطولة من الأولويات في علاقته بإفريقيا تضمنت الأمن، ومكافحة التغير المناخي، والتعليم، والبنية التحتية، وتطوير القطاع الخاص في إفريقيا. وعلى الرغم من قصر المدة منذ توليه السلطة، فقد شهدت فترة حكم “ماكرون” منذ مايو 2017 عددًا من التحركات المهمة تجاه القضايا الإفريقية عكست توجهاته تجاه القارة، والتي تقوم على عدد من الركائز تمثلت في:
1- الجمع بين التوجهات الواقعية بالتركيز على الملفات الأمنية والشراكة الاقتصادية، وبين الأبعاد الرمزية والثقافية. فعلى الجانب العسكري، شهد العقد الماضي تكثيف الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا على نحو غير مسبوق منذ نهاية الحقبة الاستعمارية، وهو التوجه الذي أكد “ماكرون” استمراره حين قام بزيارة القوات الفرنسية في مالي بعد أقل من أسبوع من توليه السلطة. وعلى الجانب الاقتصادي، أعلن “ماكرون” اعتزامه مضاعفة حجم المساعدات الفرنسية لإفريقيا بين عامي 2017 و2030 لتمثل 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا بدلًا من قيمتها الحالية البالغة 0.38%. كما شهدت فترة حكم “ماكرون” جهودًا فرنسية حثيثة لتعزيز الفرانكفونية كرابط ثقافي يجمع فرنسا بالدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية.
2- تحقيق أكبر قدر ممكن من الانتشار الجغرافي في إفريقيا، وذلك من خلال الانفتاح على “شركاء” جدد في القارة على النحو الذي عكسته زيارة “ماكرون” الأخيرة لدول شرق إفريقيا، وقبلها زيارته لكل من غانا ونيجيريا. ولا يأتي بحث فرنسا عن شركاء جدد في إفريقيا على حساب حلفائها التقليديين، فقد حرص “ماكرون” على تعزيز علاقته بالدول الإفريقية التي خضعت للاستعمار الفرنسي، خاصة في إقليمي الساحل الإفريقي وخليج غينيا. لكن يلاحظ الاستمرار في الفصل بين السياسة الفرنسية في شمال إفريقيا والسياسة الفرنسية في إفريقيا جنوب الصحراء، حيث جاءت زيارات “ماكرون” العديدة لدول إفريقيا جنوب الصحراء في إطار منفصل عن زيارته لدول شمال القارة.
3- استهداف تعويض الانسحاب الأمريكي من مناطق عدة حول العالم في مقدمتها القارة الإفريقية، وخاصة في منطقة البحر الأحمر والساحل الشرقي للقارة بما تحمله من أهمية جيوسياسية كبيرة، وذلك عبر عدة آليات تأتي في مقدمتها الشراكات الثنائية على المستويين الأمني والعسكري والتي بلغت في السنوات الأخيرة مستويات غير مسبوقة. لكن في ظل محدودية القدرات الفرنسية، خصوصًا على الجانب الاقتصادي، تصيغ فرنسا سياساتها في إفريقيا -في الكثير من الأحيان- في إطار قيامها بدور “رأس الحربة” لسياسة أوروبية واسعة تحصل فيها فرنسا على الدعم السياسي والاقتصادي من ألمانيا على وجه الخصوص لتحقيق إنجازات كبيرة في العلاقة بالقارة الإفريقية، قبل أن تقسم عوائد هذه العلاقة على فرنسا وشركائها الأوروبيين. وقد تجسدت هذه التوجهات بقوة في منطق العلاقة على المستوى القاري بين أوروبا وإفريقيا Continent-to-Continent الذي يروج له “ماكرون” منذ حملته الانتخابية كإطار جديد يتجاوز المنطق الاستعماري الذي طالما كان موضع نقد كبير للسياسة الخارجية الفرنسية في إفريقيا.
4- التحول من علاقة الوصاية على إفريقيا إلى الشراكة معها، والتي يفترض أن تعود منافعها على كل الأطراف بصورة منصفة في ظل التوجهات الإفريقية المتنامية الرافضة للأنماط القديمة من العلاقة بالغرب، وفي ظل تعدد المنافسين وعلى رأسهم الصين وروسيا. وفي هذا الصدد، تبنت فرنسا منطق الشراكة متعددة المستويات مع إفريقيا التي تتجاوز الجانب الرسمي، لتمتد لشراكات بين المجتمع المدني والقطاع الخاص والتي تستغل فيها فرنسا مجتمع أفارقة المهجر من حاملي الجنسية المزدوجة في الوساطة بين الجانبين. ويستفيد “ماكرون” بصورة مباشرة من هذا النوع من الشراكة في كسب تأييد مجتمع الأعمال والنخبة الاقتصادية الفرنسية من خلال تمكينهم من الولوج للأسواق الإفريقية لتعويض كافة أشكال الخسائر في الداخل الناجمة عن سياسات “ماكرون” الاقتصادية والضريبية، والتي كثيرًا ما يضطر فيها للخضوع لضغوط الطبقات الاجتماعية الأقل دخلًا.
نتائج زيارة “ماكرون” على مستوى العلاقات الثنائية
جاءت زيارة “إيمانويل ماكرون” لشرق إفريقيا في وقت أعلنت فيه الرئاسة الفرنسية عن تقليص حجم الزيارات الخارجية للرئيس كواحدة من آليات امتصاص موجة الغضب الشعبي المعروفة باسم احتجاجات “السترات الصفراء”، وهو ما يؤكد الأهمية الكبيرة التي تحملها هذه الزيارة من وجهة نظر السياسة الفرنسية.
وبالرغم من العلاقة التاريخية التي تربط فرنسا بمستعمرتها السابقة جيبوتي؛ إلا أن العقدين الأخيرين شهدا تجاهلًا فرنسيًّا لجيبوتي لعل من بين أسبابه تنامي الاهتمام الأمريكي بالدولة الساحلية الصغيرة في إطار الحرب على الإرهاب، الأمر الذي جاءت معه “العودة” الفرنسية لجيبوتي في سياق دولي وإقليمي يختلف جذريًّا عن آخر فترات التقارب بين البلدين.
وقد بدأت الزيارة بلقاء جمع الرئيس “ماكرون” بالرئيس “إسماعيل عمر جيله”، قبل أن يزور “ماكرون” القاعدة العسكرية الفرنسية التي تُعد الأكبر خارج البلاد، والتي تضم 1450 جنديًّا فرنسيًّا. وتأتي زيارة “ماكرون” لجيبوتي بعد مرور نحو عشرة أعوام على آخر زيارة لرئيس فرنسي، فمنذ أن توجه الرئيس الأسبق “نيكولا ساركوزي” لجيوبتي عام 2010 لم تتكرر الزيارات الرئاسية الفرنسية لجيبوتي بالرغم من الأهمية المتزايدة لها بعد أن أقيمت على سواحلها قواعد عسكرية لدول جديدة في مقدمتها الصين واليابان.
وجاءت زيارة “ماكرون” لجيبوتي بعد أن تعددت الانتقادات الموجهة للسياسة الخارجية الفرنسية باعتبار تقاعسها سببًا رئيسيًّا في إتاحة الفرصة لتعاظم نفوذ العديد من الدول الأخرى في جيبوتي على حساب النفوذ الفرنسي. ففي أعقاب زيارة لوفد برلماني فرنسي لجيبوتي في سبتمبر 2018، أصدر أعضاء الوفد توصية بتعزيز التواجد الفرنسي في جيبوتي بالتركيز على القطاعات العسكرية والاقتصادية والثقافية، وهو التوجه الذي يأتي بعد أن أبدى الرئيس “إسماعيل عمر جيله” موقفًا سلبيًّا من التجاهل الفرنسي لبلاده في أكثر من مناسبة.
ولعل العلامة الأبرز في زيارة “ماكرون” لجيبوتي التصريحات الهجومية التي أدلى بها ضد الوجود الصيني في إفريقيا، حيث أعرب عن قلقه البالغ من اتساع النفوذ الاقتصادي الصيني في القارة، معتبرًا الالتزامات المالية للدول الإفريقية تجاه الصين عبئًا ثقيلًا. واعترف “ماكرون” بحقيقة أن الصين أصبحت قوة دولية عظمى نجحت في مد وجودها في العديد من البلدان حول العالم، خصوصًا في إفريقيا خلال السنوات الأخيرة، لكنه حذر الدول الإفريقية من تبعات هذا التمدد الصيني، معتبرًا أن “ما يبدو جيدًا على المدى القصير يمكن أن ينتهي إلى نتائج سيئة على المدى المتوسط والطويل”. كما انتقد “ماكرون” الاستثمارات الصينية في إفريقيا، معتبرًا إياها تؤثر سلبًا على سيادة شركاء فرنسا التاريخيين من الدول الإفريقية، وتضعف من قدراتهم الاقتصادية. وعلى الرغم من تركيز “ماكرون” على الجانب الاقتصادي خلال زيارته لجيبوتي، إلا أنه لم يوقّع أي اتفاق تجاري على العكس مما شهدته زيارته لإثيوبيا وكينيا.
وتُعد زيارة الرئيس “ماكرون” إلى إثيوبيا واحدة من أهم زياراته الخارجية منذ توليه السلطة، خاصة في ظل محاولته تأسيس تحالف قوي مع “أبيي أحمد” (رئيس الوزراء الإثيوبي) الذي لم يُكمل بعدُ عامه الأول في السلطة، والذي شهدت شهور حكمه تحولات كبرى محلية وإقليمية. فخلال اللقاء الثنائي الذي جمع بين “ماكرون” و”أبيي أحمد” عبّر الرئيس الفرنسي عن تقديره لرئيس الوزراء الإثيوبي، مشيدًا بـــ”التغير الجذري” الذي شهدته إثيوبيا على يد رئيس الوزراء الجديد، وهو التغيير الذي يتيح الفرصة لفتح “صفحة جديدة” في العلاقات الثنائية، على حد تعبيره.
واحتل التعاون العسكري جانبًا مهمًّا من الزيارة، خاصة بعد إعلان إثيوبيا اعتمادها على التجربة الفرنسية فيما تعتزمه من إعادة تأسيس قواتها البحرية. فضلًا عن توقيع اتفاقيات تتعلق بالتعاون في المجال الجوي العسكري، بالإضافة إلى اتفاقية تتعلق بالتدريب وبناء القدرات والتعاون الاستراتيجي، وهو ما جسده الإعلان عن تشكيل لجنة مشتركة لبحث الآفاق المستقبلية للتعاون في مجال مبيعات الأسلحة. ويأتي هذا الاهتمام الفرنسي بالتعاون مع إثيوبيا في المجال العسكري وخصوصًا في بناء القوات البحرية الإثيوبية استكمالًا للترتيبات الفرنسية التي تفضل إقامة القواعد البحرية الإثيوبية في جيبوتي وليس في إريتريا، وهي القضية التي كانت موضعًا للنقاش بين “ماكرون” والرئيس الجيبوتي. ومن المتوقع أن تغطي فرنسا الجانب المالي لتأسيس البحرية الإثيوبية عبر قرض أولي تبلغ قيمته 96 مليون دولار.
كما شهدت الزيارة اهتمامًا مناظرًا بالشراكة الاقتصادية، خاصة مع انضمام ثمانية من كبار رجال الأعمال الفرنسيين للوفد المرافق للرئيس في مقدمتهم “ستيفان ريشار” مدير شركة أورانج العاملة في مجال الاتصالات، و”جان-برنار ليفي” مدير شركة الكهرباء الفرنسية EDF. وعلى المستوى الثقافي شهدت الزيارة إطلاق المشاركة الفرنسية في ترميم موقع “لاليبيلا” الأثري الذي يتمتع بأهمية دينية كبيرة لدى مسيحيي إثيوبيا. ومما زاد من أهمية زيارة “ماكرون” لإثيوبيا اللقاء الذي جمعه برئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي “موسى فقيه محمد”، والذي عكس اهتمامًا فرنسيًّا بقضايا القارة الإفريقية ككل.
واختتم “ماكرون” جولته في شرق إفريقيا بزيارة كينيا في سابقة لم يقم بها أي رئيس فرنسي آخر. وبجانب لقائه بنظيره الكيني “أوهورو كينياتا”، شارك “ماكرون” في قمة “كوكب واحد” المتعلقة بالتغير المناخي والتي أطلق دورة انعقادها الأولى بنفسه عام 2017. وقد شهدت مشاركة “ماكرون” في الدورة الجديدة للقمة إعادة تأكيد الالتزام الرسمي الفرنسي بقضايا مكافحة التغير المناخي، والتي تعد من أولويات السياسة الخارجية الفرنسية. وعلى مستوى العلاقات الثنائية، احتل الملف الاقتصادي صدارة الملفات محل الاهتمام، حيث وقّع الرئيسان الفرنسي والكيني عقودًا اقتصادية تجاوزت قيمتها 2 مليار يورو تَرَكّز أغلبها في قطاع البنية التحتية، إذ تضمنت بناء وتشغيل خط للسكك الحديدة السريعة يربط العاصمة نيروبي بمقاطعة ناكورو غرب البلاد والذي سيقوم بتنفيذه تحالف تقوده شركة “فينسي” Vinci، بجانب تعاقد بقيمة 70 مليون يورو لتأسيس محطتين لتوليد الطاقة الشمسية تتولى تنفيذه شركة فولتاليا Voltalia، وتعاقد بقيمة 200 مليون يورو في مجال مراقبة السواحل والمياه الإقليمية الكينية يتولى تنفيذه تحالف تقوده شركة إيرباص Airbus.
تبعات زيارة “ماكرون” على التنافس الدولي في شرق إفريقيا
لم تقتصر نتائج زيارة “ماكرون” لجيبوتي وإثيوبيا وكينيا على تطوير العلاقات الثنائية بين فرنسا وكل من الدول الثلاث، بل كان لهذه الزيارة نتائج مهمة تتعلق بالتنافس الدولي المتصاعد في منطقة شرق إفريقيا على أكثر من مستوى. وكان أبرز ملامحها ما يلي:
1- المزيد من عسكرة البحر الأحمر، وذلك عبر تسارع الإجراءات المتعلقة بتأسيس القوات البحرية الإثيوبية التي تلعب فرنسا فيها دورًا أساسيًّا، سواء بالتمويل أو التسليح أو التدريب، فضلًا عن الدعم السياسي الذي سيتيح لإثيوبيا التمركز في جيبوتي بما يتجاوز العقبات السياسية المتعلقة بالتمركز في إريتريا أو السودان، أو المشكلات الأمنية المترتبة على التمركز في الصومال، أو الموقع النائي المقترح سلفًا للتمركز على السواحل الكينية على المحيط الهندي. وفي ظل الأوضاع القائمة ستعتبر فرنسا الوجود البحري العسكري للقوات الإثيوبية رصيدًا إضافيًّا للوجود الفرنسي القائم أصلًا في جيبوتي.
2- تبلور محاور دولية وإقليمية جديدة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر في المجال الاقتصادي على أقل تقدير. فالزيارة الرئاسية الفرنسية لإثيوبيا أكدت حقيقة أن فرنسا هي المستفيد الأكبر من انصراف الحكومة الإثيوبية عن تحالفها الاقتصادي التقليدي مع الصين طوال عهد “ميليس زيناوي” و”ديسالين”، وهي الحقيقة التي ظهرت أولًا خلال زيارة “أبيي أحمد” لفرنسا، وأكدها الطابع الاقتصادي الذي غلب على زيارة “ماكرون” لإثيوبيا. ويأتي التقارب الفرنسي-الإثيوبي لمواجهة الطفرة الكبيرة في العلاقة بين إيطاليا ومستعمرتها السابقة إريتريا، خصوصًا منذ زيارة رئيس الوزراء الإيطالي “جيوسيبي كونتي” لأسمرة في أكتوبر من عام 2018. ويكمل التقارب الصيني الإيطالي الصورة، حيث تتلاقى المصالح الاقتصادية للدولتين في أكثر من منطقة في العالم وعلى رأسها شرق إفريقيا. وتأتي تصريحات “ماكرون” المنتقدة للوجود الصيني في إفريقيا قبل أيام من زيارة الرئيس الصيني لإيطاليا في الثالث والعشرين من مارس، والتي شهدت انضمام إيطاليا لمبادرة الحزام والطريق كأول دولة متقدمة تنضم للمبادرة بعد توقيع اتفاقيات اقتصادية تجاوزت قيمتها 2,5 مليار يورو. كما تأتي تصريحات “ماكرون” على خلفية أزمات دبلوماسية متكررة بين فرنسا وإيطاليا تتعلق بالانتقادات المتبادلة للسياسة الخارجية في إفريقيا.
3- تأكيد الانتقائية الفرنسية كما عكستها انتقادات “ماكرون” للوجود الصيني في إفريقيا، متجنبًا الإشارة لأطراف دولية أخرى أكثر قوة وتأثيرًا كالولايات المتحدة وروسيا. فبقدر ما عكسته انتقادات “ماكرون” للوجود الصيني في إفريقيا من “شجاعة” استثنائية، تجنب “ماكرون” أي إشارة للوجود الروسي المتزايد في القارة ذاتها، والذي أخذ في العامين الأخيرين طابعًا أكثر حدة وتوسعًا. فعلى سبيل المثال، تسيطر روسيا بدرجة كبيرة على جمهورية إفريقيا الوسطى، المستعمرة الفرنسية السابقة التي تحتل موقعًا مركزيًّا في قلب القارة والتي طالما كانت التدخلات الدولية فيها حكرًا على فرنسا، وذلك بالتكامل مع التقارب الروسي من الجابون، المستعمرة الفرنسية السابقة الأخرى، خاصة في مجال التعدين والنفط، فضلًا عن الاهتمام الروسي المتزايد بالبحر الأحمر، والذي تعتمد فيه بالأساس على علاقاتها المتنامية بكل من السودان وإريتريا.
ولا يزال الوقت مبكرًا للحديث عن استدامة المحاور الجديدة الآخذة في التشكل في شرق إفريقيا، والتي تجمع أطرافًا دولية وإقليمية. إذ يمكن قراءة التحركات الأخيرة باعتبارها “هروبًا جماعيًّا للأمام”، سواء من جانب القوى الأوروبية التي تعاني أزمات اقتصادية وسياسية حادة، أو من جانب اللاعبين الرئيسيين في شرق إفريقيا. لكن تظل زيارة “ماكرون” الناجحة لشرق إفريقيا ذات أهمية، خاصة لفرنسا ولدول المنطقة وللمتنافسين الدوليين فيها.