تقوم مصر بجهود مكوكية مضنية مع كل الأطراف المعنية (الفلسطينية والإسرائيلية والولايات المتحدة والدول العربية) للتوافق على مسودة الاتفاق التي أعدته للتوصل إلى هدنة بين إسرائيل وحماس، بالعمل على تسوية القضايا الخلافية وتقديم تنازلات متبادلة، لأنها بمثابة “الفرصة الأخيرة للأطراف المتحاربة ودول الإقليم والقوى الدولية المعنية باستقرار الشرق الأوسط، بما يحقق عدة أهداف رئيسية أبرزها عدم تحول الوجود العسكري الإسرائيلي في رفح الفلسطينية إلى اجتياح كبير، ووقف إطلاق النار كمدخل لإيقاف مسار الحرب، وإدخال المساعدات الإنسانية لكافة مناطق القطاع، وبدء التفكير في إعادة بناء أو إعمار قطاع غزة، فضلا عن منع التوتر في العلاقات العربية الإقليمية.
تشهد المرحلة المقبلة نقاشا مفصلا بشأن القضايا العقدة (الجوانب الفنية للاتفاق) بين حماس وإسرائيل التي تتمثل في تحديد دقيق لعدد المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس وغيرها من فصائل المقاومة مقابل عدد السجناء والمعتقلين الفلسطينيين حسب القوائم التي سيتم الاتفاق عليها، ومدى انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع بشكل متدرج وصولا إلى الخروج الكامل، والابتعاد عن المناطق المكتظة بالسكان إلى منطقة قريبة من الحدود في كافة أنحاء قطاع غزة، وبدء عودة النازحين المدنيين في قطاع غزة إلى مناطق إقامتهم.
وفي هذا السياق، دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي في تدوينة نشرها عبر منصة “إكس” مساء يوم 6 مايو الجاري، كل الأطراف لبذل المزيد من الجهد للوصول إلى اتفاق يؤدي إلى إنهاء المأساة الإنسانية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني وإتمام استبدال الرهائن والسجناء، وبما يجعله هدنة شاملة. ويتزامن مع ذلك وجود رأي سائد داخل الأجهزة الأمنية وبعض القيادات العسكرية الإسرائيلية “وزير الدفاع ورؤساء هيئة الأركان والشاباك والموساد ومسؤول ملف المفاوضات” بأن الحرب وصلت إلى طريق مسدود، مما يتطلب التفكير في صفقة تهدئة تؤدي إلى استعادة المحتجزين.
محددات حاكمة
وانطلاقا مما سبق ذكره، يمكن القول أن هناك عدة محددات تحكم مصر للإسراع في التوصل إلى اتفاق التهدئة بين الطرفين المتحاربين، على النحو التالي:
1- عدم تحول الوجود العسكري الإسرائيلي في رفح الفلسطينية إلى اجتياح كبير: العملية الإسرائيلية في رفح لاتزال “محدودة” في الأطراف الشرقية لرفح وليس في العمق، غير أن مصر تعترض على السلوك الذي تقوم به حكومة نتانياهو وهو القيام بالتصعيد العسكري كمدخل للضغط على حماس لتقديم تنازلات بعد قبولها باتفاق التهدئة الذي أعدته مصر، الأمر الذي دفع الجيش الإسرائيلي للسيطرة على معبر رفح من الجانب الفلسطيني، والتهديد بالتوغل الكامل داخل رفح والتي تعتبر آخر منطقة آمنة نسبياً بقطاع غزة والملاذ الأخير لأكثر من مليون فلسطيني، الأمر الذي قد يسفر عن كارثة إنسانية غير مسبوقة ينبغي تجنبها.
وعلى الرغم من أن التفسير الإسرائيلي مرتبط بأن السيطرة على المعبر الحدودي الرئيسي بين غزة ومصر في مدينة رفح يعد رد فعل لاستهداف مناطق قريبة من معبر كرم أبو سالم إلا أن القاهرة ترى أن التصعيد والتصعيد المضاد لا يخدم جهود التهدئة. وفي هذا السياق، قال بيان صادر عن وزارة الخارجية المصرية بتاريخ 8 مايو الجاري “أن العملية الإسرائيلية في مدينة رفح جنوب قطاع غزة تهدد مصير الجهود المضنية المبذولة للتوصل إلى هدنة مستدامة داخل غزة”، مضيفا “أن مصر تعتبر هذا التصعيد الخطير يهدد حياة أكثر من مليون فلسطيني”. فالموقف المصري معارض للعملية، لاسيما أنه قد يقود إلى نزوح الفلسطينيين باتجاه الحدود المصرية، وهو ما يمثل ضغطا سياسيا وإنسانيا على مصر.
2- وقف إطلاق النار كمدخل لإيقاف مسار الحرب: على الرغم من الرفض الإسرائيلي لوقف الحرب الذي طالبت به حماس للقبول باتفاق التهدئة إلا أن مسودة الاتفاق تتخذ من وقف إطلاق النار بصورة مؤقتة سبيلا للتوصل إلى نهاية الحرب في المرحلة الثالثة من الاتفاق، وهو ما يمثل حلا وسطا مرضيا للطرفين الحمساوي والإسرائيلي، مع الأخذ في الاعتبار أن تل أبيب فقدت ميزتين في الفترة الماضية وهو الدعم السياسي الأمريكي ووحدة الشارع الإسرائيلي، وإن كان ذلك عائق ضعيف أمام التيار الرئيسي في الحكومة اليمنية الإسرائيلية.
فنتانياهو ليس الداعم الوحيد لاستمرار الحرب بل يشاركه تلك الرؤية بيني غانتس، عضو مجلس الحرب حيث يرى إن إنهاء العمليات العسكرية من دون رفح معناه “إطفاء 80% من الحريق”، مما يُعطي حركة حماس الفرصة لإعادة بناء نفسها من جديد. علاوة على أن المدن الإسرائيلية تشهد مظاهرات يومية لعائلات الجنود الإسرائيليين القتلى التي تطالب باستمرار الحرب، كما أطلقت حركات يمينية حملة جماهيرية من أجل الضغط على الحكومة لتنفيذ العملية في رفح تحت شعار “القضاء على حماس شرط لوجود إسرائيل”، في مقابل مظاهرات لعائلات الأسرى الإسرائيليين لدى حماس التي تدعو رئيس الحكومة للقبول باتفاق التهدئة. وتعمل مصر على استغلال ذلك الانقسام لمنع الحشد خلف القيادة السياسية في إسرائيل لمواصلة الحرب وعرقلة التهدئة.
3- إدخال المساعدات الإنسانية لكافة مناطق قطاع غزة: يحكم التفكير المصري أن الوصول لاتفاق تهدئة هو دخول المزيد من المساعدات الإنسانية، الإغاثية والطبية، لكافة مناطق القطاع، شماله وجنوبه ووسطه، إذ سيتم فتح المعابر المختلفة، ووصول المساعدات بالكميات التي تلبي احتياجات الشعب الفلسطيني. لذا، طالبت وزارة الخارجية المصرية في بيان صادر بتاريخ 8 مايو، إسرائيل بـ”ممارسة أقصى درجات ضبط النفس، وتجنب المزيد من التصعيد في هذا التوقيت بالغ الحساسية في مسار مفاوضات وقف إطلاق النار، وحقنا لدماء المدنيين الفلسطينيين الذين يتعرضون لكارثة إنسانية غير مسبوقة منذ بدء الحرب على قطاع غزة”.
4- بدء التفكير في إعادة بناء أو إعمار قطاع غزة: تعد قضية إعمار غزة أو التعافي أو ما يعرف باليوم التالي، لمرحلة ما بعد سكوت المدافع أحد الدوافع الرئيسية الحاكمة للسلوك المصري الداعم للوصول إلى اتفاق تهدئة والذي ينقل التفاعلات من حالة الحرب والعسكرة إلى التهدئة والتعمير، واستعادة الحياة من جديد بعد أن تحول قطاع غزة إلى منطقة موت على نحو ما تعكسه المعدلات غير المسبوقة في الخسائر البشرية والدمار الواسع في البنية التحتية، لدرجة أن هناك تقديرات دولية بأن إعادة إعمار قد تستمر للقرن المقبل إذا سارت الوتيرة بتوجه إعادة الإعمار نفسها في الصراعات والحروب السابقة.
فالتنمية البشرية في غزة بكل مكوناتها من صحة وتعليم واقتصاد وبنى تحتية تراجعت أربعة عقود، وأن 72% من الأبنية السكنية دُمّرت كلّيا أو جزئيا، وفي هذا السياق، كشفت تقرير صادر عن الأمم المتحدة في مايو الجاري عن أن تكلفة إعادة إعمار قطاع غزة تقدر بنحو 40 مليار دولار، لكن هذه ليست القيمة النهائية على الأرض بل الخسائر تتزايد مع استمرار الحرب، وبلغ حجم الركام أربعين مليون طن والتعامل مع آلاف الجثامين تحت هذا الركام، هذا بخلاف الآثار النفسية للحرب على السكان المدنيين، وكذلك الزيادة الحادة في الفقر في مثل هذه الفترة القصيرة، ستؤدي إلى أزمة إنمائية خطرة تهدد مستقبل الأجيال القادمة وهو ما اعتبره البعض المهمة التي لم يسبق للمجتمع الدولي التعامل معها منذ الحرب العالمية الثانية.
ويتطلب ذلك الوضع البدء في برنامج للتعافي المبكر المؤقت لمدة ثلاث سنوات بعد وقف الحرب. وقد جرت مناقشات خلال الفترة الماضية بين البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ودول عربية والقيام بسرعة بإسكان الفلسطينيين النازحين في سكن كريم وإعادة حياتهم الطبيعية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية لأنهم لا يملكون رفاهية الوقت بانتظار عقود من الزمن للإعمار. إن غزة ستحتاج إلى “خطة مارشال” جديدة للتعافي في إشارة إلى الخطة العملاقة التي رعتها الولايات المتحدة لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. غير أنه توجد شكوك عميقة بشأن جاهزية الغرب في القيام بتلك المهمة بالاشتراك مع الدول العربية ذات الملاءمة المالية والقدرات البشرية والمعنية بإعمار غزة لاسيما في ظل صراعات داخلية في دول عربية وتحتاج لجهود التسوية وإعادة الإعمار أيضا.
5- منع التوتر في العلاقات العربية الإقليمية: كادت المنطقة أن تدخل في مسار التهدئة بديلا عن مسار التوتر الذي غلب على العلاقات العربية البينية، والعلاقات العربية مع القوى الإقليمية، وخاصة إيران وتركيا وإسرائيل وأثيوبيا، لاعتبارات تتعلق بأن تكلفة السلم والتعاون أقل بكثير من تكلفة الحرب والصراع، وهو ما أدى إلى تحول في مسار العلاقات بين دول الرباعية العربية وقطر في أعقاب التوقيع على اتفاق العلا، وعودة سوريا إلى عضويتها بجامعة الدول العربية وحضورها القمة العربية الأخيرة في الرياض، وعودة متدرجة في العلاقات بين مصر وتركيا بين عقد من التوتر في أعقاب سقوط نظام حكم الإخوان المسلمين، وتحسن نسبي في العلاقات السعودية الإماراتية مع تركيا، وتوقيع السعودية وإيران على اتفاق استعادة العلاقات الدبلوماسية برعاية بكين، هذا بخلاف أحاديث متواترة عن استعداد إيراني لبحث توثيق العلاقة مع مصر.
غير أن هجمات 7 أكتوبر 2023 وما نتج عنها من اشتعال الحرب بين إسرائيل وحماس أدى إلى توجه الأنظار إلى ضرورة الانشغال باحتواء طرفي الحرب ومنع اتساع نطاقها في إطار ما يطلق عليه البعض “وحدة الساحات”. ولذا، يردد المسئولون المصريون في مختلف المحافل الإقليمية والدولية وجود علاقة ارتباطية بين ما يجري في غزة والاستقرار الإقليمي، وهو ما يعكسه التصعيد في الضفة الغربية ولبنان والبحر الأحمر، الأمر الذي يؤثر تباعا على حركة التجارة العالمية والأوضاع التنموية داخل كل دولة في المنطقة. ولهذا كان الرئيس عبدالفتاح السيسي محقا في قوله خلال تأديته اليمين الدستورية لولايته الرئاسية الثالثة: “السنوات القليلة الماضية أثبتت أن طريق بناء الأوطان ليس مفروشا بالورود وأن تصاريف القدر ما بين محاولات الشر الإرهابي في الداخل والأزمات العالمية المفاجئة بالخارج والحروب الدولية والإقليمية من حولنا تفرض علينا مواجهة تحديات ربما لم تجتمع بهذا الحجم والحدة عبر تاريخ مصر الحديث”.
مسارات مختلفة
وفي هذا السياق، تتحرك مصر على أكثر من صعيد، على النحو التالي:
أولها، وضع الجيش المصري على أهبة الاستعداد للتعامل مع كل السيناريوهات المطروحة على طول خطوط الحدود الاستراتيجية، سواء من الشرق بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أو من الغرب بعد السيولة المتعددة للأوضاع في ليبيا، أو من الجنوب حيث يتنازع الجيش السوداني مع قوات الدعم السريع على السيطرة على السلطة. ولذا، كانت إشارة الرئيس السيسي في خطاب ولايته الثالثة إلى “أولوية صون أمن مصر القومي في محيط دولي وإقليمي غير مستقر”.
ثانيها، تعزيز الاتصالات المصرية مع واشنطن للضغط على إسرائيل لعدم إضاعة الفرصة المتاحة للتوصل إلى اتفاق هدنة يسمح بتبادل الأسرى والمحتجزين ووقف نزيف الدماء لبضعة أسابيع يقود إلى وقف كامل لإطلاق النار، والبناء على جهود الوساطة الحالية للوصول لانفراجة لهذا الوضع المتأزم.
ثالثها، مواصلة التنسيق مع الأطراف العربية، وخاصة السعودية والإمارات والأردن، للحيلولة دون استمرار التصعيد والانزلاق بالمنطقة إلى صراع أوسع بين إسرائيل من جهة ومحور المقاومة بزعامة إيران من جهة أخرى. وكذلك توجيه إشارات لإسرائيل من دول عربية مختلفة بأن حالة التطبيع الإقليمي معها مرهون بمقاربة جديدة مع الفلسطينيين.
رابعها، الحرص على دفع الجانبين الإسرائيلي والحمساوي على تقديم تنازلات متبادلة فيما يخص القضايا الحرجة في التفاوض، لأنهما يدخلان التفاوض في إطار “توازنات ضعف” وليس “توازنات قوة” بعد مرور أكثر من 200 يوم من عمر الحرب إذ لم تتمكن قيادة إسرائيل من تحقيق أهداف شن الحرب ولم تدرك مبكرا قيادة حماس في الداخل والخارج الخسائر البشرية والمادية للقطاع قبل شن هجمات 7 أكتوبر.
خامسها، التأكيد على أهمية تعزيز مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية حتى لو كانت منزوعة السلاح، وأهمية تفعيل حل الدولتين كأساس للتسوية الشاملة للقضية الفلسطينية باعتباره الملاذ الوحيد لاستعادة الأمن والاستقرار في المنطقة. فضلا عن إصلاح السلطة الفلسطينية حتى تكون قادرة على مواكبة التحديات التي تعصف بالقضية الفلسطينية.