أولًا: الدبلوماسية البرلمانية.. قراءة في المفهوم وسياق الدور
في ظل ما أضفته العولمة على عالمنا المُعاصر من ظواهر؛ أبرزها انكماش المسافة بين المحلي والعالمي، وبالنظر إلى ما يشهده السياق الدولي الراهن من تطورات مُتسارعة وغير مسبوقة مصحوبة بتهديدات أضحت معها البيئة العالمية تواجه أخطارًا نوعية وجسيمة على مختلف الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية والبيئية، وهو ما رسخ شواغل عميقة لدى الرأي العام العالمي أفرزت توجهًا لديه بالضرورة القصوى والمُلحة للاشتراك المُباشر للبرلمانيين في عملية صنع القرار تجاه تلك القضايا والمُهددات العالمية، فبعد أن كانت الدبلوماسية مقصورة على التواصل والتفاعل بين المُمثلين الرسميين للدولة أصبح هناك توجه بضرورة تجاوز الدور التقليدي للبرلمانات والمؤسسات التشريعية في عملية التشريع والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية إلى الاشتراك في الأدوار الدبلوماسية، وهو ما يتجلى في الدبلوماسية البرلمانية بأشكالها المتعددة، والتي أصبحت يُنظر إليها ويُعول عليها في أدوار استثنائية لحلحلة الأزمات المُهددة للسلم والأمن العالميين.
وعلى الرغم من البروز الحالي لدور الدبلوماسية البرلمانية في مواجهة القضايا والأزمات العالمية، إلا أن وجودها ليس وليد اللحظة الراهنة ولا حتى الماضي القريب، بل إن ميلادها الحقيقي يعود لنهاية القرن التاسع عشر، ومنذ نشأتها تطور دور الدبلوماسية البرلمانية بهدف زيادة الروابط بين شعوب العالم وتعزيز القيم الإنسانية العالمية كالديموقراطية ومبادئ القانون الدولي، فضلًا عن تعزيز استتباب السلم والأمن العالميين، وذلك عبر المحافل البرلمانية الدولية والقارية، والتي تُتيح فرصًا نوعية للالتقاء المنتظم بين البرلمانيين من أجل التشاور وبحث سبل مجابهة التهديدات والأزمات العالمية بما يمتلكونه من تفويض دستوري من قبل شعوبهم تدعمه ثقة الناخبين، وعلى جانب آخر فإن احتكاك البرلمانيين المستمر بالناخبين يجعلهم أكثر استشعارًا لاتجاهات الرأي العام حيال مختلف القضايا وبالتالي هم الأقدر في التعبير عنها، وهو ما يُتيح لهم هامش حركة ومناورة ربما لا يتوفر لدى المُمثلين الحكوميين والرسميين للدول في تعاطيهم مع تلك القضايا والأزمات.
ثانيًا: صور وأشكال الدبلوماسية البرلمانية
تمتلك الدبلوماسية البرلمانية شكلين رئيسيين للقيام بدورها؛ وهما الدبلوماسية البرلمانية الثنائية، والتي تتضمن سُبل تعزيز العلاقات الثنائية بين برلمانات الدول بغرض تبادل الخبرات البرلمانية والتشريعية، فضلًا عن تعزيز التشاور والتنسيق البرلماني الثنائي حيال القضايا الإقليمية والدولية والمُدرجة على أجندة المحافل البرلمانية الدولية، وتمارس البرلمانات الشق الثنائي من الدبلوماسية البرلمانية عبر آليات أبرزها جمعيات الصداقة البرلمانية الثنائية، والتي تُسهم بشكل كبير في استكشاف وتعزيز فرص التعاون الثنائي بين الدول، فضلًا عن كونها رافدًا مُهمًا لتعزيز علاقات التعاون والصداقة والتواصل بين الشعوب، بينما تشمل الدبلوماسية البرلمانية مُتعددة الأطراف، العلاقات البرلمانية الجماعية في إطار المنظمات البرلمانية الدولية والإقليمية، ويختص هذا الشق من الدبلوماسية البرلمانية بمهمة التنسيق بين مواقف البرلمانات حيال القضايا العالمية، وبحث المسائل ذات المصلحة الدولية من أجل اتخاذ موقف برلماني جماعي تجاه قضايا السلم والأمن العالميين مثل قضايا الانتشار النووي ومكافحة الإرهاب وإصلاح مؤسسات النظام الدولي وتسوية النزاعات العالمية، فضلًا عن القضايا الاقتصادية والبيئية والاجتماعية العالمية، مثل سبل دفع التنمية الاقتصادية العالمية ومكافحة ظاهرتي تغير المُناخ والتصحر وقضايا تمكين المرأة والشباب وحقوق الطفل ومكافحة الفقر، بالإضافة لتعزيز العمل البرلماني الجماعي في الدفاع عن قيم الديموقراطية بما يُرسخ أسس الحكم الرشيد، والمساهمة في دفع مسيرة العمل البرلماني وتنميته وتعظيم أدوره ووسائله بُغية تعزيز المُشاركة الشعبية في صنع القرار بمستوياته المحلية والعالمية.
ويضطلع الاتحاد البرلماني الدولي بوصفه المنظمة البرلمانية العالمية الأكبر والأقدم بالدور الرئيسي للدبلوماسية البرلمانية متعددة الأطراف؛ إذ يُعد الاتحاد الذي يعود تاريخ نشأته إلى نهاية القرن التاسع عشر وتحديدًا عام 1889 خير دليل على السبق للدبلوماسية البرلمانية في الانخراط داخل تنظيم دولي ينسق جهودها ويدعم من وشائج وأواصر الصداقة بين البرلمانيين، ويوحد مواقفهم إزاء مختلف القضايا الدولية، ويعزز التعاون بين الشعوب التي يُمثلونها، فجاءت نشأته السابقة لنشأة المُنظمات الدولية الحكومية لتؤكد قدم مفهوم الدبلوماسية البرلمانية، خاصة في بعده العالمي والجماعي، كما تلا إنشاء الاتحاد البرلماني الدولي ظهور المنظمات والاتحادات البرلمانية الإقليمية والقارية لتعزيز التعاون الإقليمي مثل الاتحاد البرلماني العربي والبرلمان العربي والاتحاد البرلماني الأفريقي وبرلمان عموم أفريقيا وبرلمان البحر الأبيض المتوسط والجمعية البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط والبرلمان الأوروبي واتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي والجمعية البرلمانية الآسيوية وغيرها من الاتحادات والمنظمات، والتي تُعزز من صيغ التعاون الإقليمي والعالمي.
ثالثًا: الدبلوماسية البرلمانية المصرية تاريخ عريق ودور رائد
تستمد الدبلوماسية البرلمانية المصرية ريادتها وفاعليتها من عراقة البرلمان المصري الذي يزيد عمره على أكثر من 150 عامًا؛ إذ انخرطت مُبكرًا في أنشطة الدبلوماسية البرلمانية بشقها مُتعدد الأطراف، حيث يحتفل البرلمان المصري هذا العام بمئوية انضمامه إلى الاتحاد البرلماني الدولي كأول برلمان عربي وأفريقي ينضم للمنظمة البرلمانية العالمية الأكبر والأقدم عام 1924، مُسجلًا تاريخًا من الريادة في مجال الدبلوماسية البرلمانية، حيث حرصت الدبلوماسية البرلمانية المصرية على استغلال عضويتها بالاتحاد البرلماني الدولي في البداية في تحقيق الهدف الأسمى والأنبل آنذاك، وهو سعي مصر للحصول على استقلالها التام، عبر عرض المسألة المصرية على وفود برلمانات العالم الذين كانوا يمثلون طليعة أصحاب الرأي في السياسة الخارجية لبلادهم.
كما حازت مصر بشرف استضافة أعمال اجتماعات الاتحاد البرلماني الدولي في القاهرة عامي 1947 و1997، فضلًا عن تولي الدكتور/ أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المصري السابق رئاسة الاتحاد البرلماني الدولي خلال الفترة من 1994 – 1997، كما شهد البرلمان المصري خلال استضافته لاجتماعات الاتحاد البرلماني الدولي بالقاهرة عام 1997 صدور الإعلان العالمي للديموقراطية، وغيرها من المحطات الوطنية المُضيئة للدبلوماسية البرلمانية المصرية، والتي كان أبرزها في السنوات الماضية، دورها الرائد في عرض حقيقة الأوضاع في مصر عقب قيام ثورة الثلاثين من يونيو، وما قامت به من مجهود استثنائي في إيضاح حقيقة ثورة الشعب المصري على جماعات الإرهاب والظلام، وشرح ما تم من إجراءات لإعادة تماسك وبنية الدولة المصرية ومؤسساتها، وكذا تفنيد الادعاءات المُضللة التي تروج لها التنظيمات الإرهابية، وتُوج هذا الجهد باعتراف الاتحاد البرلماني الدولي بثورة الشعب المصري في 30 يونيو عام 2013 كأول منظمة دولية تعترف بها في ترجمة حقيقية للدور التاريخي والرائد للدبلوماسية البرلمانية المصرية وفاعليتها.
ولم تكتف الدبلوماسية البرلمانية المصرية بالانخراط فقط في أنشطة الاتحاد البرلماني الدولي، بل ساهمت في تأسيس المنظمات والاتحادات البرلمانية الإقليمية والقارية في نطاق دوائرها العربية والأفريقية والإسلامية والأورومتوسطية، وفي خلال كل ذلك قامت بدور رائد في الدفاع عن مُحددات وثوابت الدولة المصرية تجاه مختلف القضايا الوطنية والإقليمية والعالمية بُغية تحقيق أهداف السياسة الخارجية المصرية، وفي مقدمتها صون وتعزيز المصالح الحيوية المصرية والحفاظ على الأمن القومي المصري، فضلًا عن العمل الحثيث على تعزيز العمل العربي والأفريقي المُشترك، والدفاع عن القضايا العربية والأفريقية في المحافل البرلمانية الدولية.
وعلى الصعيد الثنائي، تلعب الدبلوماسية البرلمانية المصرية دورًا رائدًا في دعم علاقات مصر مع مختلف دول العالم، حيث تُمثل لقاءات البرلمانيين المصريين مع نظرائهم من برلمانات العالم فرصة نوعية في تعزيز العلاقات الثنائية المصرية مع الدول الشقيقة والصديقة، بحيث أضحت الدبلوماسية البرلمانية المصرية وآلياتها مثل جمعيات الصداقة البرلمانية رافدًا مُهمًا في تعزيز المصالح المصرية في كافة أنحاء العالم، وإيصال وجهة النظر المصرية حيال مُختلف القضايا الإقليمية والعالمية، فضلًا عن استعراض مجهودات وخبرات الدولة المصرية في مختلف المجالات، بالإضافة لتبادل الخبرات البرلمانية والتشريعية مع برلمانات العالم، والتنسيق الثنائي معهم حيال مختلف القضايا العالمية المطروحة على أجندة المنظمات والمحافل البرلمانية الدولية، وهو ما يُمثل دعمًا للدبلوماسية الحكومية والرسمية على كافة الأصعدة.
رابعًا: الدبلوماسية البرلمانية المصرية ودعم القضية الفلسطينية.. التزام راسخ
لطالما احتلت القضية الفلسطينية قمة أولويات السياسة الخارجية المصرية باعتبارها القضية المركزية الأولى، فدأبت الدولة المصرية بكافة مؤسساتها على دعم كفاح الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه العادلة بإقامة دولته الفلسطينية المُستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وفي هذا الإطار، قامت الدبلوماسية البرلمانية المصرية عبر تاريخها بدور رائد وداعم لتوجه الدولة المصرية في هذا الشأن، عبر قيام البرلمانيين المصريين بتناول وشرح أبعاد القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في لقاءاتهم مع نظرائهم من برلمانات العالم، فضلًا عن التنسيق مع برلمانات الدول الشقيقة والصديقة من أجل دعم حقوق الشعب الفلسطيني في المحافل البرلمانية الدولية والقارية، وتوحيد وتنسيق الرؤى من أجل خروج قرارات من المنظمات البرلمانية الدولية تدعم قيام الدولة الفلسطينية وفقًا للقرارات والمرجعيات الدولية ذات الصلة.
ومؤخرًا، ومنذ ما يزيد على مائتي يوم، تمر القضية الفلسطينية بمُنعطف حاد للغاية بتعرض الشعب الفلسطيني الشقيق في قطاع غزة لعدوان إسرائيلي غاشم يُمثل حلقة جديدة من حلقات العنف المُفرط التي مُورست وتُمارس ضده منذ عقود عديدة، وهو ما يحمل في طياته تهديدات جسيمة مُمتدة الأثر والتداعيات، ليس على مستوى القضية الفلسطينية فحسب، بل على أمن واستقرار الإقليم والعالم بأسره، وهو ما حذرت وتحذر منه الدولة المصرية مرارًا وتكرارًا في كافة المحافل، وفي إطار هذه الأزمة الجسيمة التي تمر بها القضية الفلسطينية، اضطلعت الدبلوماسية البرلمانية المصرية بدور رائد في دعم جهود الدولة المصرية ومؤسساتها للوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وإنفاذ المساعدات الإنسانية للأشقاء الفلسطينيين في قطاع غزة.
فعلى الصعيد الوطني، خصص مجلس النواب المصري جلساته العامة لتوجيه رسائل دعم للشعب الفلسطيني الشقيق والقضية الفلسطينية، وتأييد جهود الدولة المصرية ومؤسساتها تجاه وضع حد لمعاناة الأشقاء الفلسطينيين وإرساء حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية وبما يكفل حفظ وصون الأمن القومي المصري في اتجاهه الاستراتيجي الشرقي، وعلى الصعيد البرلماني الثنائي، كانت ولا تزال القضية الفلسطينية حاضرة على أجندة كافة لقاءات البرلمانيين المصريين مع الوفود البرلمانية من جميع دول العالم، وكذا في اللقاءات البرلمانية المصرية مع مسئولي المنظمات الدولية لتوضيح حقيقة الأوضاع والمأساة المؤلمة التي تعرض ويتعرض لها الشعب الفلسطيني حاليًا مع استعراض وبيان جهود الدولة المصرية للوصول لوقف فوري ودائم لإطلاق النار، وكذا جهود المؤسسات المصرية الرسمية وغير الرسمية في إغاثة وتنسيق دخول المساعدات الإنسانية للأشقاء الفلسطينيين في قطاع غزة.
وعلى صعيد الشق مُتعدد الأطراف، حشدت الدبلوماسية البرلمانية المصرية أدواتها عبر توليها مسئولية التنسيق بين برلمانات دول المجموعات الجيوسياسية العربية والأفريقية والإسلامية خلال اجتماعات الجمعية العامة للاتحاد البرلماني الدولي، للخروج بقرارات قوية وداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، كما تبذل الدبلوماسية البرلمانية المصرية بالتنسيق مع البرلمانات الشقيقة والصديقة جهودًا نوعية من أجل مخاطبة الرأي العام العالمي، وحث برلمانات العالم على التحلي بالمسئولية الأخلاقية، والضغط على الحكومات من أجل نيل الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف في إقامة دولته المُستقلة وفقًا لقرارات الشرعية الدولية.
وفي ضوء ما سبق، يتضح مدى تعاظم دور الدبلوماسية البرلمانية عالميًا، خاصةً في ظل ما يشهده العالم حاليًا من تحديات مُلحة، وهو ما ينطبق على الدبلوماسية البرلمانية المصرية التي قامت عبر تاريخها بجهد مشهود ومُمتد إلى الآن بقيامها بدور فاعل ورائد في دعم رؤى الدبلوماسية الرسمية والحكومية إزاء مُختلف القضايا الإقليمية والعالمية، بما تملكه من قدرة على النفاذ والانفتاح على برلمانات العالم، وشرح كافة أبعاد المواقف المصرية حيال مُختلف القضايا الوطنية والإقليمية والعالمية، وهو ما ظهر مؤخرًا في الأزمة الحالية التي تمر بها القضية الفلسطينية، مما يُثبت برسوخ الدور الحيوي للدبلوماسية البرلمانية المصرية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية المصرية وحفظ الأمن القومي المصري والعربي.