اهتمام جديد ظهر للطاقة النووية بسبب التأثيرات الواضحة لتغير المناخ والتحديات التي تواجه أمن الطاقة في العديد من البلدان؛ مما أدى إلى فرصة جديدة لأنظمة الطاقة النووية تتفوق فيها على مصادر الطاقة الأخرى. الطاقة النووية في دورة إنتاجها لا تسبب انبعاثات للغازات المسببة لتغير المناخ؛ وتتطلب كميات محدودة من الوقود -اليورانيوم المخصب في أغلب الأحيان- الذي يمكن تخزينه بسهولة ووضعه احتياطيًا لأوقات أطول. وأخيرًا، فهي تسمح بإنتاج الكهرباء بتكاليف أقل، وبهذا تتغلب الطاقة النووية حاليًا على العقبات الثلاث الأهم التي تواجه أنظمة الطاقة الأخرى حاليًا وهي: تغير المناخ العالمي، وأمن الطاقة، والقدرة التنافسية.
آفاق الطاقة النووية في العالم
وفقًا لبيانات الوكالة الدولية للطاقة (IEA) في عام 2022، كان هناك 440 محطة طاقة نووية نشطة في 33 دولة حول العالم بقدرات تبلغ 417 ألف ميجاوات، تجنب العالم حوالي 1.5 -2 جيجا طن من الانبعاثات العالمية سنويًا و180 مليار متر مكعب من الطلب العالمي على الغاز سنويًا. ووفقًا لتوقعات الوكالة الدولية للطاقة، سيبلغ إجمالي طاقة توليد الكهرباء في العالم في عام 2050، حوالي 650 ألف ميجاوات، تبعًا لسيناريو السياسات المعلنة، بينما في سيناريو الانبعاثات الصفرية، يمكن أن تصل هذه القدرة إلى 916 ألف ميجاوات، ليبلغ إجمالي إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية في العالم ما يقارب من 15% من الإجمالي العالمي، كما يتوقع أن يرتفع الاستثمار العالمي السنوي في الطاقة النووية من 30 مليار دولار أمريكي خلال العقد الأول من هذا القرن إلى أكثر من 100 مليار دولار بحلول عام 2030، ويظل أعلى من 80 مليار دولار حتى عام 2050.
شكل (1): إنتاج الطاقة النووية في مناطق العالم بالتيراوات/ ساعة حتى عام 2022.
المصدر: تقرير الأداء النووي العالم 2023.
والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة هي الدولة التي تنتج حاليًا أكبر قدر من الكهرباء النووية، تليها بالترتيب الصين وفرنسا وروسيا وكوريا الجنوبية وكندا. وتقدم أوروبا بما في ذلك المملكة المتحدة، أعلى مساهمة في الكهرباء النووية مع 125 مفاعل نووي عامل، متقدمة على الولايات المتحدة (99 مفاعل نووي) ودول جنوب شرق آسيا. وعلى وجه الخصوص، تعد فرنسا الدولة الأولى في العالم التي تحصل على حصة الكهرباء المنتجة بالطاقة النووية (55% من الإجمالي).
وهناك برامج جارية اليوم لبناء محطات طاقة نووية جديدة واسعة النطاق في الصين، وروسيا، والهند، والولايات المتحدة، فضلًا عن بعض دول المنطقة وعلى رأسها المشروع النووي في الضبعة بمصر، وكذلك مشروعات في تركيا، والإمارات العربية. وفي أوروبا، بدأت فرنسا العديد من البرامج النووية بهدف بناء ستة مفاعلات نووية من نوع “المفاعل الأوروبي المضغوط 2” (EPR2) ومن المقرر تركيبها بحلول عام 2035 وثمانية مفاعلات أخرى سيتم دخولها في الخدمة بحلول عام 2050. وفي الفترة نفسها، تخطط المملكة المتحدة للوصول إلى قدرة نووية مركبة تبلغ 24 ألف ميجاوات؛ أي أربعة أضعاف القدرة الحالية، وقادرة على توفير ما يصل إلى ربع احتياجات البلاد من الكهرباء. ويضاف إلى هذا المبادرات الرامية بناء محطات نووية جديدة من جانب بولندا وبلغاريا، والتي يمكن أن تتبعها جمهورية التشيك وربما المجر وكرواتيا. وعلى العكس من ذلك، قررت ألمانيا التخلي عن الطاقة النووية وإغلاق جميع محطات الطاقة النووية القائمة تبعًا لخطتها لتحول الطاقة، ولكن ربما تتراجع عن قرارها قليلًا إذا ما استمرت الأزمات في المنطقة.
وخلال المؤتمر الثامن والعشرين للأطراف بشأن تغير المناخ (COP28)، الذي انعقد في دبي في ديسمبر 2023، اتفق ممثلو أكثر من 25 دولة على الالتزام بمضاعفة القدرة النووية المثبتة إلى ثلاثة أمثالها بحلول عام 2050، وانعقدت القمة الأولى للطاقة النووية في 21 مارس 2024 في بروكسل، بحضور رؤساء الدول والحكومات وقادة الصناعة النووية من جميع أنحاء العالم، لتوفير متابعة عملية للقرارات المتخذة بشأن الطاقة النووية في دبي وتحديد الخطوات التي يجب اتخاذها. علاوة على ذلك، وبمبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تم إطلاق التحالف النووي الأوروبي في 28 فبراير 2024، ويضم 14 دولة مشاركة (مع إيطاليا كمراقب)، بهدف تشجيع بناء محطات نووية في أوروبا، ومواءمة القواعد. والإجراءات، وتسهيل تمويل محطات جديدة.
قيود التوسع في استخدام الطاقة النووية
لا تزال هناك قيود على الطاقة النووية في بعض البلدان، مدفوعة بعدة عوامل منها: المخاوف بشأن السلامة والنفايات النووية للمحطات؛ وكان الحادث الذي وقع عام 2011 في محطة فوكوشيما-دايتشي في اليابان في أعقاب زلزال كبير قد أدى إلى تقويض الثقة في الطاقة النووية مجددًا، ناهيك عن الحادث الأشهر في تشرنوبيل عام 1986، مما أكد ضرورة وجود رقابة تنظيمية قوية ومستقلة. تعد مخاطر الحوادث والسلامة البيئية للمحطات من العوامل الرئيسية وراء حظر الطاقة النووية أو سياسات التخلص التدريجي منها في بعض الدول. ورغم التقدم المحرز في التخلص من النفايات النووية عالية الإشعاع، وتطور التكنولوجيا وأنواع المفاعلات وخفض تكلفة الإنتاج بالمقارنة بالمصادر الأخرى إلا أنه لا يزال هناك رفض سياسي واجتماعي عالٍ جدًا للتوسع في المحطات النووية في العالم.
وهناك قيود أخرى تتعلق بالتكاليف المرتفعة والأوقات الطويلة في كثير من الأحيان لبناء محطات نووية جديدة. حيث تنعكس تكاليف الاستثمار المرتفعة لبناء محطات جديدة والشكوك المتعلقة بالتوقيت في رسوم الطاقة المنتجة التي تتجاوز 200-250 يورو لكل ميجاوات في الساعة، في حين أنه في حال ارتفاع سعر الكهرباء المنتجة في أوروبا باستخدام الطاقة الشمسية ومصادر الرياح المتجددة غالبًا ما تتراوح بين 50 و70 يورو لكل ميجاوات في الساعة، وبالتالي فإن التكلفة الاستثمارية لا تزال مرتفعة وتمثل عائقًا أمام التوسع في إنشاء محطات نووية جديدة لبعض الدول رغم زيادة العمر الافتراضي للمحطات الذي يبلغ 50-60 سنة.
ونظرًا للتغيير المستمر والمتسارع في المشهد السياسي العالمي والاضطرابات المصاحبة في أمن الطاقة وأسعار الوقود المتذبذبة جرّاء جائحة كورونا أو الحرب الروسية الأوكرانية وما تسببت فيه من أزمة إمداد عالمية في الطاقة، ظهرت بعدها الحاجة إلى تنوع مصادر الطاقة وزيادة الاعتماد على المصادر المحلية، وبالرغم من رفض عدد من الدول للطاقة النووية إلا أنه قام عدد آخر من الدول مثل بلجيكا وكوريا الجنوبية مؤخرًا بتقليص خططهما للتخلص التدريجي من المحطات النووية القائمة. كما تضمنت استراتيجية أمن الطاقة في المملكة المتحدة خططًا لإنشاء ثمانية مفاعلات كبيرة جديدة. ومن الممكن أن تؤدي إعادة تشغيل المفاعلات النووية اليابانية التي حصلت على موافقات السلامة بشكل أسرع إلى تحرير شحنات الغاز الطبيعي المسال التي تشتد الحاجة إليها في أوروبا أو الأسواق الأخرى في آسيا. أما فيما يخص الأهداف المناخية والبيئية فقد تعهدت أكثر من 70 دولة، تغطي ثلاثة أرباع انبعاثات الغازات الدفيئة المرتبطة بالطاقة، بخفض انبعاثاتها إلى صافي الصفر. وفي حين أن مصادر الطاقة المتجددة ستوفر الحصة الأكبر من الكهرباء منخفضة الانبعاثات، وأن العديد من البلدان إما لا تتوقع الحاجة إلى الطاقة النووية أو لا تريد أن تلعب الطاقة النووية دورًا، فقد أعلن عدد متزايد من البلدان أيضًا عن خطط للاستثمار في الطاقة النووية وقد أعلنت المملكة المتحدة وفرنسا والصين وبولندا والهند مؤخرًا عن استراتيجيات للطاقة تتضمن أدوارًا جوهرية للطاقة النووية.
الدور الجديد للطاقة النووية
إن الدور الأكبر الذي يمكن أن تلعبه الطاقة النووية هو استخدام الكهرباء النووية لإنتاج الهيدروجين والحرارة. يعد التوسع السريع للهيدروجين منخفض الانبعاثات ركيزة أساسية في سيناريو صافي الانبعاثات، مع ارتفاع الاستثمارات ذات الصلة إلى 80 مليار دولار أمريكي سنويًا حتى عام 2040. وبموجب التقديرات، سيتم إنتاج الهيدروجين عبر الغاز الطبيعي باستخدام تقنية احتجاز الكربون CCUS أو عن طريق التحليل الكهربائي باستخدام مصادر الطاقة المتجددة وهي أرخص الخيارات. ولكي تتمكن الطاقة النووية من المنافسة مع هذه البدائل، يجب خفض تكاليف الاستثمار إلى ما يتراوح بين 1000 و2000 دولار أمريكي/كيلووات. وسيكون الاقتصاد أكثر جدوى إذا كان المفاعل النووي في موقع مشترك مع مستخدم الهيدروجين، وتجنب تكاليف النقل. وتشير التقديرات إلى أنه يمكن استخدام فائض الكهرباء النووية لإنتاج ما يقدر من 20 مليون طن من الهيدروجين في عام 2050. وهناك أيضًا إمكانيات لتوليد الحرارة بشكل مشترك من المحطات النووية لتحل محل تدفئة المناطق وغيرها من الاستخدامات ذات درجات الحرارة المرتفعة، وعلى الرغم من الحجم المحتمل لهذا الأمر، فإن السوق لا يزال محدودًا ويجب أن تنخفض تكاليف الإنشاء لجعلها قادرة على المنافسة.
كما أن هناك دورًا حيويًا جديدًا يمكن أن تساهم به الطاقة النووية لتفعيل مرونة أنظمة الكهرباء في العالم وتدعيم مشاركة الطاقات المتجددة الأخرى مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وهو توفير الاستقرار والمرونة أثناء استخدام الطاقات المتجددة المتغيرة وتوفير القدرة الكافية من الطاقة أثناء فترات الذروة وتعويض القصور الذاتي للمحطات الأخرى؛ مما يزيد من قدرة أنظمة الطاقة لتوفير الخدمات بشكل أفضل.
التكنولوجيا والخيارات البديلة
ومن أجل إعطاء مستقبل موثوق للطاقة النووية واقتراح استخدامها على نطاق واسع في المستقبل القريب، سيكون من الضروري تحديد حلول لتحقيق الحد الأمثل من التكاليف والأوقات اللازمة لبناء المحطات. وفي الوقت الحالي، يبدو أن هناك مسارين تكنولوجيين وصناعيين مختلفين آخذين في الظهور، لا بديل عن كليهما معًا؛ مما قد يسمح بتحقيق هذه النتيجة وهما:
المسار التكنولوجي الأول: يعتمد على التطور التدريجي للتقنيات الموجودة حاليًا والتوسع في محطات نووية بالأنظمة والتقنيات ونظام العمل نفسها، وغالبًا ما تكون من مفاعلات الجيل الثالث المطور، بالإضافة إلى إدخال الحلول الرقمية واستخدام الذكاء الاصطناعي؛ مما يؤدي إلى تحسين دورة الإنتاج النووي ويضيف قيمة أفضل لهذه التقنيات ويقدم إدارة تشغيلية أفضل وأكثر أمانًا للمحطات النووية.
أما المسار الثاني: فيعتمد على ابتكارات وتقنيات جديدة، مثل مفاعلات نووية صغيرة ومتوسطة الحجم بقدرات لا تزيد عن 300 ميجاوات، ومفاعلات نووية من الجيل الرابع، ومفاعلات لا تعتمد على الانشطار النووي، بل على الاندماج النووي الخاضع للرقابة والذي يمكن أن ينتج كميات طاقة هائلة (ويعرف بأنه اندماج نواتين ذريتين خفيفتين لتكوِّنا نواة ذرية واحدة أثقل وزنًا، ويصاحب هذه العملية انبعاث كميات هائلة من الطاقة، وتحدث تفاعلات الاندماج عندما تكون المواد في حالة تُسمى بحالة البلازما — وهي حالة تتَّخذ المادة فيها شكل غاز ساخن مشحون مكوَّن من أيونات موجبة وإلكترونات طليقة، وتتَّسم بخصائص فريدة تميِّزها عن الحالات الصلبة والسائلة والغازية مثل ما يحدث في الشمس).
قد يؤدي انخفاض تكاليف رأس المال وضمان معايير السلامة وإدارة النفايات الجيدة وتقليل مخاطر المشروع والمرونة مع أنظمة الشبكات إلى تحسين القبول الاجتماعي وجذب الاستثمار. ويمكن للمفاعلات الصغيرة والمتوسطة أيضًا إعادة استخدام مواقع محطات توليد الطاقة التي تعمل بالوقود الأحفوري والتي توقفت عن العمل، مع الاستفادة من وسائل النقل الحالية ومياه التبريد والقوى العاملة الماهرة. كما يمكن أن تشمل الفرص الأخرى المشاركة في الموقع مع الصناعة لتوفير الكهرباء والحرارة والهيدروجين دون تكاليف النقل وتحقيق التكامل.
وعلى المستوى المحلى: فإن مصر على موعد مع دخول النادي النووي العالمي بعد الانتهاء من المشروع النووي الأول والأكبر عربيًا وأفريقيًا في منطقة الضبعة من خلال 4 مفاعلات بقدرة إجمالية 4800 ميجاوات، بالتعاون مع شركة روس آتوم الروسية الرائدة في إنشاء وتشغيل المفاعلات النووية في العالم، والذي من المتوقع أن تدخل الخدمة بنهاية عام 2027 ليساهم بشكل بارز في تحقيق أمن الطاقة في مصر وتنويع مصادر الطاقة في مزيج الطاقة الوطني.
المصادر: