يُعد إجراء تطوير شامل للهيئات الاقتصادية بما في ذلك التطوير الإداري والمالي، والاستغلال الأمثل للأصول المملوكة لها وترشيد النفقات وتعزيز مواردها الذاتية، مسألة محورية وضرورية للاقتصاد المصري في الوقت الحالي، الذي تتصاعد فيه أهمية توسيع الحيز المالي الذي يُمكّن الدولة من تمويل الإنفاق العام الاجتماعي على مجالات التنمية البشرية كالصحة والتعليم.
توقيت مناسب
يُعد توقيت تكليف الدكتور “مصطفى مدبولي”، رئيس مجلس الوزراء، الدكتور “محمد معيط” وزير المالية بتنفيذ توصيات الرئيس عبد الفتاح السيسي بإجراء تطوير شامل للهيئات الاقتصادية، توقيتًا مناسبًا نظرًا للعوامل الآتية:
• ثقل في الاقتصاد القومي: تشكل الهيئات الاقتصادية ثقلًا كبيرًا في الاقتصاد القومي، حيث تشير الإحصاءات إلى أن إجمالي مصروفات وتكاليف الهيئات الاقتصادية في موازنة العام المالي 2022/2023 قد بلغ 1643 مليار جنيه، بينما بلغ إجمالي المصروفات العامة (دون الاستثمارات) في موازنة العام نفسه 1694 مليار جنيه أي أنها تشكل 97% من الموازنة. وقد اتسع نطاق هذه الهيئات منذ نشأتها وحتى الآن فارتفع عددها إلى 59 هيئة في عام 2023.
كما أصبحت تضم العديد من الهيئات التي رُؤيَ إخراجها من الموازنة العامة لإعطائها المرونة في الحركة. ويتسع نشاطها ليغطي معظم مجالات الحياة الاقتصادية، بل وأصبحت إحدى الدعامات الأساسية للاقتصاد القومي نتيجة لما تقوم به من أنشطة واستطاعت إيجاد قاعدة اقتصادية ضخمة ساعدت في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين. وهو ما يوضح مدى الثقل الذي تتمتع به في الاقتصاد القومي. من هذا المنطلق فإن إجراءات الإصلاح المنشودة سوف تسهم كثيرًا في مساعدتها على تأدية رسالتها التنموية.
• إطار قانوني: من المعروف أن الهيئات الاقتصادية هي صيغة من الصيغ القانونية لكيانات اقتصادية كان يتعين أن تستقل بالكامل عن الموازنة العامة للدولة وتعمل وفقًا لأسس اقتصادية، وفقًا للقانون رقم 11 لسنة 1979، والذي تم بمقتضاه فصل موازنة هذه الهيئات عن الموازنة العامة للدولة على أن تعد موازنات مستقلة تعتمد من مجلس النواب، بحيث تقتصر العلاقة فيما بينهما على الفائض الذي يئول للخزانة العامة من بعض هذه الهيئات أو توفير ما يتقرر إليها من دعم ومساهمات والتزامات.
وهنا تشير (المادة 3) من قانون المالية العامة الموحد رقم 6 لسنة 2022 إلى أن هذه الهيئات تقدم موازناتها إلى مجلس النواب لاعتمادها، كما أشارت المادة 23 إلى ضرورة عرض هذه الموازنات قبل تسعين يومًا على الأقل من بدء السنة المالية ولا تكون نافذة إلا بموافقته عليها. وتصدر بقوانين. لهذا أوجب القانون أيضًا (مادة 67) ضرورة عرض الحسابات الختامية على مجلس النواب لمناقشتها واعتمادها
وبالتالي فهي تخضع للرقابة قبل وبعد الصرف، على عكس ما يتصوره البعض. وبالتالي تعتبر هذه الهيئات وحدات مستقلة ذات شخصية اعتبارية ولها استقلالها المادي والإداري باعتبارها ذات طابع اقتصادي وفقًا للقوانين المنظمة لها. وبمعنى آخر فإن العلاقة بين هذه الهيئات أصبحت بمثابة علاقة ملكية تتركز في نتائج الأعمال وعلاقة تمويلية تتركز في المساهمة والإقراض.
• خسائر مستمرة: كان من المفترض أن تحقق هذه الهيئات الهدف من استقلالها وأن تدار على أسس اقتصادية وتجارية تمكنها من تحقيق فوائض مالية أو على الأقل تسهم في تمويل نفسها ذاتيًا. وكان من المفترض أن تحقق هذه الهيئات التوازن الاقتصادي والمالي بحيث تغطي نفقاتها من مواردها الذاتية وبالتالي تخفف العبء عن الموازنة العامة للدولة وهو ما لم يتحقق على الإطلاق، إذ ظلت هذه الهيئات تمثل نزيفًا مستمرًا من موارد الدولة وتحقق خسائر متراكمة عبر السنوات، فارتفع صافي العلاقة بينها وبين الموازنة العامة إلى سالب 170 مليار جنيه في موازنة 2022/2023 حيث بلغ ما أتاحته الموازنة من دعم وإعانات ومساهمات 354.6 مليار جنيه، بينما بلغ ما آل إليها من فوائض وضرائب داخلية وإتاوات ورسوم 184.9 مليار مع ملاحظة أن 82.5% مما يئول للخزانة يأتي من هيئتي قناة السويس والبترول. بل والأخطر من ذلك تراجع صافي حقوق الملكية (وهو يمثل رأس المال المملوك ومساهمة الحكومة والاحتياطات والفائض المرحل مطروحًا منها الخسائر المرحلة) في هذه الهيئات بصفة مستمرة، حيث تعاني الهيئات الاقتصادية العديد من المشكلات المهمة التي أثرت في أوضاعها المالية ويرجع السبب في ذلك إلى الآتي:
- اختلالات في اقتصاديات تشغيلها ومراكزها المالية وهو ما يتمثل في اختلال التوازن بين التكاليف والأسعار وقصور الموارد عن تغطية الاستخدامات؛ مما يؤدي إلى ازدياد العجز المرحل سنويًا، فضلًا عن تآكل الأصول الحقيقية لهذه الهيئات نتيجة لما تتحمله من فروق أسعار لخدماتها بين أسعار البيع وتكاليف الإنتاج الفعلية.
- تنفيذ حجم كبير من الاستثمارات دون أن يقابله موارد ذاتية مناسبة وهو ما يؤدي إما إلى التأخر في تنفيذ المشروعات لسنوات طويلة مما يؤدي إلى المزيد من الطاقات العاطلة وهدر الموارد ناهيك عن حرمانها من العائد الذي ستدره هذه الاستثمارات. أو يدفعها للاقتراض من بنك الاستثمار القومي والذي يقترض بدوره من الأوعية الادخارية في المجتمع؛ مما ينعكس بالضرورة على الدين العام وزيادته سنة بعد أخرى. رغم ما تملكه من ممتلكات مجمدة في شكل أراض وأصول ومخزون راكد وهذه الممتلكات غير محصورة وغير موثقة وبالتالي فإن التصرف فيها محدود.
- غلبة الطابع الخدمي وليس الاقتصادي على عدد من تلك الهيئات، أي أنها لا تولد تدفقًا نقديًا يغطي أعباء الاقتراض والتمويل، وهو ما ينعكس على التزامات الدولة قبل الدائنين لهذه الهيئات. إذ إن الخزانة العامة مطالبة بسداد أي عجز في سداد مديونياتها إما في شكل خسائر مرحلة أو في شكل عدم قدرة على سداد الديون. ويصبح التساؤل كيف يمكن التصدي لهذه المشكلات.
• قرارات غير مجدية: جدير بالذكر أنه في إطار محاولات الإصلاح السابقة فقد صدرت عدة قرارات بالموافقة على تعلية القروض التي حصلت عليها الهيئات الاقتصادية إلى رءوس أموال تلك الهيئات، مع إعفائها من سداد الأقساط والفوائد، وذلك في إطار الرغبة لإعادة التوازن المالي إليها. وقد أدى هذا القرار إلى تضخم رءوس أموال هذه الهيئات بما لا يتناسب مع نشاطها كما أن هذه الزيادات في رأس المال لا تقابلها أصول حقيقية، بل إن جزءًا منها يمثل ما حصلت عليه من إعانات لسد العجز.
بل وصدرت عدة قرارات أخرى بإسقاط جزء من القروض المستحقة على بعضها مثل السكك الحديدية والهيئة الوطنية للإعلام. ورغم هذه الإجراءات إلا أنها لم تحقق تقدمًا يذكر في هذا الشأن.
هذا فضلًا عن أنه لا توجد قواعد موحدة لتوزيع فائض العمليات الجارية إذ توجد 12 هيئة تقضي التشريعات المنظمة لها بأن يرحل صافي الربح الذي تحققه إلى السنة المالية التالية، و7 هيئات تقضي التشريعات بأن يتم الاتفاق بين وزير المالية والوزير المختص على طريقة التصرف في الفائض ونسبة ما يئول للخزانة، وهيئتان يسمح لهما بتدعيم احتياطاتهما بجزء من صافي الربح على أن يئول الباقي للخزانة العامة (وهما البترول وقناة السويس)، بالإضافة إلى بنك ناصر الاجتماعي الذي يسمح له بتدعيم احتياطياتها بكامل قيمة صافي الربح، ولا يوجد سوى 11 هيئة يئول صافي الربح بالكامل إلى الخزانة العامة.
حلول مُمكنة
يستهدف هذا الجزء وضع الأطر الملائمة للعمل على تلافي مظاهر الخلل والمشكلات التي تعانيها الهيئات الاقتصادية، أو على الأقل الحد من آثارها السلبية في المالية العامة للدولة ووضع برنامج متكامل للخروج من المأزق الراهن.
أولًا- الأجل القصير:
- إعادة النظر في تبويب هذه الهيئات إلى مجموعات متجانسة واتباع سياسات اقتصادية محددة تحقق الهدف من استقلالها، على أن تقوم بإنتاج السلع والخدمات على أسس اقتصادية تمكنها من تحقيق فائض مالي. ومن الضروري العمل على أن تقوم الهيئات التي تبيع إنتاجها بأسعار اجتماعية بالعمل على الوصول بالأسعار إلى السعر الاقتصادي تدريجيًا وخلال فترة زمنية محددة.
- هناك هيئات يغلب عليها الطابع الاقتصادي وإطارها القانوني يؤهلها للعمل كوحدة اقتصادية يمكن أن تتحول إلى شركات قابضة مما يمكنها من إعادة هيكلة أصولها وخصومها وتصحيح الأوضاع المالية لها.
- دراسة اقتصاديات التشغيل بما يقضي على أوجه الإسراف ومراجعة نظم التشغيل وقوائم التكاليف لترشيد وضبط الإنفاق وتفعيله خاصة للهيئات ذات الطابع الخدمي. مع تعميق المحاسبة عن الأداء على مستوى مراكز المسئولية.
- الاهتمام بالصيانة واستغلال الطاقات العاطلة مع التخلص من الأنشطة غير الاقتصادية، مع الاهتمام بالصيانة الدورية لتحجيم الأعطال ولتأمين نظم التشغيل.
- تعميق دراسات الجدوى الفنية والاقتصادية للمشروعات الاستثمارية ومداومة متابعة اقتصاداتها تأمينًا لاستيراد التكلفة. حيث تظهر الميزانيات المجمعة لهذه الهيئات استثمارات مالية ضخمة للغاية، ولكنها لا تنعكس بالإيجاب على الأوضاع المالية لهذه الهيئات، إما لأنها لا تحصل منها على أي عائد أو أنها تدر عائدًا منخفضًا لا يتناسب مع الأموال المستثمرة فيها، أو يقل عن سعر الفائدة التي تتحملها بعض هذه الهيئات لتمويل تلك الاستثمارات. بل وأصبحت بعض هذه الاستثمارات تشكل عبئًا على تلك الهيئات لأنها تحقق خسائر متتالية سنويًا أو تتعرض قيمتها السوقية للانخفاض في البورصة مثل هيئة الأوقاف والمجتمعات العمرانية.
- توحيد المعاملة في استخدام الفوائض بمراعاة القواعد المحاسبية في احتجاز الاحتياطيات اللازمة للوفاء بأقساط القروض أو لتدعيم مراكزها المالية.
- بالنسبة للهيئات التي تسفر نتائج أعمالها باستمرار عن عجز جارٍ فإن الأمر يقتضي إجراء الدراسات الجادة والموضوعية لكل هيئة على حدة لدراسة أسباب العجز، ووضع الحلول المناسبة لمساعدة تلك الهيئات على استعادة توازنها المالي.
ثانيًا- الأجل المتوسط:
- ضرورة ضم كل من الهيئات الاقتصادية والصناديق الخاصة إلى الموازنة العامة، باستثناء الجهات ذات الطبيعة الخاصة مثل الهيئة القومية للتأمينات الاجتماعية وهيئة البريد نظرًا لطبيعتهما.
- تحويل هيئتي البترول وقناة السويس إلى شركات قابضة نوعية، مثلها مثل مصر للطيران وذلك بعد أن فقدت مبررات الاستقلال وينطبق الوضع نفسه على الصناديق الخاصة، إذ يمكن ضمها أيضًا إلى الموازنة باستثناء حسابات المشروعات البحثية والمشروعات الممولة من المنح والاتفاقيات الدولية فضلًا عن حسابات الإدارات الصحية والمستشفيات وصناديق تحسين الخدمة الصحية ومشروعات الإسكان الاقتصادي.
- وبمقتضى هذا الاقتراح تكون الموازنة معبرة وبحق عن الوضع المالي للدولة ويُزال اللغط السنوي حول الالتزام بالدستور فيما يتعلق بالإنفاق على مجالات الصحة والتعليم والبحث العلمي، على الرغم من صدور قانون المالية الموحد رقم 6 لسنة 2022 والذي أعاد تعريف الإنفاق الحكومي، فعلى سبيل المثال فإن التقسيم الوظيفي للموازنة يقتصر فقط على بنود الإنفاق داخل الموازنة العامة ولا يتضمن الهيئات الاقتصادية العاملة في هذا المجال، وهي (الهيئة العامة للتأمين الصحي والمؤسسة العلاجية والتأمين الصحي الشامل والشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي) وغيرها من الجهات التي تعد من الإنفاق العام وليس الإنفاق الحكومي وهو الأساس عند تقييم دور الدولة في الإنفاق على الجوانب الاجتماعية المختلفة.