قبل ستة وسبعين عاما وتحديدا فى الخامس عشر من مايو عام 1948 أعلن ديفيد بن جوريون قيام دولة إسرائيل، بكل ما تبع ذلك من تهجير للفلسطينيين عرف بنكبة عام 1948. مرور ثلاثة أرباع قرن على النكبة أزاح من الذاكرة ما كان يحدث قبيل إعلان قيام إسرائيل، ومواقف الأطراف المختلفة بينما يتم التخطيط وتقديم كل أوجه الدعم لإعلان الدولة، وإن كان لم يمح صور وذكريات وآلام تهجير الفلسطينيين التى يتم استدعاؤها اليوم مع ما تنقله وسائل الإعلام المختلفة من صور نزوح الفلسطينيين من شمال قطاع غزة إلى جنوبه والأفكار المطروحة بكثافة التى تستهدف بالأساس تمرير مشروع جديد لتهجير الفلسطينيين وإعادة توطينهم فى دول أخرى، فيما لا يقل أثرا عن النكبة الأولى. بل إنه فى حال تحقق فسيعني تصفية للقضية الفلسطينية.
إن زيارة إلى الأسبوعين الأولين السابقين عن إعلان قيام إسرائيل عبر أعداد جريدة الأهرام فى الفترة من 1 إلى 14 مايو 1948 كفيلة بتأكيد أن التاريخ يكاد يعيد نفسه مع فارق رئيسى وهو أن الدول العربية كانت تتبنى العمل العسكرى فى مواجهة المخططات اليهودية، بينما تتبنى اليوم منهج التسوية السلمية وضرورة إقامة الدولة الفلسطينية تجنبا لتوسع دائرة الصراع بكل تداعيات ذلك على الأمن والاستقرار فى المنطقة برمتها.
كما تظهر تلك الزيارة أيضا أن الدول العربية كانت متوافقة تماما على الأهمية القصوى للتصدى عسكريا للمخططات الصهيونية فيما يتعلق بتهجير الفلسطينيين وإقامة دولة صهيونية، وأن مصر كانت تقود التحركات العسكرية والدبلوماسية والإنسانية كذلك. فقد نشرت «الأهرام» فى 11 مايو حوارا مع الملك فاروق، وعندما سئل عن موقف مصر حيال فلسطين عندما تتخلى بريطانيا عن الانتداب فى 15 مايو، أجاب «أن مصر تنوى أن تمد إخواننا عرب فلسطين بكل ما فى وسعها من مساعدة»، وعندما سئل لتحديد تلك المساعدة قال «هذه المساعدة ستكون ذات طابع عسكرى ومالى واقتصادي»، وأضاف فى إجابته عن سؤال آخر أن المصريين لايضمرون عداء لليهود، أما الصهيونية فأمر آخر، وأنه لن يقبل أن تقوم فى الشرق الأوسط دولة صهيونية على مقربة من حدود مصر. وفى حديث أجرته «الأهرام» ونشر فى السابع من مايو مع وزير المالية السعودى الشيخ عبدالله السليمان ولدى سؤاله عن موقف مصر قال «إننا وغيرنا من أبناء العالم العربى أجمع نتطلع إلى موقف مصر الشقيقة العربية الكبرى فهى التى ننتظر منها الخطوة الأولى، وسترى أننا سنسير وراءها بغير تردد ولا إبطاء». كما صرح ملك الأردن الملك عبدالله لدى استقباله القائم بأعمال المفوضية المصرية فى الثامن من مايو «بأن العالم العربى بأسره لا يستطيع أن ينسى فضل مصر ومليكها المعظم على فلسطين، فقد تفضل أخى الفاروق (الملك فاروق) فأولى قضية هذه البلاد اهتماما كبيرا ورعاية شاملة، ولولا جهوده الكريمة لما لاحت بشائر النصر أمامنا فى المعركة القادمة»
تدهور الأوضاع فى فلسطين
فى مقال بجريدة الأهرام بتاريخ الثانى من مايو 1948، ما يؤكد تدهور الأوضاع فى فلسطين. يبدأ المقال بالقول «دخلت مشكلة فلسطين فى مرحلة حاسمة لعلها بداية النهاية وأثبتت حوادث طبريا ودير ياسين أن الصهيونيين ماضون فى تنفيذ خططهم لإبادة السكان العرب أو إجلائهم عن ديارهم لإقامة دولة صهيونية يمتد نفوذها وسلطانها إلى جميع بقاع فلسطين». وينقل عدد الأهرام نفسه أخبار ثلاثة اجتماعات وصفها بالعسكرية عقدت بالأردن برئاسة الملك عبدالله ملك الأردن وحضور رئيسى وزراء لبنان وسوريا ورئيس أركان الجيش العراقى ومندوب عن الجيش المصرى والأمين العام لجامعة الدول العربية عبدالرحمن عزام، وفى الاجتماع تقرر أن يوجه الأخير نداء إلى الفلسطينيين بعدم الهجرة ومغادرة أراضيهم. وفى نفس السياق وجه مفتى فلسطين الحاج أمين الحسينى نداء إلى الفلسطينيين يحضهم على حمل السلاح للدفاع عن أرضهم وكذلك وجه النداء إلى شعوب الأمة العربية.
كما تصدر عدد الأهرام فى نفس اليوم خبر نقلا عن بيان لقوات «الهاجانا» يؤكد أن الجيوش العربية دخلت فلسطين وبدأت فى محاصرة بعض المستعمرات الإسرائيلية فى شمال الجليل. وكانت المعارك تشتد للاستيلاء على القدس، وصفتها الأهرام بعنوان «بدء المعركة الفاصلة للاستيلاء على القدس». كما نقلت الأهرام الأفكار المتداولة لفرض الوصاية على القدس، حيث قدم المندوب الأمريكى مشروعا للوصاية البسيطة على القدس يقضى بإرسال ممثل للأمم المتحدة ليحاول عقد هدنة بين العرب واليهود ويتسلم مقاليد الإدارة من البريطانيين، وهو الاقتراح الذى رفضه جمال الحسينى معتبرا أنه محاولة لفرض التقسيم، كما اعتبره مندوب العراق عونى الخالدى أنه مناورة أمريكية لفرض التقسيم. ودافع المقال المشار إليه سابقا بأن التدخل المسلح لإنقاذ فلسطين لا يناقض ميثاق هيئة الأمم المتحدة، خاصة بعد أن أصبح قرار التقسيم مجرد حبر على ورق ومازالت الجمعية العامة فى اجتماعها الاستثنائى تتلمس حلا بينما تزداد خطورة التطورات فى فلسطين بحيث «لم يعد فى إمكان الدول العربية ـ وهى المهددة تهديدا مباشرا بهذه الحوادث ومضاعفاتها ونتائجها المحتملة ـ أن تتخلف طويلا عن العمل» . وبالفعل تمخض عن اجتماعات الأردن العسكرية ما وصفته الأهرام فى عددها بتاريخ الثالث من مايو بأنها أخطر الاجتماعات فى تاريخ المشكلة الفلسطينية، تمخض عنها «استقرار الرأى على الخطة التى تقرر تنفيذها عمليا لإنقاذ فلسطين من الخطر الصهيونى الذى يدهمها»، وأصدر ملك الأردن بيانا بعنوان «يا أهل فلسطين الكرام» يدعو فيه الفلسطينيين والعرب للدفاع المسلح عن الفلسطينيين، قائلا لهم «دافعوا إن هوجمتم، ولا تعتدوا، ولا تقتلوا شيخا ولا شيخة، ولا طفلا ولا طفلة، وكونوا حلماء رحماء..»
الموقف البريطاني
كانت بريطانيا قد بدأت فى تعزيز قواتها فى فلسطين وجعلت من فلسطين الأولوية على جميع التزاماتها العسكرية فى الشرق الأوسط، وبعد الاجتماعات العسكرية الثلاثة استقبل ملك الأردن وزير بريطانيا المفوض لتقديم تعهد بريطانى للملك بالمحافظة على القدس والناصرة وبيت لحم ويافا بشرط ألا تقوم الجيوش العربية بأى أعمال عسكرية فى هذه المناطق حتى ينتهى الانتداب البريطانى المقرر له 15 مايو، وفى الوقت تنشر جريدة «صنداى بكتوريال» مقالا لأحد أعضاء مجلس العموم البريطانى يطالب فيه بأن يترك حسم النزاع بين العرب واليهود للطرفين أنفسهما. وتنقل الأهرام فى عدد الثالث من مايو أن «اليهود يستنجدون بمجلس الأمن لاتخاذ ما يلزم من الإجراءات الحاسمة لمنع الجيوش العربية من غزو فلسطين». وردا على استخدام كلمة الغزو تلك، أرسل السيد إدوارد عطية سكرتير المكتب العربى فى لندن خطابا لجريدة «مانشستر جارديان» طبقا لما نقلت الأهرام فى عددها 5 مايو قال فيه «إن دخول الجيوش العربية فلسطين لا يعد غزوا لأن الدول العربية تفعل ذلك استجابة لرغبة السكان العرب فى فلسطين وهم الأغلبية الكبرى وأصحاب البلاد الأصليون، وفوق هذا فإن فلسطين وشرق الأردن كانتا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى دولة واحدة».
وفى نفس العدد 5 مايو تنقل الأهرام بعنوان «بريطانيا تقترح لجنة مؤقتة تتولى مقاليد السلطة بفلسطين بعد الانتداب» وفيه تقرر أن الاقتراحات المطروحة أمام الجمعية العامة هى أربعة اقتراحات/ حلول، الأول تأييد قرار التقسيم، والثانى المشروع الأمريكى بوصاية مؤقتة، والثالث إقامة نوع من السلطة المؤقتة التى اقترحها وزير المستعمرات البريطانى، والرابع ألا تفعل شيئا وتدع المشكلة تحل من تلقاء نفسها بالحرب الأهلية. ثم أضافت الولايات المتحدة اقتراحا آخر نقلته الأهرام فى عدد 6 مايو وهو إعلان هدنة شاملة فى فلسطين لمدة عشرة أيام وتمديد الانتداب البريطانى عشرة أيام أيضا، وهو الاقتراح الذى رفضته بريطانيا، كما رفضه ممثلو الدول العربية، ورفضه ملك الأردن الملك عبدالله قائلا «إننى أرفض كل هدنة شاملة، لأن فى هذا تسليما بمطالب الصهيونيين على طول الخط، وأنا لا أغش قومى ولا أمتى، لأن الموقف موقف كرامة وشرف لجميع العرب وما زلت عند رأيى الأول وهو الدخول بجيوشى بعد 15 مايو». كما أكد ملك مصر الملك فاروق فى حواره للأهرام السابق الإشارة إليه أنه لابد من استخدام القوة ضد الصهيونيين لأنها الوسيلة الوحيدة التى يفهمونها. بينما قال السيد أكرم حورانى من مجلس النواب السورى «أن معركة فلسطين تكاد تنتهى وبناء الدولة اليهودية يوشك أن يتم، وأن تدخل الجيوش العربية بعد 15 مايو لن يجدي». وفى نفس الوقت تم الإعلان عن لجنة الهدنة الثلاثية التابعة للأمم المتحدة (تضم قناصل فرنسا والولايات المتحدة وبلجيكا) ستتوجه إلى أريحا صباح السادس من مايو لبحث موضوع الهدنة مع المندوبين العرب، وهى المفاوضات التى نقلت الأهرام بتاريخ السابع من مايو أنها فشلت فى الاتفاق على الهدنة، رغم أنها أدت لوقف إطلاق النار لمدة يوم واحد. كما أصدرت بريطانيا تحذيرا للعرب الذين يضربون المواقع اليهودية فى القدس بأنها ستستخدم الطائرات البريطانية فى ضرب البطاريات العربية إذا لم تتوقف عن إطلاق النيران، كما حذرت خلال مناقشة فى مجلس العموم الدول العربية من القيام بعمل عسكرى فى فلسطين قد يؤدى إلى اشتباكها مع القوات البريطانية.
الموقف الأمريكي
وإزاء المحاولات الغربية لوقف التحركات العربية، عقدت فى الرياض برئاسة الملك عبدالعزيز فى 11 مايو أربعة اجتماعات علمت الأهرام أنها بحثت المحاولات الأمريكية ـ التى أكدها محمود فوزى بك مندوب مصر لدى الأمم المتحدة ـ لإرجاء التحركات العسكرية العربية، وأنه تقرر خلال تلك الاجتماعات أن يقابل كل ضغط أمريكى بضغط آخر يتمثل فى إلغاء امتياز البترول السعودي. وفى عددها صباح 11 مايو أكدت الأهرام أن آمال منع الحرب بين العرب واليهود قد تبددت، فاليهود وقد أسكرتهم خمرة النصر لم يعودوا يقبلون الاتفاق، والعرب ولم يعد أمامهم إلا اللجوء إلى القوة تتأهب جيوشها لدخول فلسطين وإنقاذ العرب. ثم عادت الأهرام فى اليوم التالى لتنقل خبرا بعنوان «أمريكا تخشى نشوب حرب عالمية بسبب فلسطين»، خاصة فى ظل تنامى وامتداد نفوذ الكرملين فى الشرق وتدعيم تواصلها مع الجمعيات الشيوعية التى تسربت إلى الشرق تحت ستار الهجرة الصهيونية، وأشارت الأهرام فى الخبر إلى «تفضيل أمريكا إقرار هدنة بين العرب واليهود، وأن محاولات أمريكا لمنع قيام دولة إسرائيل يرجع بالأساس إلى تصور أمريكا أن ذلك سيدفع بالشرق الأوسط إلى أتون حرب قد تمتد إلى خارج حدود فلسطين». بينما هى نفسها الولايات المتحدة التى ستعترف بالدولة اليهودية فور إعلان نشأتها بما أحدث استياء عربيا رسميا وغير رسمى نظرا لما ينطوى عليه ذلك الإعلان عن خلق مشكلة دولية جديدة، على نحو ما نقلت الأهرام صباح السادس عشر من مايو.
الدعم المصرى لفلسطين
وفيما يتعلق بالجهود المبذولة لإنقاذ فلسطين، نقلت الأهرام فى السابع من مايو أن الجامعة العربية قررت مبلغ 3.5 مليون جنيه لفلسطين تعهدت مصر بدفع القسم الأكبر منه، إضافة إلى ذلك فإن صفحات الأهرام خلال تلك الفترة كانت تنشر يوميا تبرعات المصريين لأجل نصرة فلسطين، ونشرت الأهرام فى السادس من مايو صورة لأطفال روضة الأطفال بكوبرى القبة وهم يقدمون إلى الأطفال المهاجرين من فلسطين ما تبرعوا به من ملابس وأحذية. وكانت الأهرام قد نقلت أيضا فى الخامس من مايو تصريحا لمرتضى المراغى بك وكيل وزارة الداخلية قال فيه «إن الحكومة فوجئت بهذه الهجرة ومع أن مصر تعانى أزمة مساكن فقد أعدت لهم أماكن مريحة فى ثكنات العباسية». كما نقلت الأهرام بتاريخ العاشر من مايو صدور مرسوم بمشروع قانون يقضى بأن يؤذن للحكومة بأن تصدر فى مصر قرضا فى حدود أربعة ملايين جنيه لمواجهة المصروفات الإضافية اللازمة لقوات الجيش المصرى المرابطة على الحدود بين فلسطين ومصر، وصدر مرسوم أخر بإضافة هذا المبلغ للمصروفات الخاصة بوزارة الدفاع.
ازدواج المعايير: سياسة مستمرة
وفيما يعبر عن الاستياء العربى من ازدواج المعايير والخذلان الغربى للحقوق الفلسطينية، قال الأمير عادل رسلان نائب رئيس الوفد السورى فى الأمم المتحدة فى الثانى عشر من مايو أى قبل يومين من انتهاء الانتداب البريطانى «لقد ناضلنا فى الميدان السياسى بقدر المستطاع، وانتظرنا أن تكون المناهج السياسية الدولية أصدق مما رأينا، لكن سرعان ما تبين للعالم ما تنطوى عليه السياسة الدولية إزاء فلسطين، ولم يعد فى أيدينا سوى سلاح واحد لمجابهة الموقف السياسى وهو العمل بإقدام وعزم وجرأة لانتزاع حقنا المغتصب واسترداد أرضنا الجريحة». الاستياء نفسه انسحب أيضا على الأمم المتحدة وعبر عن ذلك ملك الأردن، الذى نقلت عنه الأهرام فى الرابع عشر من مايو قوله «إن هيئة الأمم المتحدة هى التى دفعت الدول العربية إلى سلوك ذلك السبيل، فلو كانت هذه الهيئة تعرف قواعد العدل والإنصاف لما سلكت السبيل الخاطئ فى شأن فلسطين». وكان مجلس الوزراء الأردنى قد قرر فى الثالث عشر من مايو إعلان الحرب واتخذت الحكومة التدابير التى تتطلبها الحالة الحربية الجديدة كما نقلت الأهرام. بينما كان وزير خارجية بريطانيا المستر بيفن قد بعث للدول العربية بمذكرة جديدة يتعهد فيها بعدم إعلان الدولة اليهودية إذا قبل العرب المقترح الأمريكى بالهدنة، وهو ما رفضه العرب مجددا قبيل يومين من إعلان الدولة اليهودية.
ثقة مفرطة انتهت بالنكبة
وقبيل التحركات العسكرية العربية فعليا كانت هناك ثقة مفرطة فى أن النصر قادم، وهو ما عبرت عنه الأهرام فى موضوعها الرئيسى بالصفحة الأولى صبيحة الرابع عشر من مايو بقولها «هو يوم أو بعض يوم، بل هى ساعات معدودات، ثم ينتصر الحق على الباطل بعد فترة ظالمة مظلمة، شردت فيها أنفس آمنة، ويتمت قلوب مطمئنة ساكنة، وعذبت أرواح بريئة طاهرة، فغدت الأرض التى قامت عليها الدعوة إلى السلام، أرضا فى حاجة إلى السلام». وبعد مرور خمسة وسبعين عاما ما زالت الأرض التى قامت عليها الدعوة للسلام وتبنى أهلها السلام خيارا استراتيجيا، ما زالت تبحث عن السلام وتنشده، بينما المجتمع الدولى يدعم بشكل أعمى إسرائيل ويعجز حتى عن فرض هدنة إنسانية فى حرب عنوانها الاعتداء وانتهاك حرمة المساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس وبراءة الأطفال حتى الخدج والرضع منهم، وهو الأمر الذى يدعو إلى الاعتقاد أن المجتمع الدولى يتوهم أن دول المنطقة يمكن أن تقبل أو تتحمل تداعيات نكبة فلسطينية جديدة