في الوقت الذي تبحث فيه دول العالم عن تحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة والمتمثل في “ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع”، يفقد الطلاب في قطاع غزة في كل المراحل الدراسية حقهم في التعليم نتيجة جرائم الاحتلال وانتهاكه كل المواثيق والإعلانات الدولية التي تجرّم الهجوم على المنشآت التعليمية في أوقات النزاعات والحروب بشكل أدى إلى توقف الدراسة كليًا بعد أقل من شهر على بدء العام الدراسي، وتدمير معظم المنشآت التعليمية؛ ليصف بعض الخبراء الأمميين ما يحدث هناك بالإبادة التعليمية المتعمدة.
كيف تضرر قطاع التعليم طوال فترة الحرب؟
تشير أحدث التقارير المنشورة من قبل الأمم المتحدة والهيئات الدولية العاملة في قطاع غزة إلى أن أكثر من 87% من مدارس قطاع غزة البالغ عددها 563 مدرسة تضررت أو تم تدميرها منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، حيث تم قصف 212 مبنى مدرسيًا بشكل مباشر، بالإضافة إلى تدمير 282 مبنى مدرسيًا جزئيًا، ولم تتوقف الدراسة بسبب انتهاك القانون الدولي بقصف المدارس مباشرة فقط، ولكن أيضًا بسبب تحول 320 من المباني المدرسية التابعة لوكالة غوث اللاجئين “أونروا” إلى ملاجئ تئوي آلاف النازحين، فلم يعد أكثر من 503 آلاف طالب يتلقون أي نوع من التعليم، في حين أن البقية يتلقون شكلًا بدائيًا من التعليم في خيام مدينة رفح التي أُجبروا على النزوح إليها.
ومع دخول الحرب على قطاع غزة شهرها السابع، بلغت الخسائر البشرية بين صفوف الطلاب والمعلمين الفلسطينيين في غزة مستوى قياسيًا مقارنةً بحصيلة الوفيات التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية على مدار عامين؛ حيث بلغ عدد وفيات الطلاب الفلسطينيين في 6 أشهر أكثر من 5400 طفل، في حين أن عدد وفيات الأطفال الأوكرانيين بسبب الحرب على مدى عامين بلغ 600 طفل على الأقل وفقًا لبيانات اليونيسيف، وبلغ عدد الطلاب الفلسطينيين المصابين حوالي 8 آلاف إصابة، في حين بلغت إصابات أطفال أوكرانيا 1350 إصابة، مما يشير إلى حجم الجرائم التي يرتكبها الاحتلال ضد الفلسطينيين دون تمييز.
ولا يقتصر حجم الدمار في قطاع التعليم الفلسطيني على المدارس وطلاب التعليم قبل الجامعي، ولكن امتد ليشمل الجامعات التي توقفت تمامًا عن العمل منذ بداية الحرب، حيث تم تدمير 4 مبانٍ جامعية بشكل كامل، وتضررت 10 مبانٍ بشكل متوسط أو جزئي، لتبلغ نسبة المباني الجامعية المدمرة أكثر من 82% من إجمالي المباني الجامعية البالغ عددها 17 مبنى فقط، وتتوقف الحياة الجامعية لأكثر من 87 ألف شاب فلسطيني كانوا على وشك بدء حياتهم المهنية ما بعد الجامعة. وعلى الرغم من محاولة السلطة الفلسطينية إتاحة تسجيل طلاب قطاع غزة بجامعات الضفة الغربية بنظام التعليم عن بعد، إلا أن هذه المحاولة غير كافية في ظل استيعاب ألف طالب فقط تقريبًا وعدم وضوح الرؤية بالنسبة لمستقبل باقي الطلاب.
التأثير السلبي للحرب وإدانة دولة الاحتلال
فاقمت الحرب التي تشنها دولة الاحتلال على المنشآت التعليمية في قطاع غزة منذ 7 أشهر تقريبًا من معاناة النظام التعليمي الذي يعاني بالفعل بسبب فقر القطاع واكتظاظ المدارس بأعداد الطلاب التي تفوق قدرة المدارس الاستيعابية وضعف قدرة السكان على توفير مستلزمات الدراسة لأطفالهم؛ ليصبح القطاع في حاجة إلى إعادة بناء كل المباني المدرسية التي دُمرت وزيادتها في المستقبل القريب وتوفير المستلزمات الدراسية لما يزيد عن نصف مليون طفل في سن التعليم.
ويتجاوز التأثير السلبي للحرب تدمير البنية التحتية للتعليم ليتضمن الهدر التعليمي الذي فرضته الحرب؛ فالطلاب لم يتعلموا شيئًا طوال عام دراسي كامل وفقدوا ما تعلموه خلال السنوات السابقة بسبب طول فترة انقطاعهم عن الدراسة، بالإضافة إلى أنه من المتوقع أن ترتفع نسبة التسرب من التعليم بشكل كبير بعد انتهاء الحرب كما حدث في العراق، حيث مرت 6 سنوات على هزيمة داعش ولم يعد الطلاب كليًا إلى مدارسهم. أما التأثير الثالث فيتمثل في التأثير النفسي للحرب على الأطفال، خاصةً الذين فقدوا عائلاتهم أو تسببت الحرب في تحويلهم إلى معاقين لما تبقى من حياتهم.
وعلى الرغم من إقامة دعوى في الجنائية الدولية ضد دولة الاحتلال وقادتها الذين قد يصدر بحقهم مذكرات اعتقال في وقت قريب بتهمة ارتكاب جرائم الإبادة والتطهير العرقي في قطاع غزة، إلا أن جيش الاحتلال خالف عددًا من المواثيق الدولية الملزمة التي أكدت على حق الأطفال في التعليم وحمايتهم أثناء فترات النزاع مثل اتفاقيات جنيف 1949 ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 1998؛ ولعل قرار مجلس الأمن رقم 2601 الصادر في 2021 كان أبرز القرارات التي خالفتها دولة الاحتلال بهجومها على مدارس القطاع، حيث فرض القرار على الدول الأعضاء وضع تدابير لمنع الهجمات على المرافق التعليمية والتصدي لها.
علاوةً على ذلك، فإن دولة الاحتلال رفضت التوقيع على إعلان المدارس الآمنة لمنع الهجمات على التعليم وتخفيف أثرها على الرغم من توقيع 118 دولة على الإعلان منذ 2015، مما يشير إلى رفضها أي التزام سياسي يحد من قدرتها على توجيه أسلحتها تجاه الأطفال والمدنيين داخل المرافق التعليمية؛ وهو ما أكدته المنظمات الدولية المشاركة في التحالف العالمي لحماية التعليم من الهجمات في تقارير متابعة الأوضاع داخل أراضي قطاع غزة أثناء الحرب التي دعت سلطات الاحتلال إلى تنفيذ بنود الإعلان لضمان سلامة المدارس والجامعات في ظل استمرار النزاع، وأكدت على ضرورة محاكمة مرتكبي الجرائم ضد المرافق التعليمية وتقديم التعويض اللازم عن الهجمات.
الحق في الانتصاف والجبر.. من يعوِّض الفلسطينيين؟
يؤكد القانون الدولي على التزام الدولة بتوفير سبل انتصاف فعالة فيما يتعلق بتعويض المتضررين عن الضرر الذي تسببت فيه تلك الدولة، بما في ذلك انتهاك الحق في التعليم والحقوق الأخرى المتصلة به بشكل يترتب عليه حرمان المتضررين من فرصة الحصول على التعليم؛ وبالتالي فإن إدانة محكمة العدل الدولية لانتهاكات دولة الاحتلال فيما يتعلق بحق الفلسطينيين في التعليم يسمح لها بإصدار صيغة ملزمة لدولة الاحتلال بتعويض الفلسطينيين وإزالة آثار الانتهاكات التي ارتكبها جيش الاحتلال وإعادة الحال إلى ما كان عليه، إلا أن هذا الإلزام لا يمكن أن يصدر إلا بعد أن تتقدم السلطة الفلسطينية باحتجاج لمحكمة العدل الدولية وتطالب دولة الاحتلال بتقديم التعويض.
ولأن دولة الاحتلال لا تزال مستمرة في انتهاكاتها ضد الفلسطينيين وتجاهلها للمواثيق الدولية، فإن التزامها بتعويض الفلسطينيين وإعادة المرافق التعليمية لما كانت عليه يُعد دربًا من دروب الخيال في ظل استمرار الدعم الأمريكي غير المحدود لتلك الانتهاكات. بالتالي، فإن السلطة الفلسطينية عليها أن تتحول لمطالبة كل الأطراف التي دعمت الهجوم على المرافق التعليمية بالتعويض الذي يعيد مدارس القطاع إلى ما كانت عليه، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا.
علاوةً على ذلك، قد تلعب المنظمات الدولية دورًا في تعويض الفلسطينيين مثلما فعل صندوق “التعليم لا ينتظر” Education Can’t Wait، صندوق الأمم المتحدة العالمي المعني بالتعليم في حالات الطوارئ والأزمات الممتدة، حيث قدم حتى الآن حوالي 50 مليون دولار لدعم الأطفال في غزة، ولكن هذا التمويل لن يكون كافيًا مقارنةً بحجم الدمار الذي شهدته المرافق التعليمية الفلسطينية طوال فترة الحرب؛ مما يفرض تكاتف المجتمع الدولي لإعادة ما يزيد على نصف مليون طالب إلى التعلم من جديد. وفي سبيل تحمل كل الأطراف مسئولياتهم تجاه الوضع الراهن، فقد يكون من المفيد أن تتبنى المجموعة العربية في مجلس الأمن مشروع قرار يلزم شركات تصنيع الأسلحة المستخدمة في الهجوم على المرافق التعليمية بتقديم التعويض اللازم لإعادة تأهيل تلك المرافق وضمان عودة الطلاب إليها من جديد.
في الأخير، قد يبدو حلم إعادة الأطفال الفلسطينيين لمدارسهم في المستقبل القريب صعبًا في ظل إصرار دولة الاحتلال على استمرار الجرائم بحق الفلسطينيين ووأد الجهود الرامية لوقف إطلاق النار في القطاع، إلا أن البحث عن سُبل استكمال الطلاب الفلسطينيين دراستهم بشكل شامل ومنصف لا بد أن يكون إحدى أولويات المجتمعين الإقليمي والدولي بمجرد التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، كما يجب أن تضمن المؤسسات الدولية وضع وتنفيذ خطة استئناف الدراسة وفق جدول زمني محدد سابقًا وتقديم البدائل المناسبة في حالة استمرار الحرب مستقبلًا.