أجرى رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” زيارة إلى واشنطن في 15 أبريل الماضي، بمشاركة وفد رفيع المستوى من المستشارين وأعضاء مجلس النواب والإعلاميين، ووزراء المالية والتجارة والكهرباء والنفط، بالإضافة لمحافظ البنك المركزي العراقي، وبمرافقة خمسة من رجال الأعمال العراقيين. واستغرقت مدة الزيارة أسبوعًا، وتضمنت عدة لقاءات لرئيس الوزراء العراقي مع الشركات الأمريكية والجالية العراقية، ومراكز الفكر في واشنطن، وشركات الطاقة الأمريكية، بهدف مناقشة مسار الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين في ضوء اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة ين العراق وواشنطن منذ عام 2008.
تم التشاور خلال الزيارة حول شكل العلاقة الأمنية بين واشنطن والعراق، بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل العلاقة بين بغداد وحكومة إقليم كردستان، وملف الطاقة في العراق، وإعادة فتح خط الأنابيب بين العراق وتركيا. وغلب على هذه الزيارة البعد الاقتصادي بهدف تعزيز التعاون بين بغداد وواشنطن في مجالات مختلفة، ووقع العراق خلال الزيارة أكثر من اثنتي عشرة مذكرة تفاهم مع شركات أمريكية مثل (جنرال إلكتريك، وكي بي آرهانيويل) وغيرها. لترقى مستوى العلاقات إلى شراكة أكثر استدامة، بهدف الانتقال من نمط التعاون الأمني العسكري إلى نمط من العلاقات الثنائية متعددة الأبعاد في قطاعات الطاقة والاستثمار والصحة والمياه والتعليم، إذ تعتزم العراق إرسال 3000 طالب وطالبة للدراسة في الولايات المتحدة، وستعمل الوكالة الأمريكية مع العراق لتحسين إدارة المياه والنفايات، بالإضافة إلى تبادل الخبرات في قطاع الصحة فيما يتعلق ببرامج التأمين الصحي وإدارة المستشفيات وأبحاث السرطان.
أولًا: أهداف عديدة
هدفت زيارة رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” إلى تخفيف الضغوط الداخلية من قوى (الإطار التنسيقي) وهو الائتلاف الحاكم الذي ينتمي له السوداني بشأن ضرورة انسحاب القوات الأمريكية من العراق، خاصة في ضوء تحول العراق لجبهة من جبهات الصراع الدائر في غزة، في ظل توجيه ضربات للقواعد الأمريكية في العراق وسوريا والأردن، بما رتب مقتل ثلاثة من الجنود الأمريكيين. بالإضافة إلى إطلاق إيران أكثر من 300 طائرة بدون طيار وصاروخًا على إسرائيل، وقد عبرت المجال الجوي العراقي بما هدد أمن وسيادة الدولة.
من ناحية أخرى هدفت الزيارة بحث تحديات العراق من المياه إذ يُعاني من ندرة في المياه، وتشير التقديرات إلى أن العراق من بين الدول الخمس الأكثر تضررًا من تأثير تغير المناخ، بما يُهدد الأمن المائي والغذائي لأكثر من 43 مليون عراقي، ومن المتوقع أن يصل إلى 80 مليون بحلول عام 2050، لذلك تحاول بغداد الحصول على الخبرة والتكنولوجيا من واشنطن بهدف التخفيف من آثار التغير المناخي.
يسير السوداني على نهج رئيس الوزراء السابق “الكاظمي” في محاولة تحقيق التوازن في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، بهدف تجنب استمرار الدولة كساحة للصراع بين الأطراف الإقليمية والدولية، وكسب استمرار الدعم الأمريكي لتنمية العراق، وتحقيق نهضة في نموه الاقتصادي، لكن لا تزال التحديات قائمة في العراق فيما يتعلق بالتطلعات الدولية لتعميق التعاون الاقتصادي معه، في ضوء النفوذ الإيراني المتزايد في العراق وملف الفساد والمليشيات، الذي يُهدد الاستقرار هناك، بما يُشكل تخوفًا لأي مستثمر أجنبي.
هدف رئيس الوزراء العراقي جذب الشركات الأمريكية في قطاعي البنية التحتية والخدمات بالعراق، مع ضمان استمرار الدعم الأمريكي للإصلاحات المصرفية والكهرباء. من ناحية ثانية يبدو أن مشروع طريق التنمية الذي تضطلع العراق إلى تنفيذه يحظى بدعم أمريكي، والذي يهدف إلى تعميق التعاون الاقتصادي، وخلق مزيد من فرص العمل والاستثمار. وتبلغ تكلفته 17 مليار دولار، وهو طريق بري وسكك حديدية يربط الخليج العربي بأوروبا عبر تركيا والعراق، ومن المقرر أن يستضيف مناطق للتجارة الحرة.
من ناحية أخرى، تحرص واشنطن على عدم ترك العراق ساحة للنفوذ الروسي أو الصيني أو الإيراني خاصة أن العراق سوق مهم للأسلحة الروسية، وتُعد بكين مستوردًا رئيسيًا للنفط العراقي، حيث يمتلك العراق خامس أكبر احتياطي نفطي، وهو أحد أكبر ثلاثة منتجين للنفط في منظمة أوبك، ويُمثل استقراره عاملًا مهمًا في سوق الطاقة العالمية. وقد عبرت تصريحات بايدن خلال زيارته للسعودية في العام 2022 عن أهمية ومحورية العراق بالنسبة لدولته قائلًا: “لن نبتعد ونترك فراغًا تملأه الصين أو روسيا أو إيران، وسنسعى للبناء على هذه اللحظة بقيادة أمريكية نشطة ومبدئية”.
كذلك تتمثل رغبة واشنطن في خفض الاعتماد المتبادل بين إيران والعراق، وتحقيق استقلالية الأخيرة في مجال الطاقة، وخفض النفوذ الجيوسياسي لإيران في العراق، لكن تواجه بغداد إشكالية فيما يتعلق بانقطاع التيار الكهربائي، وبالرغم من إنتاج العراق للنفط الخام لا يزال يعتمد على الغاز الطبيعي الإيراني، والمنتجات المكررة والكهرباء لتلبية احتياجاته بما يقرب من نصف طلب العراق.
ثانيًا: مخرجات الزيارة وأبعاد الشراكة المستقبلية بين واشنطن وبغداد
حملت زيارة رئيس الوزراء العراقي” محمد شياع السوداني” بعض ملامح الشراكة المستقبلية بين واشنطن وبغداد نذكرها على النحو الآتي:
- دعم العراق في مجال الطاقة: يُمثل قطاع النفط في العراق حوالي 90% من إيرادات الدولة، ويُصدر نحو 3.3 ملايين برميل من النفط الخام يوميًا على مستوى العالم، واستوردت الولايات المتحدة 6.7 ملايين برميل من النفط العراقي في يناير 2024، وخلال زيارة السوداني الأخيرة إلى واشنطن تم توقيع مذكرة للتفاهم بين الدولتين لمعالجة الغاز المحترق وتحويله إلى كهرباء قابلة للاستخدام للشعب العراقي.
وتم التشاور على الفرص المستقبلية في مجال الطاقة لتحقيق اكتفاء العراق في مجال الطاقة بحلول عام 2030 وبمساعدة الشركات الأمريكية مع دعم وصول النفط العراق إلى الأسواق الأخرى، بالإضافة إلى دعم الولايات المتحدة لبغداد في خفض انبعاثات غاز الميثان، ومعالجة تغير المناخ، ومواجهة ندرة المياه في العراق وتوفير الكهرباء. يضاف إلى ذلك دعم خطوات استكمال ربط شبكات الطاقة الكهربائية مع الدول المجاورة لا سيما مع الأردن ودول مجلس التعاون الخليجي (إذ بدأ العراق في استقبال 40 ميجا واط من الكهرباء، ومن المقرر زيادتها في المراحل المستقبلية بنحو 900 ميجا واط).
وقد عكست البيانات الصحفية عقب الزيارة، توجهًا أمريكيًا لدعم مسارات العراق التنموية مع مختلف الدول لخفض اعتمادها على إيران، إذ يعتمد العراق على واردات الطاقة من إيران وخاصة الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء والبنزين للسيارات، كما يخسر العراق أكثر من 3 مليارات دولار سنويًا خلال حرق الغاز أثناء إنتاج النفط، وينفق المبلغ ذاته على استيراد البنزين.
2- دعم حل القضايا العالقة مع إقليم كردستان: خلال لقاء رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني بالرئيس الأمريكي “جو بايدن” دعم الأخير جهود ومساعي العراق لحل القضايا العالقة مع الإقليم، ولا سيما دفع رواتب شهرين لموظفي حكومة إقليم كردستان، وإجراء انتخابات إقليم كردستان العراق.
إذ يواجه العراق توترات بين حكومتي بغداد وإقليم كردستان حول إنتاج النفط وصادراته،(فقد قاد قرار المحكمة الاتحادية في العراق في فبراير 2022 إلى منح بغداد جميع إيرادات الإقليم النفطية، وأدى هذا القرار إلى وقف الصادرات النفطية للإقليم إلى تركيا، وقررت غرفة التجارة الدولية ضرورة دفع تركيا تعويضات مالية عن النفط الذي تم ضخّه من حكومة إقليم كردستان بين عامي 2014 و2018، ولا تستطيع حكومة الإقليم وشركات النفط الدولية العاملة في كردستان العراق، تصدير النفط حتى يتم التوصل إلى اتفاقيات جديدة مع الحكومة العراقية، وخسر الإقليم نحو 14 مليار دولار من عائدات التصدير عبر خط أنابيب العراق) بما دفع واشنطن لدعم حل هذه التوترات بين الحكومتين بهدف تحقيق الاستقرار في العراق، ولا سيما في حال تطور الشراكة الاقتصادية بين واشنطن والعراق خلال السنوات القادمة.
3- إصلاح القطاع المالي والمصرفي: جاءت مخرجات لقاء رئيس الوزراء العراقي “السوداني” بالرئيس الأمريكي “بايدن” داعمة لتحقيق الشفافية والتعاون ضد عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب ومواجهة الفساد، بالإضافة إلى دعم البنك المركزي العراقي في إنهاء منصة المزادات الإلكترونية للتحويلات المالية الدولية بنهاية عام 2024، من خلال التعامل المباشر بين البنوك في العراق، والبنوك في الولايات المتحدة وأوروبا، وربط الشركات العراقية بالمنظومة الاقتصادية الدولية، فهناك ضغوط أمريكية من قبل وزارة الخزانة الأمريكية على البنك المركزي العراقي لإنشاء منصة إلكترونية عبر النظام المصرفي في البلاد لمنع تهريب الدولار إلى إيران أو جهات أخرى. وتقدم مؤسسة التمويل الدولية للتنمية قرضًا بقيمة 50 مليون دولار بتسهيل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية للبنك الوطني العراقي، من أجل دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
4- مسار التعاون الأمني بين واشنطن والعراق: تم التوافق حول تعزيز قدرات القوات الأمنية العراقية لتكون قادرة على مواجهة داعش، وضمان عدم تمكنها من إعادة تشكيل صفوفها داخل العراق بما يهدد الأمن الإقليمي والدولي، بالإضافة إلى مناقشة جهود التحالف الدولي ضد داعش، والالتزام بعمل اللجنة العسكرية العليا المستمر ونتائجها التي تم إنشاؤها في أغسطس 2023، ومجموعات العمل الثلاث التي ستقوم بتقييم تهديد داعش، والمتطلبات العملياتية والبيئية وتقييم قدرات القوات العراقية. يضاف إلى ذلك مراجعة واشنطن والعراق هذه العوامل لتحديد مدة انتهاء مهمة التحالف الدولي في العراق، ثم الانتقال إلى شراكة أمنية ثنائية دائمة وفقًا للدستور العراقي، واتفاقية الإطار الاستراتيجي بين الدولتين.
لكن لا تزال هناك تحديات تقع على عاتق الدولة العراقية ترتبط باستمرار وجود المليشيات المسلحة المدعومة من إيران، ووضع الحشد الشعبي كونه يُساهم في أمن العراق. بالإضافة إلى مسئولية العراق تجاه حماية البعثة الأمريكية في العراق، وكذلك المستشارين العسكريين للولايات المتحدة والسفارة الأمريكية في بغداد، بالإضافة إلى تحدي الفساد، إذ يصنف العراق في المرتبة 154 من 180 وفق مؤشر مدركات الفساد لعام 2023 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، ويعد ذلك تقدمًا نسبيًا خاصة أنه احتل المرتبة 157 في العام 2022.
ختامًا، على الرغم من تعدد المسميات التي تطلق على شكل العلاقات بين واشنطن وبغداد، وغلبة البعد الاقتصادي على هذه الزيارة، إلا أن التعاون الأمني والعسكري سيظل مستمرًا وإن أخذ مسميات أخرى، لاعتبارات عديدة تتعلق بأهمية العراق بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والعكس، ويبقى متغير القيادات والإدارات في الدولتين، والمتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية محدد مهم لشكل وطبيعة التعاون المستقبلي.