أجرى الرئيس الصيني “شي جين بينغ” جولة أوروبية خلال الفترة من 5 إلى 10 مايو 2024، تضمنت فرنسا وصربيا والمجر، وهي الرحلة الأولى التي يقوم بها الرئيس الصيني إلى أوروبا منذ خمس سنوات. وبحسب وزارة الخارجية الصينية، تحمل هذه الزيارات “أهمية حيوية لعلاقات الصين مع فرنسا وصربيا والمجر والاتحاد الأوروبي بشكل عام، وأنها سوف توفر قوة دفع جديدة للسلام والتنمية العالميين”.
تختلف هذه الزيارة عن مثيلتها التي أُجريت عام 2019، حينما كان للبعد التعاوني الأولوية في مسار العلاقات الصينية الأوروبية. بينما يشير الواقع الراهن إلى غلبة البعد التنافسي الحذر، ولعل مصطلحات “إزالة المخاطر والأمن الاقتصادي” و”القدرة الصناعية الفائضة” التي يصف بها الاتحاد الأوروبي علاقته مع الصين أكثر دلالة على توضيح أولويات العلاقات الأوروبية مع الصين.
ومع ذلك، أظهر الاختيار الصيني لزيارة الدول الثلاث رغبة من جانبه في تسليط الضوء على مكانة وأهمية الصين داخل الساحة الأوروبية، رغم اتساع الخلاف وتعدد مجالات التنافس، حيث أبرزت الزيارة قدرة بكين على تحقيق التوازن بين أولوياتها الاقتصادية بالقارة، والحفاظ في الوقت نفسه على علاقات ودية تعاونية مع بعض دول الاتحاد الأوروبي، وتعزيز نفوذها وروابطها الوثيقة مع دول أخرى، مما يدفع في طريق الإبقاء على واقع الانقسام الغربي إزاء كيفية التعامل مع الصين.
توقيت مأزوم
برغم الرمزية التاريخية التي تغلف الزيارة الصينية إلى الدول الثلاث، تأتي هذه الجولة في سياق من المحاولات الهادفة إلى توحيد الكتلة الأوروبية ضد الصين، استنادًا إلى تنامي المخاوف بشأن مستقبل التعاون الصيني الروسي، واحتمالات تحوله إلى تحالف مُوجّه ضد الغرب بأسره، وكذا القدرة الصناعية الفائضة لبكين والتي من شأنها تهديد الصناعة الأوروبية، وهو ما انعكس في قرار المفوضية الأوروبية بفتح سلسلة من التحقيقات التجارية التي قد تؤدي إلى فرض عقوبات على صادرات الصين من التكنولوجيا النظيفة. وكذا تتابع الاتهامات الأوروبية بشأن مسئولية بكين عن أعمال تجسس داخل بعض الدول الأوروبية.
أولًا- الرمزية التاريخية:
تشير الذكرى التاريخية المتزامنة مع الزيارات الثلاث إلى الرغبة الصينية في التأكيد على الأساس الودي المرتكزة عليه العلاقات الصينية الأوروبية، برغم عدم التوافق المتزايد بين الجانبين حول العديد من القضايا، بما في ذلك قضايا التجارة الثنائية، وموقف الجانبين من الحرب في أوكرانيا والعلاقات مع روسيا، هذا فضلًا عن ملفي تايوان وحقوق الإنسان.
من ناحية، تتزامن الزيارة إلى فرنسا مع ذكرى مرور 60 عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية الثنائية. فبإعلان اعترافها في يناير 1964 بجمهورية الصين الشعبية، كانت فرنسا هي أول دولة غربية تقيم علاقات رسمية مع الصين، وذلك في إطار سياسة الرئيس الفرنسي “شارل ديجول” حينها القائمة على تبني باريس سياسة محايدة ومنفصلة عن سياسة المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وهي السياسة نفسها التي يتردد صداها لدى الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الذي يدعو أوروبا إلى عدم “الدخول في منطق “الكتلة مقابل الكتلة”، أي ألّا تكون “تابعة” للولايات المتحدة أو للصين، في ذات الوقت الذي يعمل فيه على تقريب وجهات النظر بين التكتل الأوروبي وبكين عبر تعزيز البعد الشخصي في العلاقات بهدف التوصل إلى أرضية مشتركة.
فيما تتزامن زيارة الرئيس الصيني إلى المجر مع ذكرى مرور 75 عامًا على إقامة علاقات دبلوماسية بين الجانبين، اتسمت بالدعم والثقة المتبادلة، فقد كانت المجر هي أول دولة أوروبية وقعت على وثيقة تعاون الحزام والطريق مع الصين، وفي عام 2017، أعلن البلدان عن إقامة شراكة استراتيجية شاملة.
من ناحية أخرى، مثلت الذكرى التاريخية المصاحبة لزيارته إلى صربيا فرصة لانتقاد حلف الناتو وتسليط الضوء على ما تسفر عنه تدخلاته العسكرية من تهديد وأضرار لسيادة ومصالح الدول، حيث ترتبط هذه الزيارة بذكرى مرور 25 عامًا على قصف الولايات المتحدة عام 1999 مقر السفارة الصينية في العاصمة الصربية، بلجراد، والتي أسفرت عن مقتل ثلاثة صحفيين صينيين. وفي مقاله المنشور بصحيفة “بوليتيكا” الصربية، أشار الرئيس الصيني إلى أنه لا ينبغي نسيان هذا التاريخ، وأن الشعب الصيني يحب السلام، ولكنه لن يسمح أبدًا لمثل هذا التاريخ المأساوي أن يكرر نفسه”، وهو ما قد يحمل إشارة ضمنية لرفض الصين محاولات الحلف الهادفة إلى التقارب مع دول منطقة الإندو-باسيفيك.
ثانيًا- اتهامات التجسس الصيني:
على الرغم من غيابها عن مناقشات القادة أثناء الزيارة، فقد كانت قضية الاتهامات الأوروبية بشأن مسئولية الصين عن أعمال تجسس على شركات ومؤسسات أوروبية حاضرة لدى العديد من التقارير الصحفية ومؤسسات التحقيق الأوروبية. في السابع من مايو، تعرضت وزارة الدفاع البريطانية لهجوم إلكتروني استهدف نظام الرواتب العسكري، وقد أشارت تقارير صحفية إلى مسئولية الصين عن هذا الهجوم، سبق ذلك اتهام هيئة الادعاء الملكية البريطانية (CPS) ضد شخصين بزعم انتهاكهما قانون الأسرار الرسمية في المملكة المتحدة لصالح الصين.
ويأتي ذلك أيضًا بعد أقل من شهرين من توجيه الحكومة البريطانية اللوم لمنظمات على صلة ببكين متهمة إياها بتنظيم حملتين إلكترونيتين “خبيثتين” طالتا اللجنة الانتخابية وبرلمانيين.
وفي ألمانيا، أُلقي القبض في أبريل 2024 على ثلاثة مواطنين ألمان للاشتباه في علاقتهم بجهاز مخابرات صيني منذ ما قبل يونيو 2022، وبحسب مكتب المدعي العام الألماني، فقد عمل أحد المتهمين كعميل لموظف في وزارة أمن الدولة الصينية، حيث تولى جمع معلومات عن التقنيات العسكرية الألمانية لصالح بكين. كما تم القبض على “جيان جي”، مساعد عضو البرلمان الأوروبي “ماكسيميليان كراه”، الذي يرأس قائمة حزب “البديل من أجل ألمانيا” خلال الانتخابات الأوروبية، للاشتباه في قيامه بالتجسس لصالح الصين، وبأنه “موظف في جهاز المخابرات الصيني”.
وفي بلجيكا، أُجري تحقيق جنائي مع السياسي اليميني “فرانك كريلمانه”، في يناير 2024، بعد تحقيق أجرته صحف “فايننشال تايمز” و”دير شبيغل” و”لوموند”، والتي زعمت استخدامه ليكون أحد أصول المخابرات الصينية لعدة سنوات.
وتعقيبًا على ذلك، أوضحت وزارة الخارجية الصينية في أكثر من مناسبة عن معارضتها ومحاربتها كل أشكال الهجمات الإلكترونية، رافضة في الوقت نفسه “أي محاولة لاستخدام مسألة الهجمات الإلكترونية لأغراض سياسية لتشويه سمعة الدول الأخرى”.
ثالثًا- تنافس أمريكي صيني متصاعد:
تأتي الجولة الأوروبية للرئيس الصيني في أعقاب الزيارة التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” إلى الصين، في أبريل 2024، والتي سلطت الضوء بشكل متزايد على حجم التناقضات وارتفاع حدة التنافس الاقتصادي ما بين واشنطن وبكين.
تتهم واشنطن بكين بالانخراط في “ممارسات اقتصادية وتجارية غير عادلة”، خاصة في عدد من الصناعات الرئيسية التي ستقود اقتصاد القرن الحادي والعشرين، مثل الألواح الشمسية، والمركبات الكهربائية، والبطاريات، والتي تنتج الصين وحدها أكثر من 100% من الطلب العالمي على هذه المنتجات، مما يؤدي إلى إغراق الأسواق، وتقويض المنافسة. من جانبها، ترفض الصين هذه الاتهامات، مبررة ذلك بأن صناعاتها “أكثر قدرة على المنافسة”، وأن تبني الولايات المتحدة لسلسلة لا نهاية لها من الإجراءات لقمع الاقتصاد والتجارة والعلوم والتكنولوجيا في الصين ليست بمنافسة عادلة وإنما احتواء يؤدي إلى خلق المخاطر.
خلال الأشهر الأخيرة، اتجهت واشنطن إلى توسيع ضوابط التصدير على التقنيات الحيوية، إلى جانب فرض عقوبات على الشركات الصينية وحظرها من العمل في الولايات المتحدة. ويُعد أقرب مثال على ذلك هو موافقة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” يوم الرابع والعشرين من أبريل 2024 على قانون يمنح تطبيق “Tik Tok” ما يقرب من تسعة أشهر لنقل ملكية التطبيق إلى شركة غير صينية أو مواجهة حظر وطني داخل الولايات المتحدة.
سبق هذا القرار دعوة الرئيس “بايدن” الممثل التجاري للولايات المتحدة، يوم السابع عشر من أبريل 2024، لدراسة مضاعفة الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم الصيني ثلاث مرات عن مستواها الحالي التي فرضها سلفه “دونالد ترامب” سابقًا. كما تدرس إدارة “بايدن” في الوقت نفسه إمكانية حظر السيارات الكهربائية صينية الصنع في السوق الأمريكية، بدعوى ما تمتلكه هذه السيارات من إمكانات “تجسس”، تدعم الحكومة الصينية تصنيعها.
رابعًا- محاور في طور النشأة:
اتصالًا بتصاعد التنافس الاقتصادي الأمريكي الصيني، تتزامن جولة الرئيس “شي” الأوروبية مع مطالبات الولايات المتحدة بتوحيد الجهود مع الجانب الأوروبي الهادفة إلى تقويض العلاقات الصينية الروسية التي تسببت في إضعاف فعالية العقوبات الغربية من ناحية، إلى جانب العمل على تقييد تحركات الصين في منطقة المحيطين الهندي – الهادئ من ناحية أخرى.
وفي هذا الإطار، فقد أقر الرئيس الأمريكي قانونًا يوم الرابع والعشرين من أبريل 2024 يوفر ثمانية مليارات دولار لمواجهة نفوذ الصين العسكري، عبر تقديم الدعم لتايوان والدول الحليفة بمنطقة المحيطين الهندي –الهادئ. يرتبط هذا الدعم مع التحالفات الأمنية الأمريكية داخل منطقة المحيطين الهندي الهادئ، والتي شهدت تناميًا خلال فترة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بدءًا من تحالف “أوكوس” المكون من الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا، مرورًا بالشراكات الأمنية الثنائية مع عدد من دول هذه المنطقة، كتلك المنعقدة مع الفلبين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، وصولًا إلى صيغ التعاون متعدد الأطراف، والتي اتخذت شكلًا أكثر وضوحًا في إطار نموذج القمم الثلاثية والتي جمعت الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية العام الماضي، ومع اليابان والفلبين أوائل أبريل 2024، وكذا في إطار محاولات توسيع تحالف أوكوس ليضم اليابان.
في المقابل، تعمل الصين على تعزيز روابطها وشراكاتها العالمية القائمة على تقارب وجهات النظر السياسية والمصالح الاقتصادية التنموية، مستفيدة في ذلك من تنامي تراجع الثقة، لا سيما بين دول الجنوب العالمي، في الولايات المتحدة كشريك يمكن التعويل عليه.
كما تستمر بكين في تبني مسار توثيق علاقاتها الثنائية مع الدول المتوافقة معها في المعارضة الصريحة للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، لا سيما روسيا وإيران وكوريا الشمالية، الذين يُنظر إليهم غربيًا على أنهم في طريقهم نحو تشكيل محور جديد يتمثل هدفه الرئيسي في معارضة واشنطن، والانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب.
مخرجات براجماتية
جاءت زيارة الرئيس الصيني إلى أوروبا في توقيت حاسم؛ حيث تستعد القوى الأوروبية لانتخابات البرلمان الأوروبي الذي من المُقرر عقدها في يونيو المقبل، والتي قد تكون لنتائجها، التي من المُحتمل أن تشهد تحولًا تجاه اليمين، تأثير في العلاقات الأوروبية الصينية خلال السنوات المقبلة، بجانب استمرار التباين الأوروبي بشأن أبعاد التعاون التجاري مع الصين في إطار تنامي المخاوف من تبعات الشراكة غير المتكافئة. بالإضافة إلى تصاعد التوترات بين روسيا والغرب على خلفية استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية للعام الثالث، في الوقت الذي تزايد فيه التقارب الروسي-الصيني، الأمر الذي أثار المخاوف والشكوك لدى القوى الأوروبية من تبعات حول احتمالية أن يتحول التعاون بين البلدين إلى تقديم بكين دعم عسكري إلى موسكو.
لذا فقد عكست الزيارة الرؤى البراجماتية بين الصين والقوى الأوروبية بشأن بعض الملفات ذات الاهتمام المشترك؛ إذ حاول الجانبان تحييد خلافاتهم السياسية بشأن بعض القضايا المتعلقة بالحقوق والحريات وأيضًا الموقف من تايوان، مقابل تعزيز العلاقات الثنائية استنادًا إلى الروابط التاريخية، والرغبة في الحد من تأثير الإجراءات الحمائية لصالح تنامي الشراكة التجارية، وتمثل ذلك فيما يلي:
- الأزمة الأوكرانية: احتل ملف الحرب في أوكرانيا أولوية متقدمة على أجندة الرئيس الفرنسي، الذي حاول توظيف الزيارة من أجل مطالبة الصين بممارسة الضغط على روسيا لوقف الحرب، وضمان عدم دعم روسيا عسكريًا، باعتبار أن الصين أضحت أهم حليف لروسيا منذ اندلاع الحرب في المقابل، كما أنها لا تزال مُلتزمة بنهج الحياد، ولعب دور الوساطة، وهو ما تمثل في طرح مبادرة للسلام في أوكرانيا في الذكرى السنوية الأولى للحرب.
أما بالنسبة للصين، فقد مثلت الزيارة فرصة للرئيس “شي” لتوضيح موقفه من دعم روسيا عسكريًا، والحرب في أوكرانيا قائلًا خلال مؤتمره الصحفي مع نظيره الفرنسي: “الصين لم تكن البادئة بالأزمة الأوكرانية، كما أنها ليست طرفًا فيها أو مشاركة فيها”. وتابع: “تعارض الصين محاولات استخدام الأزمة الأوكرانية لجعل دولة ثالثة كبش فداء أو تشويهها أو إشعال حرب باردة جديدة”. داعيًا كافة الأطراف للمشاركة والحوار لبناء الثقة المتبادلة لحل الصراعات، كما أعرب عن “تأييده عقد مؤتمر دولي للسلام في الوقت المناسب، تعترف به كل من روسيا وأوكرانيا، ويضمن المشاركة المتساوية لجميع الأطراف وإجراء مناقشات عادلة حول جميع خطط السلام، مشددًا على دعم بلاده “إقامة هيكل أمني متوازن وفعال ومستدام في أوروبا”.
في المقابل، تعد المجر من القوى الأوروبية الأكثر براجماتية، والتي تحاول الاستفادة من كافة الأطراف، تجلى ذلك من خلال موقفها من فرض العقوبات على روسيا، فضلًا عن استمرار علاقاتها مع موسكو لتأمين إمداداتها من الطاقة الروسية. وهو ما انعكس على موقفها من أوكرانيا وتمثل في تصريحات رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان” خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس “شي” قائلًا: “اليوم، أوروبا تقف إلى جانب الحرب”. “الاستثناء الوحيد هو المجر التي تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار وإجراء مفاوضات سلام وتدعم كل الجهود الدولية التي تشير إلى السلام.. كما ندعم مبادرة السلام الصينية التي قدمها شي جين بينج”.
- القضايا التجارية: يرغب الاتحاد الأوروبي في ضمان أن تكون الشراكة مع الصين قائمة على المنافسة العادلة، وهو ما تجلى خلال لقاء الرئيس “شي” مع الرئيس “ماكرون” ورئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” لمناقشة مثل هذه القضايا، إذ قال الرئيس “شي” في الإليزيه: “كقوتين عالميتين رئيسيتين، على الصين والاتحاد الأوروبي أن يبقيا شريكين ويواصلا الحوار والتعاون ويعمّقا التواصل الاستراتيجي ويعزّزا الثقة الاستراتيجية المتبادلة”. وذلك في إطار توجه بكين نحو أوروبا لتعزيز نفوذها الاقتصادي، والذي من المُرجح أن ينعكس بشكل تدريجي على مصالحها السياسية، وهو ما تمثل بالفعل في وقت سابق حين عرقلت بودابست إصدار بيان للاتحاد الأوروبي ينتقد قانون الأمن الصيني الجديد في هونغ كونغ في أبريل 2021.
واتصالًا بذلك، اتفق الجانبان الصيني والفرنسي على تحقيق توازن مُتصاعد في مجال التجارة الثنائية، والالتزام بتوفير بيئة أعمال سليمة للشركات من الجانب الآخر، بجانب توقيع نحو 18 اتفاقية تعاون بين الوكالات الحكومية، تغطي مجالات مثل: الطيران، والزراعة، والتبادلات الشعبية، والتنمية الخضراء، والتعاون في مجال الشركات الصغيرة والمتوسطة.
أما فيما يتعلق بـصربيا فقد ساهمت الزيارة في تعزير العلاقات المُتنامية مع الصين الشريك التجاري الثاني لبلجراد عبر توقيع نحو 28 اتفاقية تعاون ومذكرة تفاهم على المستوى الوزاري. كما أشاد الرئيس الصربي بمساعدات الصين لصريبا في إطار استعدادها لاستضافة معرض “إكسبو- 2027” عبر تجهيز العاصمة بـ “سيارات الأجرة الطائرة”. وفيما يخص المجر –التي تعد جزءًا من مبادرة الحزام والطريق الصينية- فقد أبرمت نحو 18 اتفاقية ثنائية، تستهدف تنامي التعاون مع المجر في إطار طريق الحرير الجديد الصيني من خلال زيادة التعاون في مشاريع الخاصة بقطاع الطاقة، والطرق، والسكك الحديدية.
- الارتقاء بمستوى الشراكة: في إطار سعي الصين لتحقيق التوزان في علاقاتها مع القوى الأوروبية، قامت بتعزيز العلاقات الثنائية مع صريبا انطلاقًا من العلاقات التاريخية بين الجانبين، والشراكة الاستراتيجية الشاملة بينهما منذ عام 2016، وعليه فقد توافق الجانبان على تعزيز التواصل الاستراتيجي لتوجيه بناء مجتمع مصير مشترك بين الصين وصربيا، قائم على تعزيز مستويات التبادل السياسي والاقتصادي والثقافي والعلمي والشعبي، بما يسهم في تحقيق التنمية المشتركة لكلا البلدين.
وبناءً عليه، أعلن الرئيس “شي” عن الدفعة الأولى من الخطوات العملية التي ستتخذها الصين لدعم بناء هذا المجتمع، أثناء لقائه الصحفي المشترك مع الرئيس “ألكسندر فوتشيتش”، والتي تمثلت فيما يلي:
- نتيجة للجهود المشتركة بين الجانبين، من المُقرر أن تدخل اتفاقية التجارة الحرة بين الصين وصربيا حيز التنفيذ في الأول من يوليو من هذا العام.
- تدعم الصين صربيا في استضافة معرض “إكسبو 2027” وسوف ترسل وفدًا لحضور الحدث. كما سيتم تشجيع الشركات الصينية على المشاركة في مشاريع البناء ذات الصلة.
- ستستورد الصين المزيد من التخصصات الزراعية عالية الجودة من صربيا.
- ستدعم الصين 50 عالمًا صربيًا شابًا للمشاركة في تبادل البحوث العلمية في الصين خلال السنوات الثلاث المقبلة.
- ستدعو الصين 300 شاب صربي للدراسة في الصين في السنوات الثلاث المقبلة.
- ترحب الصين بافتتاح صربيا رحلات جوية مباشرة من بلجراد إلى شنجهاي، وتشجع شركات الطيران في البلدين على فتح رحلات جوية مباشرة من بلجراد إلى قوانغتشو.
أما بالنسبة للمجر، تتسم علاقاتها بالصين بالشراكة الاستراتيجية الشاملة، والتي ساهمت في تعميق التعاون والثقة المتبادلة بين الجانبين، فضلًا عن التنسيق والتعاون الوثيق في الشئون الدولية والإقليمية. وهو ما نوه عنه الرئيس “شي” خلال كلمته في مطار بودابست وقال: “لقد وضعنا معًا مثالًا جيدًا لبناء نوع جديد من العلاقات الدولية التي تتسم بالاحترام المتبادل والإنصاف والعدالة والتعاون المربح للجانبين”. واتصالًا بذلك، أشار البيان المشترك الصادر من قادة البلدين الذي تضمن نحو 21 بندًا إلى جُملة من التوافقات السياسة والاقتصادية، كان من أبرزها:
- قرار الجانبين رفع الشراكة الاستراتيجية الشاملة الحالية إلى شراكة استراتيجية شاملة في جميع الأحوال للعصر الجديد، بمناسبة الذكرى الـ 75 لإقامة العلاقات الدبلوماسية.
- استمرار تمسك الحكومة المجرية بمبدأ صين واحدة، وأن حكومة الصين هي الحكومة القانونية الوحيدة التي تمثل الصين.
- التزام الجانبين بتعزيز التآزر بين مبادرة الحزام والطريق وسياسة “الانفتاح الشرقي” في المجر، من أجل إثراء شراكتهما الاستراتيجية.
- اتفاق الجانبين على إنشاء آلية تعاون حكومية بشأن خط السكك الحديدية السريع بين الصين وأوروبا، وتعزيز ربط البنية التحتية، واتخاذ تدابير عملية مشتركة لتحقيق ذلك.
- التوافق بشأن تهدئة الصراعات: في إطار استضافة فرنسا لدورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2024، أكدت باريس على أهمية الالتزام بـ “الهدنة الأولمبية” للتوصل إلى هدنة بشأن الصراعات في كافة أنحاء العالم خلال الفترة التي تمتد قبل سبعة أيام من انطلاق الفعاليات، وتنتهي بعد نحو سبعة أيام من ختام دورة الألعاب الأولمبية، وهو ما حاولت أن تدعمه بكين، مُعلنةً بدورها أنها “مستعدة للعمل مع فرنسا للدعوة، بمناسبة دورة الألعاب الأولمبية في باريس، إلى وقف الأعمال العدائية في جميع أنحاء العالم خلال الألعاب”، وفقًا لتصريحات الرئيس “شي” خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس “ماكرون”.
أما فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ فقد اعتبر الرئيس “شي” أن “هذه المأساة التي طال أمدها هي اختبار للضمير الإنساني”. داعيًا المجتمع الدولي وجميع الأطراف إلى التحرك إلى وقف فوري وشامل ومستدام لإطلاق النار في غزة. ومُدعمًا عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، واستعادة فلسطين حقوقها الوطنية المشروعة واستئناف حل الدولتين، لتحقيق السلام الدائم في الشرق الأوسط. وفي هذا الإطار، أصدر الجانبان الفرنسي والصيني بيانًا مشتركًا حول الوضع في الشرق الأوسط، تتمثل بنوده فيما يلي:
- تدين الصين وفرنسا جميع انتهاكات القانون الإنساني الدولي، بما في ذلك جميع أعمال العنف الإرهابية والهجمات العشوائية ضد المدنيين.
- يعارض رئيسي الصين وفرنسا العملية الإسرائيلية في رفح، والتي ستؤدي إلى كارثة إنسانية أكبر، كما يعارضوا أيضًا التهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين.
- دعا رئيسا الدولتين إلى الفتح الفعال لجميع الممرات والمعابر الحدودية اللازمة لتوصيل المساعدات الإنسانية بشكل سريع وآمن ومستدام ودون عوائق إلى قطاع غزة.
أولويات مُتشابكة
كشفت الزيارة الأولى للرئيس “شي” منذ خمس سنوات إلى فرنسا، وصربيا، والمجر عن مجموعة من الأهداف التي حاول كل طرف تحقيقها في إطار التحولات التي تشهدها العلاقات، تجلى ذلك في:
- الترويج للمصالح الأوروبية: تعكس رغبة الرئيس الفرنسي في حضور رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” لقاءه مع الرئيس الصيني، سعي فرنسا للتأكيد على أنها لا تبحث عن مصالحها فقط بل عن مصالح أوروبا، تمثل ذلك أيضًا في اصطحاب الرئيس “ماكرون” لرئيسة المفوضية خلال زيارته إلى الصين في أبريل 2023. كما يحمل حضور السيدة “فون دير لاين” اجتماع قادة البلدين رسائل مُوجهةً للصين تجمع ما بين التحذير المُعلن، والضغط غير المباشر، والتوازن المُربح بأهمية الوصول المُتبادل إلى كلا السوقين لضمان التجارة العادلة، وهو ما نوهت عنه بعد الاجتماع مع الرئيسيين الصيني والفرنسي: مُحذرةً من أن أوروبا “لن تتوانى عن اتخاذ القرارات الصعبة اللازمة لحماية اقتصادها وأمنها”. وخاصة أن الاتحاد الأوروبي، قد سبق وعلق الاتفاق الشامل المُبرم بين الاتحاد الأوروبي والصين في ديسمبر 2020، خلال رئاسة ألمانيا لمجلس الاتحاد الأوروبي بعد سبع سنوات من المفاوضات، وذلك بعد تصويت البرلمان الأوروبي في مايو عام 2021 على تجميد الاتفاق.
- الاستفادة من التباين الأوروبي: تحمل الزيارة أهمية بالنسبة للرئيس الصيني والذي يسعى إلى تصحيح صورة بلاده، واحتواء الانتقادات أو الضغوط التي قد تمارس ضده بشأن روسيا وتايوان، في الوقت الذي شهدت فيه العلاقات الأوروبية الصينية تراجعًا نسبيًا مثل: إيطاليا –أحد أعضاء مجموعة السبع الكبرى- التي أعلنت انسحابها من مبادرة الحزام والطريق في ديسمبر 2023 بعد انضمامها في عام 2019 للمبادرة، سبقتها ليتوانيا التي انسحبت في مايو 2021، ثم إستونيا ولاتفيا في أغسطس 2022.
لذا فقد أتاحت زيارة الرئيس “شي” لفرنسا وصربيا والمجر مجال لزيادة المناورة، واختبار مدى الاستفادة المُمكنة والمُحتملة من التباين الأوروبي في ضوء الموقف الفرنسي المُنفتح على الشرق، وعلاقات التعاون والروابط التاريخية مع صربيا الشريك الاستراتيجي الشامل للصين، والمجر التي تعد أول دولة في التكتل تُشارك في مبادرة “الحزام والطريق”، وتُعد أيضًا أكبر دولة جاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة الصينية في أوروبا الوسطى والشرقية.
- تعزيز البعد الشخصي في العلاقات: كان من اللافت للانتباه خلال هذه الزيارة هي محاولة الاستفادة من العلاقات الشخصية لتعزيز العلاقات؛ وهو ما تجلى في محاولة الرئيس “ماكرون” بناء علاقات ودية مستندة على التقارب الشخصي، لتجاوز الخلافات الاقتصادية، وقد يكون هذا التوجه محاولة للتحوط الفرنسي في حالة إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، تمثل في تقديم كونياك الفرنسي للرئيس الصيني، الذي أهدى بدوره طبعات من الروايات الفرنسية الكلاسيكية باللغة الصينية، مثل رواية “مدام بوفاري” للرئيس الفرنسي.
وعلى غرار اصطحاب الرئيس “شي” للرئيس “ماكرون” خلال زيارته العام الماضي للبلاد إلى مقر إقامة حاكم مقاطعة قوانغدونغ، الذي كان يعيش فيه والده، قام الرئيس “ماكرون” بدعوة الرئيس “شي” لزيارة ممر تورمالت في جبال بيرينيه، التي كان يزورها لرؤية جدته.
وفي الأخير، كشفت جولة الرئيس الصيني الأوروبية عن رغبة الجانبين في الإبقاء على العلاقات الدبلوماسية الودية، دون الانجرار إلى حالة من التنافس الصريح، كتلك القائمة ما بين واشنطن وبكين، وذلك برغم التخوفات الأوروبية من السياسات الاقتصادية الصينية والتي قد تحمل انعكاسًا سلبيًا على صناعاتها واقتصاداتها الوطنية، وكذا استمرار موقف الصين الداعم لشريكها الروسي، بشكل مكّن الأخير من الاستمرار في القتال على الجبهة الأوكرانية، علاوة على استمرار واشنطن في الضغط على حلفائها الأوروبيين لدفعهم نحو تبني سياسات من شأنها احتواء الصين.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن جولة “شي” الأوروبية قد أثبتت فكرة “المسار الوسط” الذي يسير فيه الجانب الأوروبي في إطار علاقته مع الصين، فهو لا يزال بعيدًا عن مسألة “الاستقلال الاستراتيجي”، ولكنه في الوقت نفسه غير متوافق بشكل كامل مع نهج الحليف الأمريكي إزاء الصين.
وبناءً عليه، من المُتوقع أن تسعى الصين لتوثيق علاقاتها بالقوى الأوروبية مرتكزة على جملة من المحددات منها؛ تعزيز التقارب مع الدول الأوروبية المشاركة في مبادرة الحزام والطريق، بجانب محاولة توزان العلاقات مع القوى الكبرى مثل فرنسا وألمانيا التي سترغب في التحوط الاستراتيجي من تبعات نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر عقدها في نوفمبر 2024.