قدم تقرير الخبراء الصادر عن صندوق النقد الدولي الصادر أبريل الماضي تشخيصًا واضحًا للوضع الاقتصادي في مصر والذي تأثر كثيرًا على مدار أكثر من عامين نتيجة للتبعات السلبية للحرب الروسية الأوكرانية وما تبعها من اضطرابات سلاسل الإمداد ثم تفاقم الوضع بفعل التوترات الناجمة عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
جاء التقرير مفندًا لأداء الاقتصاد المصري في ضوء التزامات الحكومة والأجهزة المعنية بمتطلبات المراجعتين الأولى والثانية بموجب التسهيل الائتماني الممتد الممنوح من صندوق النقد الدولي حتى عام ٢٠٢٦ بقيمة ٣ مليارات دولار وهي القيمة التي قرر الصندوق زيادتها، مؤخرًا بناءًا على طلب مصر، لتصبح ٨ مليارات دولار لدعم الاقتصاد لتزيد قيمة الشرائح من الرابعة وحتى الثامنة من ٣٤٧ مليون دولار لكل منها إلى حوالي ١.٣ مليار دولار والتي ستتسلمها مصر كل ستة أشهر بعد استيفاء متطلبات كل مراجعة على حدة.
وفقًا للتقرير، فإن مصر نجحت في الوفاء بسبعة متطلبات بموجب المراجعتين من أصل ١٥ متطلب وهو ما يوضح مدى تأثر الاقتصاد المصري بتبعات التوترات الجيوسياسية العالمية والإقليمية والتي أدت لتأخر إتمام المراجعتين منذ إقرار البرنامج في ديسمبر ٢٠٢٢.
عدّد التقرير الالتزامات التي قابلتها مصر والتي تضمنت:
** إلغاء الاشتراط المطلوب لاستخدام خطابات الاعتماد من قِبَل البنك المركزي بالنسبة لاستيراد السلع من الخارج، على الرغم من عدم تحقيق الغاية المقصودة من هذا الإلغاء في إزالة وسيلة لتقليص الطلب على الواردات.
** تم نشر سياسة ملكية الدولة الملكية الحكومية من قِبَل السلطات والتي ترسم خارطة واضحة لزيادة مشاركة القطاع الخاص المحلي والاجنبي في النشاط الاقتصادي المصري ليصبح قائدًا للتنمية في البلاد وخلق وظائف جديدة خاصة للشباب.
وفقًا لبيانات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري؛ فإن مساهمة القطاع الخاص نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي قد تخطت نسبة ٧١٪ على مدار الست سنوات المالية الماضية (من السنة المالية ٢٠١٧/٢٠١٨ حتى السنة المالية ٢٠٢٢/٢٠٢٣ التي سجلت فيها مساهمة القطاع الخاص ٧٤.٨٪.
هذه النسب تعكس مقدار ما يساهم به القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي المحسوب بناءًا على تكلفة عوامل الإنتاج وبالأسعار الجارية (الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الخاص بتكلفة عوامل الإنتاج وبالأسعار الجارية مقسومًا على الناتج المحلي الإجمالي بتكلفة عوامل الإنتاج وبالأسعار الجارية).
** تم تعديل بعض جوانب قانون المنافسة المتعلقة بالاندماجات والاستحواذ، ولكن لم تصدر اللائحة التنفيذية المتعلقة بتنفيذها ولم يوافق عليها مجلس الوزراء حتى الآن.
** تم توسيع عدد الأسر المستحقة للمساعدة الاجتماعية وهو ما عكسته بوضوح خطة الموازنة للعام المالي المقبل ٢٠٢٤/٢٠٢٥ التي تبدأ بداية يوليو المقبل.
** تم تحديد تدابير لسياسة الضرائب لميزانية السنة المالية الحالية ٢٠٢٣/٢٠٢٤، التي تنتهي بنهاية يونيو المقبل.
** امتنعت السلطات عن منح امتيازات للبنوك التجارية التي تخالف حدود المواقع الصافية للعملات الأجنبية، وامتنعت عن إدخال برامج الإقراض المدعومة من خلال البنك المركزي.
** نشرت السلطات تدقيقات الحسابات المالية للمؤسسة العامة للمراجعة في الوقت المناسب، ولكنها لم تُقدم متطلبًا ملزمًا لنشر التدقيقات المالية السنوية بانتظام.
** تم إعادة ضبط جميع المؤشرات الهيكلية المفقودة باستثناء مؤشر واحد بشأن أوقات الإفراج في الموانئ، وآخر بشأن تحويل سجلات الأراضي إلى سجل إلكتروني، حيث لم تعد هذه المسائل حاسمة بالنسبة لبرنامج الصندوق المدعوم، وإزالتها تتيح مساحة في ضمانات البرنامج الهيكلية لأولويات أكثر إلحاحًا.
أظهر التقرير أن تبعات التوترات الجيوسياسية خاصة في منطقة الشرق الأوسط سيلقي بظلاله على أداء الاقتصاد المصري خلال السنة المالية الحالية ٢٠٢٣/٢٠٢٤ قبل بدء التعافي التدريجي ابتداءً من السنة المالية المقبلة.
وتعكس التقديرات والتوقعات المتضمنة في التقرير هذه التطورات كما يلي:
** قدرت الحكومة فائض الميزانية الأولى عند ٢.٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية الحالية مستهدفة زيادته بـ١٪ السنة المالية المقبلة ليصل إلى ٣.٥٪ وهو ما يعكس التحسن المرتقب في أداء الموازنة مع تعظيم الإيرادات وخاصة الضريبية وهو ما عكسته مستهدفات العام المالي المقبل مع زيادته تدريجيًا إلى أن يصل إلى ٥٪ في السنة المالية ٢٠٢٦/٢٠٢٧ مع عدم الوضع في الاعتبار العائد من خطة الدولة للتخارج من بعض الأنشطة الاقتصادية.
** في المقابل، قدرت الحكومة عجز الموازنة خلال العام المالي الحالي عند أعلى معدل منذ السنة المالية ٢٠٢٠/٢٠٢١ عند ٨٢ مليار جنيه (٦.٩٪ من الناتج المحلي الإجمالي) والذي من المتوقع أن يقفز إلى ما يزيد عن ١.٢ تريليون جنيه (٧.٣٪ من الناتج المحلي الإجمالي) في السنة المالية المقبلة وهو ما يعكس مدى تأثر أداء الموازنة بتبعات التوترات الإقليمية.
** وهنا تضع الحكومة تعبئة الإيرادات العامة كأولوية في إطار برنامج صندوق النقد. ففي السنة المالية المقبلة تستهدف الحكومة نمو الإيرادات الضريبية بنسبة ٣٠٪ لتصل إلى ٢ مليار جنيه وزيادة الإجراءات غير الضريبية بنسبة ٦٠٪ لتصل إلى ٦٠٠ مليار جنيه مع الالتزام باستخدام ٥٠٪ من حصيلة التخارج وبيع الأصول لخفض الدين.
** تستهدف الحكومة النزول بمعدل الدين العام خلال السنة المالية المقبلة لأقل من ٨٣٪ من الناتج المحلي الإجمالي من مستوى يتخطى حاليًا ٩٢٪. وتعكس الأرقام مدى التزام الحكومة بالنزول بمعدل الدين العام علمًا بأن مستوى الدين وصل إلى ٩٨٪ في السنة المالية الماضية ٢٠٢٢/٢٠٢٣. والتزامًا باتفاق صندوق النقد؛ تستهدف مصر النزول بمعدل الدين إلى نحو ٨٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية السنة المالية ٢٠٢٦/٢٠٢٧ في يونيو ٢٠٢٧.
الحماية الاجتماعية
التزمت مصر في اتفاقها القائم مع صندوق النقد بالتوسع في التغطية الاجتماعية للتحوط ضد نتائج تطبيق الموجة الثانية من الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية وكذلك ضد ارتفاع معدلات التضخم التي تساهم فيها بشكل رئيسي التوترات في الممرات الملاحية وسلاسل الامداد فضلًا عن نقص المعروض من النقد الأجنبي التي ظلت تعاني منه مصر منذ مارس ٢٠٢٢، عندما اندلعت الحرب الأوكرانية، وحتى قبل توقيع اتفاق تنمية منطقة رأس الحكمة مع الإمارات العربية المتحدة الذي تم في فبراير الماضي.
وقد تضمنت خطة الموازنة للعام المالي ٢٠٢٤/٢٠٢٥ توجهات الحكومة لهذا الملف والخطوات التي بدأ تنفيذها بالفعل اعتبارًا من مارس ٢٠٢٤ على النحو التالي:
** رفع الحد الأدنى للأجور للأفراد بنسبة 50٪ ليصل إلى 6 آلاف جنيه شهريًا.
** زيادة أجور العاملين في القطاع العام والهيئات الاقتصادية، بمتوسط يتراوح بين 1000 إلى 1200 جنيه شهريًا حسب الدرجة الوظيفية.
** توفير مكافآت دورية للمخاطبين بقانون الخدمة المدنية بنسبة 10٪ من الراتب و15٪ من الراتب الأساسي لغير المخاطبين، بحد أدنى يصل إلى 900 جنيه للدرجة المنخفضة وبحد أقصى يصل إلى 1500 جنيه.
** إقرار حافز إضافي يبدأ من 500 جنيه للدرجة السادسة ويزيد للدرجات المتقدمة بتكلفة إجمالية تصل إلى 37.5 مليار جنيه
تخصيص 15 مليار جنيه لزيادات إضافية للأطباء والممرضين وأعضاء هيئة التدريس في الجامعات، بتكلفة إجمالية تصل إلى 8.1 مليارات جنيه.
** تخصيص 6 مليارات جنيه لتوظيف 120 ألف موظف جديد.
** إقرار زيادة 15٪ في المعاشات لـ 13 مليون مواطن، بتكلفة إجمالية تصل إلى 74 مليار جنيه.
** إقرار زيادة 15٪ في معاشات “تكافل وكرامة” بتكلفة 5.5 مليارات جنيه، لتصبح الزيادة في المعاشات الإجمالية 55٪ بحلول عام 2024/2025، مع تخصيص 41 مليار جنيه لمعاشات تكافل وكرامة في الموازنة العامة لعام 2024/2025.
** رفع حد الإعفاء الضريبي للعاملين في القطاع العام والحكومة بنسبة 33٪ من 45 ألف جنيه إلى 60 ألف جنيه.
اتفاق رأس الحكمة.. ضربة الاقتصاد الرابحة
ساهم إبرام اتفاق تنمية منطقة رأس الحكمة الساحلية بصفقة هي الأكبر في الاقتصاد المصري بقيمة ٣٥ مليار دولار في تغيير المشهد الاقتصادي للبلاد وساعدت الحكومة على وضع مستهدفات لم تكن في الإمكان قبل إتمام هذه الصفقة. علاوة على ذلك فإن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي صرح بأن مصر لديها العديد من الصفقات المشابهة التي سيتم الإعلان عنها في التوقين المناسب. ويبدو أن تنمية منطقة رأس جميلة بسيناء ستكون الصفقة المقبلة خاصة مع إعلان مجلس الوزراء عن اختيار مستشار عالمي للطرح خلال الربع الثالث من العام الحالي لوضع أفضل السيناريوهات لاستغلال المنطقة استثماريًا.
وفقًا لتقرير الصندوق؛ فإن وزارة المالية ستستخدم ما يعادل ١٢ مليار دولار من عائدات اتفاقية رأس الحكمة وما يرتبط بها لتحسين أداء الموازنة بنسبة ٤.٦٪ من الناتج المحلي الإجمالي والتزول بسقف الدين بالنسبة ذاتها وهو ما يمكن أن يعزز فائض الموازنة في العام المالي الحالي ليصل إلى ٧.١٪.
من المتوقع أن يجذب المشروع الذي يبدأ العمل به العام المقبل حوالي ١٥٠ مليار دولار كاستثمارات غير مباشرة وفقًا لما تم الإعلان عنه إبان التوقيع؛ كما تحتفظ مصر بحصة تبلغ ٣٥٪ من المشروع فضلًا عن ٢٤ مليار دولار تتسلمها مصر كتدفق نقدي بقيمة ٢٤ مليار دولار خلال العام المالي الجاري.
يتم بيع مبلغ إجمالي قدره ١٥ مليار دولار من صفقة رأس الحكمة من قبل الهيئة القومية للمدن الجديدة (NUCA) للبنك المركزي المصري ويتم تسجيله في الاحتياطيات الدولية، كما سيتم بيع ٦ مليارات دولار من قبل NUCA للنظام المصرفي وسيسهم ذلك في تسوية المستحقات المتأخرة.
وذكر التقرير أنه سيتم إدماج الآثار الاقتصادية المحتملة لتطوير منطقة رأس الحكمة بما في ذلك التأثير المحتمل على واردات البلاد والاستثمارات الأجنبية المباشرة الجديدة ونمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الإطار الاقتصادي العام بشكل كامل بمجرد توفر المزيد من الوضوح بشأن برنامج الاستثمار على المدى المتوسط.
تقليل الدين: على الرغم من أن نصف التمويل الجديد من صفقة رأس الحكمة يُخصص لتخفيض الدين، إلا أن انخفاض قيمة العملة في وقت الوحدة وزيادة سعر الفائدة يؤديان إلى زيادة مؤقتة في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2023/2024. من المتوقع أن تتبع نسبة الدين مسارًا هابطًا بعد السنة المالية 2024/2025، مع التخلص من الأصول (التي يفترض أن تكون أكبر من التوقعات في وقت الموافقة على البرنامج بنسبة 0.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي كل سنة مالية تبدأ من السنة المالية 2024/2025)، وفوائض الرصيد الأساسي المستدامة (التي تصل إلى 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول السنة المالية 2026/2027).
إلا أن التقرير لفت إلى أنه في الوقت الذي يعزز فيه الاتفاق آفاق النمو، إلا أنه يمكن أيضًا أن يزيد من ضغوط المدفوعات الخارجية في المستقبل إذا لم يتم إدارته بشكل صحيح.
الحرب على غزة.. الخطر الأكثر تعقيدًا
لم يغفل التقرير تأثير الحرب الإسرائيلية على غزة على الاقتصاد المصري وعلى أدائه في ظل برنامج الصندوق ومدى الوفاء بالالتزامات الواردة فيه والتي تهدف في النهاية إلى تصحيح المسار الاقتصادي للبلاد وتعافي مستويات النمو.
أجمل التقرير هذه التأثير بالقول إنه على الرغم من أن التدفقات الجديدة للاستثمارات الكبيرة قد ساعدت في تخفيف الضغوط المالية على المدى القريب إلا أن الصراع في المنطقة يؤثر سلبًا على قطاع السياحة في البلاد وقد يؤثر على الاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ مما يزيد من ضغوط المدفوعات الخارجية.
وأضاف أن التوترات المصاحبة في البحر الأحمر تساهم في تقليل إيرادات قناة السويس، التي تعد مصدرًا مهمًا لتدفقات الصرف الأجنبي والإيرادات المالية العامة للبلاد.
يساهم تقاعس السياسات أيضًا في تفاقم التوازنات الاقتصادية. ويخفف الاتفاق الاستثماري الجديد لتطوير منطقة رأس الحكمة من الضغوط الخارجية الحالية، وعلى الرغم من أن تطوير المنطقة الفعلي يمكن أن يعزز آفاق النمو خارج السيناريو المفترض، إلا أنه يمكن أيضًا أن يزيد من ضغوط المدفوعات الخارجية في المستقبل إذا لم يتم إدارته بشكل صحيح.
في ضوء هذه القراءة يمكن إجمال الخطوات التي تضمن الوفاء بالتزامات الصندوق مع استدامة الأداء الاقتصادي الفعال كما يلي:
- الإدارة المثلى لتدفقات النقد الأجنبي الواردة للبلاد والتي تصل حتى الآن لنحو ٥٧ مليار دولار.
- توجيه جزء لا بأس به من هذه التدفقات لدعم النشاط الصناعي والزراعي.
- منح تسهيلات ضريبية للقطاعين الزراعي والصناعي بهدف زيادة نسبة مشاركتهم في النشاط الاقتصادي للبلاد.
- العمل على ترويض التضخم بعيدًا عن تشديد السياسة النقدية؛ حيث إن التشديد يعني زيادة أسعار الفائدة وهو ما يعني زيادة في المصروفات وتكاليف التشغيل والاقتراض بالنسبة للقطاع الصناعي والاستثمارات.
- يمكن في ذلك إحكام الرقابة على السوق المحلي؛ مما يمنع الاحتكار ويساعد على استقرار الأسعار وتوافر السلع.
- إشراك الخبراء وأصحاب الاختصاص الفعليين في اتخاذ القرار خاصة فيما يتعلق بتعديل التشريعات أو إقرار تشريعات جديدة واتخاذ القرارات الاقتصادية الحيوية.
- عقد المزيد من الصفقات على غرار صفقة رأس الحكمة والتي تعمل على استدامة التدفق النقدي الأجنبي مع تقليل مستويات الدين في آن واحد.