هل من الممكن أن تعتمد الحكومة والبنك المركزي المصري وسائل أخرى بخلاف زيادة أسعار الفائدة لكبح التضخم المتسارع منذ ما يزيد على العامين؟ وهل مصر بحاجة فعلًا لتشديد السياسة النقدية من خلال رفع أسعار الفائدة الأساسية لكبح التضخم الذي هو بالأساس نتاج عوامل خارجية في المقام الأول؟
التضخم هو ارتفاع في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات، ويعد الرقم القياسي لأسعار المستهلكين (CPI)، هو المؤشر الأكثر شيوعًا واستخدامًا، حيث يتتبع مستوى متوسط أسعار السلع والخدمات التي تستهلكها الأسرة، وبذلك فإن معدل تغير الرقم القياسي لأسعار المستهلكين في المتوسط وبمرور الوقت يمثل التضخم. ويتم قياس التضخم على أنه معدل النمو السنوي أو الشهري للرقم القياسي لأسعار المستهلكين. ووفق القياسات العالمية فإن معدل التضخم الطبيعي لأي دولة هو ٢٪ وتخطي هذا المعدل يربك أصحاب الأعمال في تصميم خطط الإنفاق وكذلك الأشخاص العاديين فيما يتعلق بارتباك أسعار السلع.
رحلة التضخم في مصر
تعد زيادة أسعار الفائدة إحدى أهم أدوات احتواء التضخم؛ حيث من شأن ذلك التحكم في السيولة النقدية المحلية والحد من الاقتراض من الجهاز المصرفي.
منذ مارس ٢٠٢٢ تسارع التضخم في مصر إلى مستويات قياسية تأثرًا بتبعات الحرب الروسية الأوكرانية؛ خاصة اضطراب سلاسل الإمداد، فضلًا عن خروج ما يزيد عن ٢٢ مليار دولار من استثمارات أدوات الدين (المال الساخن). احتفظ التضخم في مصر برقم ثنائي للتضخم (double-digits rate) بعد أن ظل لسنوات رقمًا أحاديًا (single-digit rate).
في فبراير ٢٠٢٢، قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، سجل التضخم العام للبلاد مستوى ٨.٨٪؛ فيما سجل التضخم الأساسي -المشتق من التضخم العام مع استبعاد أسعار بعض السلع الأكثر تقلبًا من حيث السعر (الخضراوات والفواكه تمثل ٨.٨٪ من السلة السلعية للمستهلكين) وأسعار السلع المحددة إداريًا (والتي تمثل حوالي ١٩.٥٪ من السلة السلعية للمستهلكين)- ٧.٢٪.
وفي مارس ٢٠٢٢ بدأ التضخم رحلة صعوده مسجلًا ١٠.٤٪ لمعدل التضخم العام و١٠٪ للأساسي. ووصل المعدل العام ذروته في سبتمبر ٢٠٢٣ مسجلًا ٣٨٪ فيما بلغ معدل التضخم الأساسي ذروته في يونيو ٢٠٢٣ مسجلًا ٤١٪. ورغم انخفاض التضخم مؤخرًا بشكل طفيف لشهرين متتابعين؛ يظل معدله فوق ٣٢٪ وهو ما قد يدعمه تبعات العدوان الإسرائيلي على غزة؛ خاصة اضطرابات البحر الأحمر والتي أعلن صندوق النقد الدولي مؤخرًا أنها حرمت مصر من ٧٥٪ من عائداتها الدولارية.
تطور أسعار الفائدة
تحقيق استقرار الأسعار في السوق المحلي هو أحد الأهداف الأساسية للبنك المركزي المصري حسب اختصاصاته في إطار السياسة الاقتصادية العامة للدولة، وفقًا لقانون البنك المركزي رقم 194 لسنة 2020. لتحقيق ذلك الهدف، يقوم البنك المركزي المصري حاليًا بتحويل إطار سياسته النقدية إلى نظام مرن لاستهداف التضخم حيث تعمل توقعات التضخم كهدف وسيط.
وكإحدى أدوات كبح التضخم؛ قام البنك المركزي في إطار تشديد السياسة النقدية برفع أسعار الفائدة الأساسية بإجمالي ١٩٪ ما تمثل في ١٩٠٠ نقطة أساس مع توقعات بارتفاعات أخرى للوصول إلى مستهدف البنك المركزي للتضخم المحدد عند متوسط ٧٪ (±٢٪) خلال الربع الرابع من ٢٠٢٤ نزولًا إلى متوسط ٥٪ (±٢٪) خلال الربع الرابع من ٢٠٢٦، وهي المستهدفات التي تأتي متسقة مع تعهدات مصر لصندوق النقد الدولي في احتواء التضخم الذي ساهم في صعوده أيضًا سياسة سعر الصرف المرن الذي تنتهجه مصر بموجب اتفاق الصندوق والذي هوى بقيمة الجنيه بأكثر من ٧٠٪ منذ تطبيق هذه السياسة في مارس ٢٠٢٢.
رغم تطبيق سياسة التشديد النقدي لـ٢٧ شهرًا حتى الآن مع طرح شهادات ادخارية بعوائد غير مسبوقة؛ فان السيولة النقدية المتداولة خارج الجهاز المصرفي لا تزال مرتفعة. وفق بيانات البنك المركزي؛ فإن حجم السيولة ارتفع بقيمة ٤٩.٦ مليار جنيه ليسجل ١.١ تريليون جنيه بالربع الأول من العام الجاري مقارنة بـ١ تريليون سجلت بنهاية ديسمبر ٢٠٢٣.
وبمقارنة العام ٢٠٢٢ بالعام الماضي؛ تكشف البيانات أن حجم النقد المتداول خارج النظام المصرفي زاد بقيمة ٢٣٧.٨ مليار جنيه مسجلًا تريليون جنيه مقابل ٨٣١ مليار جنيه في ٢٠٢٢.
وفي أعقاب إعلانه زيادة قيمة القرض الممنوح لمصر في إطار التسهيل الائتماني الممتد من ٣ مليارات جنيه إلى ٨ مليارات جنيه حتى عام ٢٠٢٦؛ قال الصندوق إن محاربة التضخم في مصر هو أولوية للحكومة والبنك المركزي بموجب الاتفاق خاصة بعد تعهد مصر باتباع سعر صرف مرن سيؤدي إلى مزيد من الانخفاض لقيمة الجنيه أمام العملات الأخرى وخاصة الدولار؛ مما يعزز التضخم المرتفع في البلاد.
اعتمد البنك المركزي عددًا من السياسات التشديدية في سعيه لكبح التضخم في إطار السياسات التي تعهدت بها مصر لصندوق النقد الدولي والتي تضمنت توحيد سعر الصرف ذلك بالإضافة إلى زيادة نسبة متطلبات الاحتياطي النقدي في سبتمبر ٢٠٢٢ من ١٤٪ إلى ١٨٪ لتكملة موقف تشديد السياسة النقدية، كما تم تعزيز هذه السياسة من خلال وقف برامج الإقراض المدعومة (مبادرات البنك المركزي) وزيادة حجم استيعاب السيولة.
توقعات الصندوق للتضخم في مصر
يضع صندوق النقد الدولي خطة لتصحيح مسار مصر الاقتصادي ومؤشرات الاقتصاد الكلي حتى عام ٢٠٢٦ في ظل احتدام التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر نتيجة للحرب الدائرة في قطاع غزة.
عزا تقرير خبراء الصندوق الصادر مع إتمام المراجعتين الأول والثانية للتسهيل الائتماني الممنوح لمصر بقيمة ٨ مليارات دولار؛ فإن معدلات التضخم السنوي لعام ٢٠٢٣ في الأساس إلى المواد الغذائية بدلاً من المواد غير الغذائية؛ نظرًا لديناميات تضخم الأغذية القوية وارتفاع أسعار الأغذية الأساسية خاصة في الربع الثالث من عام ٢٠٢٣ الذي كان فيه تأثير الأغذية القابلة للتقلب أقوى من تأثير الأغذية الأساسية بسبب ظروف الطقس السيئة، ومع ذلك، تلاشى تأثيره في الربع الرابع من عام ٢٠٢٣ وفقًا لأنماطه الموسمية؛ موضحًا أنه عادةً ما يكون للأغذية القابلة للتقلب تأثير عابر على التضخم في مصر.
وتوقع التقرير أن تستجيب معدلات التضخم في البلاد على المدى القصير بتأثير تراجع سعر الصرف وارتفاع الأسعار المنظمة المتوقعة من جهة، وزيادة توافر المنتجات في السوق من جهة أخرى؛ متوقعًا حدوث انخفاض كبير في معدل التضخم السنوي في عام ٢٠٢٥؛ نظرًا لتأثيرات التشديد المستمر شرط الحفاظ على سياسة نقدية مقيدة بدرجة كافية. وفي ظل عدم وجود صدمات خارجية غير متوقعة، يتوقع حدوث تخفيف تدريجي لمعدل التضخم السنوي في المدى المتوسط.
لكن التقرير أشار إلى أنه في حال تصاعد التوترات الجيوسياسية الحالية سوف ترتفع أسعار السلع العالمية وتحدث تأثيرات سلبية على الخدمات، وهو ما قد يؤثر في جهود ضبط الأوضع المالية العالمية التي قد تكون أكبر من المتوقع، والتي قد تستمر لفترة أطول.
في ضوء ذلك؛ توقع الصندوق أن تنحرف معدلات التضخم السنوي عن الهدف المعلن المقدر بنسبة ٧٪ (±٢٪) في المتوسط في الربع الرابع من عام 2024. وهنا تجدر الإشارة إلى أن بيان لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي الأخير الصادر في مارس أكد أنه سيعيد تقديرات التضخم في الوقت المناسب.
“ستضمن لجنة السياسة النقدية أن السياسة النقدية ستكون على مستويات مقيدة بدرجة كافية لاستقرار توقعات التضخم وجعل التضخم في مسار هابط. بالإضافة إلى ذلك، يقوم البنك المركزي بالتنسيق مع الحكومة للسيطرة على التضخم من خلال وضع حلول لعقبات سلسلة التوريد المحلية وزيادة توافر المواد الأساسية في السوق. يراقب البنك المركزي جميع التطورات وهو مستعد لاتخاذ إجراءات إضافية في حال استمرار الضغوط التضخمية. يؤكد البنك المركزي التزامه الثابت بالاستفادة من جميع الأدوات المتاحة بطريقة استباقية لتحقيق هدفه في استقرار الأسعار على المدى المتوسط”، وفقًا للتقرير.
المتابع لأحاديث الصناع والمستثمرين في مصر مؤخرًا؛ يجد أن زيادة أسعار الفائدة تشكل عبئًا كبيرًا على أصحاب الأعمال ما قد ينعكس سلبًا على معدلات نمو الناتج الحقيقي للبلاد؛ حيث إن ارتفاع أسعار الفائدة يشكل زيادة في الأعباء المالية على أصحاب الأعمال، ما قد يحجم من إقبالهم على الاستدانة من البنوك وكذلك الاستغناء عن الأيدي العاملة المتاحة؛ مما يعيق مساهمتهم في الناتج المحلي الإجمالي. كما أن أسعار الفائدة المرتفعة قد تؤثر على أداء سوق المال في مصر -مرآة مصر الحالية لوضع الاستثمار في السوق المحلي مع ضعف الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث يلجأ المضاربون للشهادات والودائع لعائدها المرتفع.
وسائل أخرى
السياسة المصممة من قبل صندوق النقد الدولي ترسم خارطة طريق لاحتواء التضخم على صعيد السياسة النقدية والمالية على حد سواء؛ وهي السياسة التي تعكف الحكومة حاليًا على تنفيذها مع اقتراب موعد المراجعة الثالثة قبل نهاية يونيو المقبل. إلا أن هناك عددًا من الإجراءات المقترحة هنا بعيدًا عن زيادة أسعار الفائدة تجنبًا للتأثير سلبًا على معدلات النمو الاقتصادي.
** أحكام الرقابة على السوق المحلي خاصة فيما يتعلق بأسعار السلع لمنع الاحتكار والمضاربة على الأسعار. تعمل الحكومة حاليًا في هذه الاتجاه والذي انعكس على انخفاض أسعار بعض السلع الأساسية؛ إلا أن تحرير سعر الصرف هبط بالقدرة الشرائية للمواطن التي لا تزال لا تستطيع مجاراة الأسعار مع انخفاضها.
** إطلاق حملات تشجع المواطن العادي على الاستثمار في البورصة كإحدى أدوات التحوط ضد التضخم التي ستنعكس في النهاية على الأداء الإيجابي للبورصة وكذلك سحب السيولة الموجودة بالسوق.
** تخفيض سعر الدولار الجمركي للمستوردين لمدة استثنائية؛ مما ينعكس إيجابًا على السعر النهائي للمستهلك المحلي.
** مساندة الصناع بمبادرات استثنائية تشجعهم على تصنيع البدائل للسلع المستوردة بجودة مقبولة لتقليل فاتورة الاستيراد والتحكم أكثر بالأسعار.
** إعادة النظر في سياسة الاستدانة واستبدالها بجذب استثمارات أجنبية مباشرة خاصة مع التنوع الاقتصادي الذي تتمتع به مصر الآن.
** ترشيد استخدام الموارد الدولارية للحفاظ على استدامتها خاصة مع تأثر الممر الملاحي لقناة السويس –أحد أهم مصادر الدخل الأجنبي للبلاد- بالتصعيد الإقليمي الدائر.
** العمل بجدية على حل مشكلات المصانع المتعثرة ومساندتها لتصبح قوة فاعلة في الاقتصاد المصري وتوفير السلع؛ وبالتالي انخفاض أسعار منتجاتها؛ مما ينعكس إيجابًا على التضخم.
** التوسع في ترشيد إنفاق الأجهزة الحكومية كإحدى أهم أدوات تشديد السياسة المالية التي تنعكس إيجابًا على مؤشرات التضخم في النهاية.