دخل العدوان الهمجى الإسرائيلى على قطاع غزة الشهر الثامن، المؤشرات التى توحى بانتصار عسكرى كما توهمه نيتانياهو ونخبة الحرب لم تعد موثوقة، فقتل المدنيين وبعض المسلحين لفصائل المقاومة لم يؤد إلى النصر الذى بشر به رموز اليمين المتطرف، الساعى إلى حرب بلا توقف، وقتل دون رحمة، وتدمير بلا رادع، لعل ذلك يشفى غليل الانتقال المتغلغل فى الجينات الإسرائيلية.
تعريف الانتصار والهزيمة فى حالة قطاع غزة بات إشكالية سلوكية وسياسية وعسكرية كبرى. فالجيش النظامى الأكثر تسليحا وعتادا وعددا لا يستطيع أن يهزم بضعة آلاف من المقاومين أصحاب الأرض ذوى التسليح المحدود، ولكنهم يؤمنون بقوة بالانتصار وتحرير الأرض أيا كان حجم الدمار وعدد الشهداء. فكلما دمر جيش الاحتلال منطقة أو بلدة أو حيا او مستشفى ودفع أهلها الى النزوح خارجها ترهيبا وتجويعا، وقتل من قتل وأصاب من أصاب، ويعتقد أنه أنجز مهمته بنجاح، ويتركها مستشعرا بالانتصار، فإذا بالمقاومين يعودون ويسيطرون ويطلقون أسلحتهم وصواريخهم على أهداف العدو. فيضطر الجيش المُتباهى بفساد أخلاقه والفاقد لقدرة الردع، للعودة مرة أخرى للمواقع نفسها لعله يحقق مزيدا من التدمير والقتل بلا هدف أو نهاية.
إنها دائرة جهنمية وقع فيها جيش الاحتلال بفعل قصور المستوى السياسى المؤمن بالحرب الأبدية والفاقد ثقته فى قدرة دولته المصطنعة على البقاء، عن إدراك قدرة الشعب الفلسطينى على الصمود، يصاحبها قدرة المقاومين على إبداع السيطرة على الأرض وتكبيد العدو المزيد والمزيد من الخسائر البشرية والمادية، والأهم إثبات فشل الحملة العدوانية فى تحقيق ما رسم لها من أهداف وأوهام يستحيل تحقيقها، كتهجير الفلسطينيين والسيطرة على القطاع، وتحرير الرهائن، والقضاء التام على فصائل المقاومة.
ما سبق من رصد لما يجرى فى غزة، ومؤشرات الهزيمة والفشل، هى جزء من الجدل الدائر بصخب شديد فى المجتمع الإسرائيلى المأزوم، والباحث عن حل يحفظ ماء الوجه، ويسهم فى تحرير بعض الرهائن، ويتحرر من سطوة اليمين المتطرف، هنا يبرز الجدل حول ماذا بعد الحرب والقتال؟ وأين الحل السياسى الذى يجب أن يلى أى عمل عسكرى، ومن سيحكم القطاع بعد أن ينهى جيش الاحتلال مهمته الانتقامية؟
كلها أسئلة رئيسية وجوهرية، تتوزع الإجابات عنها بين مساريْن رئيسييْن؛ مسار تجاهل الحل السياسى والتمسك بالأهداف المعلنة والسعى نحو نصر مستحيل، ومسار يعتقد أن غياب الحل السياسى يمثل كارثة كبرى لإسرائيل ولجيشها ولسمعتها البالية.
الرافضون لمجرد التفكير فى الحل السياسى لما بعد القتال هم نيتانياهو ورفاقه المتطرفون، يروجون لحل عسكرى مستدام لقطاع غزة، واحتلال واستيطان، يقدمون مبررات واهية تعكس أيديولوجيتهم العدوانية تجاه الفلسطينيين، يتصورون أن بالإمكان القضاء على فصائل المقاومة وترسيخ الحكم العسكرى المباشر، يتوهمون أن الشعب الفلسطينى سوف يقبل الأمر طواعية، وقد يتطوع البعض للتعاون مع الحكم العسكرى فيضفى مشروعية على هكذا تصور مريض. الفكرة المركزية لدى هؤلاء ان إنهاء الحرب وانسحاب الجيش سيؤدى إلى عودة حماس مرة أخرى، هكذا يردد نيتانياهو مرارا وتكرارا، فى تأكيد، غير مباشر، فشل حملته العدوانية. كما أن استدعاء السلطة الفلسطينية لتمارس مسئولية الحكم على القطاع مرفوضة لأنها تمثل قيداً على أوهام الاحتلال والاستيطان لغزة.
لكن تكلفة الاحتلال والحكم العسكرى المباشر ليست أمرا هينا، إذ ستتكلف ما يقرب من ستة مليارات دولار سنويا، وفق تقدير أجهزة أمنية تابعة لجيش الاحتلال، ويتطلب نشر خمس فرق عسكرية فى القطاع، الجزء الأكبر منهم سيأتون من الفرق المنتشرة فى الشمال، ما يعنى الانكشاف أمام حزب الله اللبنانى، فضلا عن توظيف 400 فرد للقيام بمهام ذات طابع مدنى تحت مظلة الهيئة المدنية للاحتلال. هذه التكاليف لا تتضمن أى شىء عن إعادة الإعمار وبناء بنية أساسية كالمستشفيات والمدارس والصرف الصحى والكهرباء، وبالتالى سيكون الحكم العسكرى مزروعا فى بيئة تزداد تدهورا بيئيا وانسانيا، ولا يعرف كيف ستتم السيطرة عليها، لاسيما وأن مواجهة المقاومين لن تتوقف أبدا، وكما تسيل دماء الفلسطينيين سوف تسيل دماء جنود الاحتلال بلا توقف.
هذه الاعتبارات وغيرها تفسر موقف وزير الحرب يواف جالانت، وكبار قيادات الجيش الرافض تماما مبدأ الحكم العسكرى لغزة، فالرجل أكثر دراية بحجم الأهوال التى تواجه وستواجه جنوده المرعوبين، وأكثر دراية بأن الحكم العسكرى سيعنى المزيد من فقدان الردع، والذى يمثل مبدأ مركزيا فى العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وظهر أنه بلا أنياب، كما يدرك أيضا أن وصفة الحكم العسكرى تعنى حرب استنزاف بلا أفق لجيشه المحبط. يطالب الرجل بأن تكون هناك رؤية لحل سياسى تمنع عودة حماس أو انتشار الفوضى، ويفضل وجود رابط ما بين الذين سيُترك لهم حكم القطاع، وبين السلطة الوطنية، مع انسحاب لا يمنع القيام بعمليات مستقبلية إن اقتضت الضرورة تحت مبرر أن يكون الأمن مسئولية الاحتلال، والحكم مسئولية فلسطينية، وبذلك تتحرر إسرائيل من تكاليف مادية ومعنوية لا يمكن تحملها، متفقا فى ذلك مع تحذيرات أمريكية بلا فاعلية.
وتأتى تحذيرات بينى جانتس شريك حكومة الحرب والقتل بالانسحاب من تلك الحكومة، والدعوة إلى انتخابات مبكرة، إن لم تصل الحكومة إلى تصور سياسى يستثمر ما يراه إنجازات الجيش فى غزة ويؤدى إلى إطلاق الرهائن قبل الثامن من يونيو المقبل، ويستبعد ورطة الحكم العسكرى فى غزة، ليزيد من ورطة نيتانياهو الشخصية ودعاة الحكم العسكرى والاحتلال. وسواء وافق نيتانياهو وقبل صيغة هدنة ما، أو استمر فى مناوراته المشهودة للاستمرار فى حرب بلا أفق، سيظل مفهوم الانتصار الكاسح مستحيلا، وسيظل الفشل يلاحق حكومة الحرب والخراب إلى ما لا نهاية.